الفجوة العمرية بين الآباء والأبناء.. بين الإيجابية والسلبية

فارق السن الكبير بين الوالدين والأبناء، يضع الآباء، في كثير من الأحيان في خانة «الجد»، ناهيك عن فكرة الصداقة بين الأبناء والآباء، التي يشوبها الكثير من القلق، وتبدو غير واقعية لاتساع الهوة في السن بين
فارق السن الكبير بين الوالدين والأبناء، يضع الآباء، في كثير من الأحيان في خانة «الجد»، ناهيك عن فكرة الصداقة بين الأبناء والآباء، التي يشوبها الكثير من القلق، وتبدو غير واقعية لاتساع الهوة في السن بين

أشياء كثيرة تسرق العمر، ومن أشد التجارب الإنسانية إيلاما تجربة تأخر الإنجاب. تتعدد الأسباب المؤدية لهذه التجربة، ما بين عضوية وفسيولوجية، لكن أكثرها إيلاما الأسباب الاختيارية، أو الإرادية. الفارق الزمني الشاسع بين الأبناء والآباء، يخلق أحيانا نوعا من التحسر عندما ينظر الأب والأم إلى طفل أنجباه بعد تخطيهما عتبة الأربعين.


فيتمنيان لو تعود دورة الزمن قليلا للوراء، ليكبر هذا الطفل في كنفهما وهما لا يزالان يتمتعان بفتوة الشباب وحيويته. فمهما كانت الأسباب إرادية أو فسيولوجية لن تستطيع الأيام ردم هذه الفجوة، وربما أيضا تنقلب هذه الحسرة لدى البعض إلى إحساس دائم بالأنانية والذنب، وتغليب المنافع والمصالح الشخصية الضيقة على حلم الأمومة والأبوة، أرقى مراتب الفعل الإنساني.

عمرو إبراهيم (55) عاما، مسؤول الأرشيف بإحدى الصحف القاهرية الخاصة، لا يخجل من ذكر هذه الحقيقة، بحسرة: «الأسبوع الماضي أخذت ابني الوحيد البالغ من العمر 5 سنوات إلى النادي ليمرح ويلعب، وفي لحظة تغيب عن ناظري، وبعد بضع دقائق فوجئت به بصحبة سيدة عجوز، تفتش عني، وقبل أن اشكرها على صنيعها بادرتني بالسؤال: أنت جده، خد بالك منه، النادي اليوم زحمة، كان ممكن يسقط في حمام السباحة».

ويروي عمرو أن هذا الموقف كثيرا ما يتكرر معه، ويمر بشكل عابر، لكن نظرة السيدة العجوز التي ربما تكبرني ببضع سنوات فقط، جعلتني أمقت فكرة تأخير الإنجاب، التي ناضلت في إقناع زوجتي بها لسنوات عديدة بسبب وطأة الظروف الاجتماعية التي لا تنتهي، حتى سرقنا العمر. لكم هو قاس هذا الشعور أن تكون أبا في عباءة جد».

صورة أخرى للمشهد ترويها محاسن علي، (43 عاماً)، وهي دكتورة بإحدى الجامعات المصرية. تقول إنها، تحت وطأة الطموح العلمي، قررت تأجيل مسألة الزواج والأمومة، وانكبت على مشروعها في أن تصبح أستاذة جامعية مرموقة.

حصلت على شهادة الماجستير من جامعة مصرية، وبعدها سافرت في منحة لإحدى الدول الأوروبية لنيل شهادة الدكتوراه. وفعلا عادت بعد سنوات محققة حلمها، وتبوأت منصبها كأستاذة جامعية، لكنها وعلى مشارف الأربعين تذكرت حلمها المؤجل في أسرة وزوج طيب، وطفل وطفلة يضيفان على حياتها العلمية الصارمة بعضا من البهجة والفرح بالحياة.

تعلق محاسن بنبرة أسى: «فعلا سرقتني الحياة، كسبت في جانب، وخسرت في جانب آخر، لكن الأخير لا يمكن تعويضه فهو عمري المحسوب بالدقائق والثواني والأيام .. حاولت أن أعوِّض ما فاتني، تزوجت بشكل تقليدي وعمري تجاوز الأربعين، زوجي رجل طيب، ويكبرني ببضع سنوات، وقد خاض تجربتي العلمية نفسها، لكننا الآن نواجه مشاكل في الإنجاب، فحملي لا يثبت، ولا يستمر طويلا، وأتعرض للإجهاض بعد الشهر الثالث.

وأنا الآن حامل، وأخضع لعناية طبية مكثفة.. كل ما أتمناه أن ينجح حملي، وأنعم بطفل يذكرني بأنني أنثي، أنني أم».

يخفف من عتمة هذا المشهد ومخاطر الإنجاب بعد سن الأربعين دراسة فنلندية، أجراها باحثون من جامعة تركو، أشارت إلى مفاجأة علمية، فقد أكدت الدراسة أن هناك علاقة بين الحمل المتأخر، وطول العمر والصحة الجيدة للمرأة. أي أن المرأة التي تنجب متأخرا، تتمتع بحياة أطول.

نتيجة تتحفظ عليها الدكتورة نادية نظير جريس، استشارية الطب النفسي، كثيرا، انطلاقا من قناعتها بأن تأثير الفارق العمري ما بين الآباء والأبناء، أمر مؤثر ولا يجب الاستهانة به.

فالتربية السليمة للطفل تحتاج إلى حد أدنى من الحيوية والنشاط، وهو ما يفتقر إليه، على الأرجح، أي والدين كبيرين في السن، ويؤدي بالتالي إلى التبعية وافتقاد العلاقة الأسرية بعضا من مقوماتها الأساسية.

ففارق السن الكبير بين الوالدين والأبناء، يضع الآباء، في كثير من الأحيان في خانة «الجد»، ناهيك عن فكرة الصداقة بين الأبناء والآباء، التي يشوبها الكثير من القلق، وتبدو غير واقعية لاتساع الهوة في السن بينهما.

وتفضل الدكتورة نادية تقديم الإنجاب على التفرغ للطموح المهني، لأن العكس قد تنطوي عليه مضاعفات لا تتعلق بإمكانية تقلص فرص الحمل والإنجاب لدى المرأة، بل أيضا ظهور مشاكل نفسية لدى الطفل الوحيد، الذي غالبا ما يكون ثمرة الإنجاب المتأخر.

تشرح الدكتورة نادية: «الطفل الوحيد ينشأ أنانيا بطبيعة الحال، ما لم ينتبه الأبوان، بسبب كثرة التدليل وتلبية كل طلباته الخاصة، من جهة، وبسبب عدم خبرته في فن المشاركة الحميمة ضمن جو أسري، من جهة أخرى.

وتلافي ذلك يكون من خلال زرع بوادر المشاركة في نفسية الطفل، وعدم الاستجابة لكل طلباته، حتى وإن توافرت إليها السبل، إلى جانب مشاركته في الألعاب الجماعية بدلا من الفردية، التي قد تزيد من انعزاليته.

وإذا كان الطب والعلم لا ينصحان بتأخير الإنجاب، إلا أن هذا لا يمنع بعض النساء من تجاهل كل المشاكل مدفوعات برغبتهن بالأمومة، مثل سوسن عبد العظيم، وهي مترجمة بإحدى دور النشر، التي تتساءل غاضبة من مجرد الاندهاش من رغبتها بالحمل بعد تخطي عتبة الأربعين: «لماذا تستكثرون علي أروع شعور بالعالم؟ لا أشعر باكتمال أنوثتي، ولا بكينونتي إلا مع الحمل».

وتؤكد أنها، رغم أن لديها طفلين، فهي تحلم بالمزيد أسوة بمشاهدات حفرت في ذاكرتها منذ الطفولة لنسوة يرضعن أطفالهن في قريتها وقد تعدين الأربعين، أو ربما الخمسين.

وتصعَّد سوسن نبرة دفاعها عن موقفها: «أنسيتم أميرة موناكو، والفنانة جوليا روبرتس، ومادونا، وشيري بلير -زوجة توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق- التي أنجبت طفلها الرابع بعد الخامسة والأربعين؟».

ولا شك أن الشريحة التي تنتمي إليها سوسن، تبرر موقفها بأن هناك تباينا كبيرا في تحديد مفهوم كبر السن. فبينما هي مسألة عمرية بحتة، بالنسبة للبعض، فهي أيضا نفسية بالنسبة للبعض الآخر، بمعنى أننا قد نرى شبابا بنفسيات هرمة، وشيوخا في الأوراق الرسمية، لأن قلوبهم وعقولهم لا تزال مفعمة بالحياة والنشاط. في كتابه «كيمياء الحب والمرح والمناعة».

يحاول الدكتور عبد الهادي مصباح حل هذه الإشكالية، بتأكيده أن ما يحدد شباب الجسم هو نوع الغذاء وقوة المناعة للفرد، بدءا من تجنب التدخين بأشكاله إلى اعتماد الطعام الغني بمضادات الأكسدة -كالخضر والفاكهة والشاي الأخضر- بما لها من قدرة على حماية الإنسان، ليس فقط من الأمراض المكتسبة والبيئية، لكن أيضا، من الأمراض الوراثية. حيث تمنع هذه المضادات الشوارد الحرة من الوصول إلى الجينات المسببة للمرض.

ومن ثم، ينصح الدكتور مصباح، الأبوين الكبيرين في العمر، بأن يأخذا في الاعتبار صحة خلاياهما. فالحيوان المنوي والبويضة، وما يتمتعان به من حيوية وشباب، هو الأساس لصحة المولود المنتظر. بالإضافة إلى المواظبة على ممارسة الرياضة التي تلعب دورا مهما في ذلك.