طاهي أسباني : " العلوم الكيميائية + فن الطبخ = أطباق غريبة "
يقول الطاهي الإسباني فيران أدريا الحائز على ثلاثة نجوم من دليل ميشلن الشهير إن فن الطهو الجزيئيLa Gastronomie moleculaire سيكون هو مستقبل الطهو أو «مطبخ القرون المقبلة» ولذلك، علينا العمل منذ الآن على تطوير هذا النوع من المأكولات لكي يقال فيما بعد «إنه في القرن الواحد والعشرين كان يوجد مجموعة من الطهاة المبتكرين حول العالم، وهم الذين أسسوا هذا المطبخ وطوروه».
فيران أدريا Ferran Adria ومعه مجموعة من كبار الطهاة حول العالم مثل الفرنسي هيرفي ديس وتييري ماركس، بالفعل، يعملون منذ عدة سنوات على ما يمكن تسميته بالمطبخ العلمي، أو المطبخ الذي يعتمد في مواده الأساسية على مواد علمية كيميائية معقدة لإنتاج قائمة جديدة من الطعام تختلف جذريا عن مواد المطبخ التقليدي على الرغم من أنها تستخدمها، أو بمعنى أصح تستخدم نكهاتها الأساسية.
أما أول من بدأ في هذا النوع فهو نيكولاس كورتي Nicholas Curti (1908 – 1998) الفيزيائي الإنجليزي من الأصول الهنغارية الذي طور العديد من النظريات أثناء عمله في جامعة أوكسفورد.
وهو بذلك من أطلق اسم المطبخ الجزيئي على هذا النوع الجديد. كورتي كان من كبار العلماء الذين عملوا على مشروع القنبلة الذرية، قبل أن يهرب من ألمانيا ويلتحق بمعهد كلاريندون في أوكسفورد، ويبدأ مع زميله فرانز سايمون، العمل على المواد التي تصل درجة حرارتها إلى الصفر المطلق 273.15 تحت الصفر.
أما سبب انشغال هذا العالم بالطهو فيعود بحسب الموسوعة الفرنسية، إلى ولعه وتعطشه الشديد للمعرفة في فن الطبخ وفروعه المتعددة. أما هيرفي ديس الصيدلي الفرنسي الذي يعمل في المعهد الوطني للعلوم الزراعية الفرنسي، الذي انغمس في هذا النوع، فهو الشريك الفعلي لكورتي في ابتكار هذا المطبخ الجديد. و
هو أول من ابتكر طريقة جديدة في طهو البيض على درجة حرارة 67.5 مئوية تحت الصفر، كما أنه أول من استعمل النيتروجين السائل في تقنية التبريد السريع التي تعتبر من ركائز المطبخ الجزيئي.
أما وصف هذا المطبخ بهذه الكلمة (moleculaire) فقد ولدت في المؤتمر الأول الذي عقد في جزيرة صقلية المتوسطية في عام 1992، حيث بدأ منذ ذاك الوقت العمل على تطوير هذا المطبخ، بجهود عدد من كبار الطهاة الذين تركوا العمل في مطابخهم التقليدية وانشغلوا بهذا العالم الغرائبي، الذي أصبح له رواده وذواقته وطهاته.
مع ذلك ثمة نظريات علمية مستندة على دراسات قامت بها أوجين شوفرو ومعها عدد من العلماء المتخصصين بتاريخ المطابخ العالمية، تفيد بأن هذا النوع من الطبخ بدأ في عصر الفراعنة على جانبي نهر النيل في عهد الأسرة الثامنة عشرة 1550 ـ 1307 ق.م وهي الأسرة التي خرج منها الفرعون الشهير أمنحوتب الرابع المعروف باسم «إخناتون» زوج الملكة الشهيرة نفرتيتي. وتستند هذه الدراسة على الطريقة التي ابتكرت في ذلك الوقت في عملية (تخمير اللحم) التي كانت تخضع لمعايير كيميائية بدائية معقدة.
وتشير دراسات قام بها كورتي نفسه إلى أن التسمية «الطهو الجزيئي» تعود إلى ما يسمى علميا البيولوجيا الجزيئية، التي أطلق عليها هذا الاسم في عام 1934 العالم وارين ويفر الذي كان يشغل مدير المعهد العالي للصحة في بريطانيا.
على الرغم من انتشاره في أكثر المطاعم شهرة في العالم، وتحضيره على يد كبار الطهاة، اليوم، الذين يتجهون فعليا، إلى التخصص بهذا النوع من فن الطهو، فإن هذا النوع يلقى معارضة من البعض الذين يرون أنه قد يسبب، بسبب استخدامه للبيض في معظم الوصفات، بداء السلمونيلا الذي يصيب حوالي 40 % من الذين يتناولون البيض المصاب، وذلك في أوروبا وحدها.
مع ذلك فإن فن الطبخ الجزيئي يأخذ حظه بالمزيد من الانتشار، مع خاصية صعوبة شرح عملية تحضير طبق معين بهذه الطريقة لما تستلزمه من تفنيد وشرح مسهب للعمليات الكيميائية، التي، وإن كانت لا تتدخل بشكل مباشر في الطعم، إلا أنها تصنعه. فهذا الفن يعتمد بشكل مباشر على النيتروجين السائل.
وكذلك على مواد كيميائية أخرى، لا تتدخل مباشرة في الطعم. فبلومنتال مثلا أوجد طريقة لطهو اللحم على درجة حرارة تبلغ 50 درجة مئوية لمدة أربع وعشرين ساعة ما يعني أن اللحم يتم طهوه بشكل بطيء جدا، بحيث لا تضرر أو تقتل كل تركيباته الكيميائية الداخلية بسبب درجات الحرارة العالية، التي، وإن كانت تؤمن طهوا سريعا للمأكولات، فإنها والحال هذه، تخسر هذه المأكولات، خاصة اللحم، العديد من خاصياته الغذائية.
لكن معارضي هذا المطبخ الجديد، يتحججون بأنه، أيضا، ليس في متناول العامة من الناس.
إذ يصعب فعليا، الحصول على مواد مثل النيتروجين السائل والأكسجين السائل وغيرها من مواد كيميائية معقدة جدا، ويعتبر من المستحيل العثور عليها خارج مراكز الأبحاث. بسبب سرعة انتشار هذا المطبخ في العالم، فإن وجوده أصبح بمتناول أي شخص من محترفي التذوق حول العالم، أو من المتابعين لحركة تطور المطبخ العالمي.
مع ذلك فإننا في المنطقة العربية لم نشهد لغاية الآن سوى افتتاح مطعم أو اثنين على الأكثر، وهذا أمر طبيعي، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التكلفة العالية لهذا النوع من الأكل وصعوبة العثور على مواد التحضير الكيميائية، وإضافة إلى ذلك، صعوبة قدرة هذا النوع على اختراق المطبخ المحلي لكل دولة عربية. إذ إنه يواجه صعوبة حتى في أوروبا، ليس لشيء سوى لأن الناس ما زالوا يعتقدون أن الذهاب إلى مطعم من هذا النوع هو مجرد تجربة غير مفيدة ومكلفة في الوقت نفسه.
أما في فرنسا، التي تملك تقاليد عريقة في عالم المأكولات، فإن هذا النوع من المطاعم يشهد إقبالا متوسطا بسبب حب الفرنسيين لتناول الطعام في المطاعم. وتعتبر مدينة ليون، التي تعتبر موطن فن الطهو في فرنسا، من أكثر المناطق التي تشهد افتتاح مطاعم من هذا النوع، خاصة أن المدينة تحتوي على أكبر مدارس فن الطهو في فرنسا.
يعتبر الطاهي الفرنسي برتراند سيمون أول من بدأ العمل على تسهيل وصفات تحضير المطبخ الجزيئي، على عكس فيران أدريا الذي تحتاج وصفاته إلى مختبر كيميائي مجهز بأحدث التقنيات.
فقد وضع سيمون معظم وصفاته بتناول العامة من الناس، مع عرضه لطرق التحضير وكيفية الحصول على مواد التحضير الكيميائية، وهي موجودة جميعها على موقعه الخاص www.chefsimon.com لكنها مع ذلك، وعلى الرغم من السهولة التي تبدو من المكونات وطرق التحضير، فإن الصعوبة دوما تمكن في العثور على مواد التحضير. لكن يبدو أن هذا النوع الجديد من الأكل لا يمكن الاستمتاع به إلا حين يحضر على يد طاهٍ محترف وكبير.