قصص وأسرار وما لا يقال.. الخوف من الأمومة والأزمات بعد الحمل

الخوف من الأمومة والأزمات بعد الحمل
الخوف من الأمومة والأزمات بعد الحمل

فى السينما والدراما تعرف الأم خبر حملها فيرقص قلبها فرحًا، تعاني من صعوبات الحمل الجسدية لكنها لا تخفي ابتسامتها شوقًا للصديق القادم، ويزداد وزنها كيلو جرامات كثيرة، ومع ذلك تحتفظ بأنوثتها ودلالها على زوجها خصوصًا وأنها تحمل في أحشائها "ولي العهد" أو "الأميرة القادمة".


وتأتي الولادة محملة بالكثير من المشاعر، بكاء ووجع ثم دموع فرحة للقاء المحبوب الصغير لأول مرة وبدء رحلتهم المليئة باللحظات السعيدة التي تشبه إعلانات المجمعات السكنية الفاخرة، حيث الأولاد يجرون في الحدائق والآباء يبتسمون خلفهم في فخر ومرح.  
هذه المشاهد تداعب خيال كل فتاة، فغريزة الأمومة بداخل كل واحدة منا، تزيد وتتعاظم أو تنقص وتقترب من الاختفاء، لكن تلك المثاليات ليست حقيقية ولا تقترب من الواقع.
نعم تفرح الأمهات بخبر حملهن ويغمرهن حب هذا الطفل وهو مجرد فكرة، لكن القلق يصيب معظمهن وتأكلهن الأسئلة عن مستقبله وعن حياتهن بعده.
الولادة ليست مجرد ألم مؤقت يزول بعد بضع ساعات، فالكثيرات من الأمهات يعانين لأسابيع من آلام ما بعد الولادة، والحياة مع رضيع يصرخ طوال الوقت تجعلهن يغرقن في الخوف من استمرارية هذه الحلقة المفرغة إلى ما لا نهاية.
يفقدن أبسط متع حياتهن، وحتى القدرة على النوم والاستحمام تنتزع منهن انتزاعًا. 
وما أن يشعرن بالقلق/ الغضب/ الخوف من ذلك حتى يقعن فريسة في يد الذنب لأنهن لسن أمهات حقيقيات وطاهرات ومحبات بالقدر الكافي، ويزداد هذا الشعور خصوصًا مع ضعف الدعم المقدم لها من قبل الزوج والأهل، والتأنيب المستمر إذا ما أبدت اعتراض أو حررت بعضًا من تلك الأفكار، لأن "كل الستات خلفوا وماعملوش كده" أو "احمدي ربنا على النعمة" أو "بطلي دلع بقى".
فالكتالوج يقول إن الأمومة عطاء دائم وإيثار مستمر لا يجب أن تشوبه شائبة بشرية تفكر في حاجتها إلى الاحتواء والدعم لأن ذلك ينتقص منها، وبالتالي تخجل الأمهات من أفكارهن عن حاجتهن للدعم، أو رغبتهن في الحصول على وقت لأنفسهن لأن ذلك يعد جريمة في حق الأمومة.
مثاليات الأمومة: 
"ماما بتقولي كلي علشان الأكل يوصله، مش مهم أكل لنفسي، وفي عز ما أنا تعبانة مش عايزة أسمع الكلام ده حتى لو بهزار" تقول حبيبة، 25 سنة، والتي تحكي عن قلقها المتزايد منذ ولادة طفلها وخوفها من أن يصيبه أي مكروه، من أن يبكي أو يتعب، وبجانب ذلك غضبها من مشاعر المحيطين والاهتمام المنصب على الطفل مع إهمال كل ما تمر به أو عدم فهمه من الأساس، بل وإنكاره عليها إذا ما عبرت عنه، "أنا بحبه هو ومالوش دعوة بالمعادلة دي، بس ده ماينفيش إن أنا بني آدمة وده اللي الناس كلها بينسوه".
مرت حبيبة بنوبات بكاء مستمرة بعد الولادة، وكانت لا تفكر إلا في ترك المنزل وأخذ طفلها معها والهرب من كل المحيطين بها، ولا تعزي ذلك لاكتئاب ما بعد الولادة، لأنها قد قرأت كثيرًا عن أعراضه ولم تشعر أنها تطابق شعورها، لكن كانت دائمًا تبحث عن التفهم بعيدًا عن المثاليات التي لا تفيد إلا في زيادة العبء والشعور بالذنب الذي يثقل كاهل الأم أكثر وأكثر. 
الكآبة النفاسية:
"بعد الولادة أول ما شوفت بنتي حبيتها أكتر من حياتي نفسها، بس برضه كان بيمر عليا أوقات ببقى حزينة وحاسة بالعجز وإني محبوسة وماكنتش ببقى فاهمة أنا ليه مش مبسوطة زي باقي الأمهات" تحكي هدير، 27 سنة، عن المشاعر التي مرت بها بعد الولادة وكيف تملكها الشعور بالذنب وأنها ليست كباقي الأمهات بسبب مشاعر الحزن والقلق التي اجتاحتها كثيرًا، ولم تجد أي مبررات لذلك خصوصًا مع الحكايات المتداولة من والدتها وقريباتها عن فرحتهن بعد الولادة وكونهن أمهات مثاليات كرسن حياتهن منذ اللحظات الأولى لأطفالهن.
ما لم تعرفه هدير أن شعورها ذلك طبيعي تمامًا، لكنه يختفي ويتشوش تحت نظرة الإيثار والتضحية المعروفة عن الأمومة والتي لا يجب الحديث عنها حتى لا يتعكر صفو المفهوم النظري. 
هذا الشعور بالكآبة يسمى الكآبة النفاسية أو (baby blues) وفيها تشعر الأم الجديدة بارتفاعات وانخفاضات عاطفية، فقد تشعر بالسعادة في دقيقة وتبكي في الدقيقة التالية، وهذا لا يعني أنها أم "سيئة" أو أنها لا تحب طفلها.
ويُعتقد أن هذه التقلبات المزاجية ناتجة عن التغيرات الهرمونية التي تحدث في جسم المرأة بعد الولادة. لأن مستويات هرمون الإستروجين والبروجستيرون اللازمة أثناء الحمل تنخفض فجأة، مما يسبب تغيرات في المزاج. 
بالإضافة إلى أشياء أخرى مثل التعب وعدم الحصول على قسط كافٍ من النوم، على سبيل المثال.. يمكن أن تزيد أيضًا من هذه المشاعر.
وتستمر هذه الكآبة النفاسية لبضعة أيام أو أسابيع فقط، وعادةً ما تتوقف من تلقاء نفسها دون علاج طبي، لكن على الجانب الآخر تستمر هذه المشاعر لدى أخريات وتأخذ منحنيات أصعب وأعنف، وهذا ما مرت به ريهام، 29 سنة، بعد ولادة طفلها الأول، فبدأت تنسحب من الاجتماعات العائلية خوفًا من مواجهة انتقادات الأقارب، وأصابها هوس السيطرة على وزنها ففقدت الكثير منه حتى أصبحت تجد صعوبة في أداء مهامها اليومية، وقد انتبهت أن الأمر أصبح خارجاً تمامًا عن السيطرة عندما كانت تحاول إيذاء نفسها لشعورها أنها أم سيئة ولا تستحق هذا الطفل البريء 
"كان بيجيلي أفكار انتحارية طول الوقت، وبعدها Panic attacks (نوبات هلع) على مسقبل ابني من غيري"، كما زاد عدم تفهم زوجها الأمر سوءًا، وكانت كلماته ولومه يجلدها طوال الوقت وكذلك شكواه لوالدتها ووالدته، وعندما عرضت فكرة اللجوء لطبيب نفسي وصل الاستنكار إلى ذروته لأنها "ليست أم طبيعية"، لكنها قررت خوض التجربة وتم تشخيصها باكتئاب ما بعد الولادة، وحصلت على علاج سلوكي وبعض الأدوية التي ساعدتها في تخطي هذه الفترة الصعبة بعد عدة أشهر. 
وبينما تمر حوالي 80% من الأمهات بالكآبة النفاسية، وتبدو بعض الأعراض متشابهة مع اكتئاب ما بعد الولادة، إلا أن حوالي 15% من الأمهات يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة وأعراضه تكون أكثر حدة من التقلبات المزاجية الحادة إلى الشعور باليأس والإرهاق وقد تجعل هذه المشاعر من الصعب على الأم رعاية طفلها أو نفسها.
ومن المرجح أن تبدأ الأعراض في غضون أسابيع قليلة من الولادة، وفي بعض الأحيان لا يظهر اكتئاب ما بعد الولادة إلا بعد شهور، وقد تتلاشى الأعراض لمدة يوم أو يومين ثم تعود وبدون علاج، وقد تستمر الأعراض في التفاقم، لذلك فإن اكتئاب ما بعد الولادة يحتاج تدخلاً من مختص نفسي.
محاولات المواكبة: 
حياة المرأة تختلف كليًا بعد تجربة الحمل والولادة، تتبدل الأولويات وتتغير التفضيلات بشكل يتواءم مع المرحلة الجديدة وهذا طبيعي وشيء محمود، لكن من غير الطبيعي أن يتم التقليل من محاولات المرأة في الحصول على بعض الخصوصية أو البحث عن نفسها بعد أن تكون أمًا، فهذا لا ينتقص منها شيئًا.
كما أن فرض إطار وقواعد حاكمة للأمومة تجعل من الأمهات أقرب للملائكة ولسن بشريات يحتجن للراحة والهدوء، وكأن جوهر الأمومة يعني التخلي عن الذات، والأم الحقيقية هي التي تفني نفسها تمامًا ولا يتم تعريفها إلا عن طريق أطفالها، وكأنها تنتقل من الوجود (قبل الحمل والولادة) إلى العدم (تكريس نفسها إلى الطفل) وإلا لن تكون أمًا بحق. 
"لما كنت (أبحث) على الإنترنت عن طرق علشان أحافظ على وزني أو علشان أولد بأقل طريقة مؤلمة، كنت بلاقي ماما بتتريق عليّ وتتهمني إني بدلع ومش مهتمة بصحة ابني وبفكر في نفسي وبس" تقول آية، 31 سنة، التي عانت كثيرًا من مقارنات والدتها، وشعرت بالذنب الذي دفعها لتحمل ألم الولادة بالشكل التقليدي وإلا لن تكون أمًا، كما أن زيادة وزنها تسببت في مشاكل صحية لها ولم يكن هناك مفر من اتباع نظام غذائي مع أخصائي تغذية، لكن ذلك لم يمنع استمرار هجوم وتأنيب الأم.
أما إسراء، 26 سنة، فكانت مشكلتها الأكبر تكمن في مجتمعات الأمهات على الإنترنت اللاتي كن يتكلمن دائمًا بأسلوب واثق ويقين لا يشوبه الشك ويقدمن النصائح بشكل افعلي ولا تفعلي، وكانت إسراء تعتقد أنهن ولدن أمهات بالفطرة، أما هي فلا.. وذلك لأنها دائمًا مقصرة في حق ابنها، وطاقتها تنفد بسرعة، وتجد صعوبة في تغيير الحفاضات والتعود على بكائه، بينما تجدهن يشاركن لحظات سعيدة وحتى شكواهن تكون من باب التندر وليست شكوى تنم عن غضب أو خوف لكن ذلك لا يصح.
وتكمل أن المشكلة اختلفت بعد شهرين من الولادة "لما لقيت نفسي لازم أنزل الشغل تاني علشان بحب مجالي ودرست كتير فيه، فجأة حسيت إني مش هعرف أعمل ده وماعرفتش وسيبت كل حاجة.
عن الأمومة وأشباحها: 
وفي "كيف تلتئم؟ عن الأمومة وأشباحها" كتبت إيمان مرسال تقول: "لا يرتبط الشعور بالذنب بالتقصير فقط، ولا بتمزق المرأة الحديثة بين العمل والأمومة، بل ينبثق أحيانًا من نموذج مثالي للأمومة حيث لا نهاية لما يمكن أن تقدمه الأم لطفلها من حب وحماية واستثمار في الوقت والتعليم... إلخ".
في هذا الكتاب تحاول إيمان مرسال تفكيك تجربة الأمومة وارتباطها بالبنوة، فتشرح علاقاتها بأمها التي لم تستمر بسبب الفقد، وعلاقتها بولديها على الجانب الآخر، وتحاول التحرر من كتالوج الأمومة المتوارث في العقل الجمعي البشري، مع التتبع الفلسفي لتلك التجربة الفريدة التي لا تتشكل إلا لحظة حدوثها. 
استخدمت (مرسال) الكتابة والتوثيق للتعبير عن مشاعرها كأم ومشاركتها مع أخريات، وخصوصًا أن ابنها الأصغر يعاني من بعض المشاكل النفسية التي وقفت هي أمامها عاجزة تمامًا وشعرت أنها لا تستحق أن تكون أمًا لأنها غير قادرة على التخفيف عنه..
قد لا يقدم الكتاب إجابات لكنه رحلة مختلفة في تعريفات الأمومة وسياقاتها عن المعتاد. 
مجموعات الدعم: 
لحسن الحظ الصورة ليست قاتمة تمامًا، فهناك أزواج داعمون ومتفهمون ويحاولون تثقيف أنفسهم من أجل تخفيف التجربة على الأم الجديدة، كما أن الحياة لم تعد كالسابق، ولم تعد الأمهات والجدات مصدر المعلومات الحصري، فهناك مجموعات دعم وتثقييف للأمهات الجدد، يتشاركن فيها تجاربهن ومشاعرهن ويتعلمن أكثر عن الصحة النفسية والجسدية والاهتمام بأنفسهن وألا يسحقن أمام التجربة، بل تمكنهن من الصمود أمام المتغيرات الصعبة التي يتسبب فيها الحمل.