كارل لاغرفيلد يقدم درسا في الإبداع الواقعي في عرض دار «شانيل»
لأنه كارل لاغرفيلد، يمكن أن تتوقع منه أي شيء، فهو صريح إلى درجة اللا دبلوماسية أحيانا، فيلسوف متخرج من مدرسة الواقعية أحيانا أخرى، ومبدع في كل الحالات. هذه المرة بدا وكأنه عانق العبثية والواقعية في الوقت ذاته، فهو من جهة يسخر من الأزمة المالية ويتجاهلها تماما بتقديم أزياء تحاكي «الهوت كوتير» في جمالياتها، ومن جهة أخرى يلعب على الأناقة المضمونة، التي ستجد لها أسواقا تعانقها بالأحضان.
كارل كان قد أدلى بتصريحات في السابق بأن الأزمة كانت أمرا لا مهرب منه، ولا بد من وقوعه، بعد أن زاد البحث عن الترف والهوس بالثراء عن حده، مشيرا إلى أنها، أي الأزمة، ربما قد تكون الفرصة لكي يستعيد المرء توازنه وعقله ويرتب أولوياته.
ويبدو أنه طبق هذه الفلسفة على تشكيلته التي كانت تصرخ بالهدوء الجذاب. ففي «لوغران باليه»، التي تعودت الدار الفرنسية العريقة أن تقيم فيها عروضها، باستثناء موسم «الهوت كوتير» الأخير، الذي كان في شارع غامبون، عبر كارل عن سخريته من الأزمة المالية من خلال أزياء حملتنا إلى عهد البلاطات والقصور، لكن بلغة جديدة وفصيحة.
الشعور الذي انتابنا في البداية أنها ستكون مستوحاة من السبعينات وبداية الثمانينات، والسبب يعود إلى أغنية شهيرة للسمراء دونا سومر بعنوان «لوف لوف مي بايبي» عمّت الديسكوهات في تلك الفترة، ورقصت على إيقاعها العديدات ممن حضرن العرض، لكن باستثناء أكتاف محددة لبعض الجاكيتات والفساتين، لم يكن هناك بريق أو أحجار تلمع، سوى على رموش العارضات.
بعد العرض، شرح كارل أنه استوحى فخامة التشكيلة من «بو برامل» الرجل المتأنق الذي أدخل البذلة المكونة من عدة قطع والقميص ذي الياقة العالية ذات «الكشاكش »، أو المنديل الذي يربط حول العنق، أيضا على شكل «كشاكش»، لخزانة الرجل في القرن التاسع عشر. لا شك أن بو برامل حقق ثورة رجالية في عصره. ويمكن القول إنه الأب الروحي لما أصبح يعرف بـ «الميتروسكشوالية» في وقتنا الحالي، إلا أن كارل لم يكن يريد إحداث ثورة في وقت لا يستحمل الثورات أو البطولات، كل ما فعله أنه أخذ مفهوم بو برامل، واشتغل عليه ليقدمه كهدية للمرأة في شتاء 2010.
صحيح أنه خص الرجل بثماني إطلالات مختلفة، إلا أن حصة الأسد كانت من نصيب الجنس الناعم، حيث زخر العرض بتايورات تنوعت فيها تصميمات جاكيت «شانيل» ما بين القصير والطويل، وبين المستقيم من أسفل، أو الذي ينتهي على شكل دائري من الخلف، وفساتين ناعمة تحدد الجسم وتخلق إطلالة رشيقة تكسر قتامة سوادها بقطع يمكن استعمالها أو الاستغناء عنها، حسب الحاجة والمناسبة.
قطع على شكل «كشاكش» وطيات مبتكرة زينت الياقات والأكمام باللون الأبيض، لا شك ستجد رواجا كبيرا في الموسمين القادمين، إذا قررت الدار بيعها بشكل منفصل، لأنها يمكن أن تستعمل مع أي فستان قديم أو مكشوف عند الصدر؛ فتضفي عليه الكثير من الأناقة والتجديد، خصوصا أنها قد تكون أرخص بكثير من فستان يحمل توقيع الدار.
بعد هذه اللوحة الفنية من الأسود والأبيض، فاجأنا المصمم بإدخال زخات من الأخضر على الأسود من خلال إكسسوارات مختلفة من الآرت ديكور، أو قبعات من التويد، وأخرى من الصوف أو الكروشيه. كما كان هناك بنطلون يتيم باللون الأخضر، بقصة مستقيمة تميل إلى الاتساع، تلتها لوحات أخرى، أعاد فيها المجد إلى الوردي الخفيف، الذي خلق تناقضا لذيذا مع الأسود.
وكالعادة، كان هناك الكثير من التويد الخفيف في الفساتين والتايورات، إلى جانب جاكيتات من الصوف المغزولة بطريقة سميكة، تبدو معها الكنزة المفتوحة وكأنها جاكيت مفصل، مع إضافات جديدة على الجيوب والحواشي بالأخضر، أو الأبيض والوردي، منحتها مظهرا شبابيا وحيويا. فساتين السهرة والمساء كانت دائما مكمن قوة لاغرفيلد، والجزء الذي يحملنا إلى عالم من الأحلام، ولم تخرج هذه المرة عن القاعدة، حيث توالت التصميمات كلوحات رائعة غلب عليها الأسود، مع نفحات هنا وهناك من الألوان.
كما لعب فيها على ازدواجية النعومة والخشونة بأن يكون الجزء الأعلى من قماش سميك، والجزء الأسفل من الشيفون أو الحرير، فضلا عن خلقه خدعا بصرية يبدو بعضها جد محتشم للوهلة الأولى، لكن سرعان ما تُفاجأ بفتحة من الجانب، يطل منها ستار خفيف من الشيفون أو الدانتيل، مما يخلق نوعا من الغموض والإغراء، بما فيه إغراء السوق. فهذه التشكيلة مضمونة جدا، وتخاطب كل الأعمار، وهذا ليس غريبا على لبيب مثل كارل لاغرفيلد، يفهم أن السوق الآن لا يحتاج إلى فانتازيا ومبالغات، بل إلى حلم يسمو به، من دون أن يصل إلى درجة تخديره. وهذا بالضبط ما قدمه لنا على خلفية صوت دونا سومر العذب والقوي، مثل تشكيلته تماما.
في عرض فالنتينو، حيث كانت النغمة مختلفة، فالثنائي الذي استلم مقاليد الدار بعد أن تركتها المصممة اليساندار فاتشينيتي مكرهة في العام الماضي، ماريا غراتزيا تشيوري وبيير باولو بيكولي، لم يقدما جديدا يذكر. فقد عادا إلى أرشيف الدار في الستينات يغرفان منه بنهم شديد. صحيح أن كل ما في التشكيلة كان متقنا ويحمل بصمات الدار في عهد صاحبها، غارافاني فالنتينو، وقبل أن تحاول فاتشينيتي أن تدخل عليها بعض الاجتهادات، إلا أن الفكرة من دم جديد، هي أن يضخ دما جديدا وروحا شابة عليها، وهذا ما لم يحصل فيه هذه المجموعة، وكأن شبح فالنتينو لا يزال يحرس الإمبراطورية التي بناها منذ عدة عقود.
توالت الأزياء ولم تثر أي إحساس بأن الثنائي خرج عن طوعه، رغم أن اجتهادهما كان واضحا في بعض القطع، مما جعل تشكيلتهما لخريف وشتاء 2010 تبدو شاحبة الملامح. ومع هذا، ففيها ما سيروق حتما للزبونات المخلصات، لأنها توفر على كل عناصر الأناقة، باستثناء الجديد أو بالأحرى الشجاع، على العكس من تشكيلة كارل لاغرفيلد الحيوية. فعلى الرغم منه أنه يضطر للعودة إلى إرث المؤسسة «كوكو شانيل» كل موسم، إلا أنه ينجح دائما في إضفاء لمسات قوية عليها، تجعلها تبدو وكأنها من بنات أفكاره.