مصمم دار «بوتيغا فينيتا» "أعحب بالاحترام الذى يكنه العرب للحرفيين"

هناك مصممون يميلون إلى توقيع كل أعمالهم بالبنط العريض، وكأنهم يخافون من لعنة النسيان أو أن يضيع حقهم، وهناك مصممون يفضلون العمل في هدوء تاركين أعمالهم تتكلم عنهم بكل ثقة، من منطلق ان الجودة والإبداع لا يحتاجان إلى توقيع أو تهليل أو تطبيل.


الألماني توماس ماير، واحد من الفئة الثانية.. هادئ لا يحب أن يثير الانتباه، وبسيط لا يحب الاستعراض وهذا بالذات ما يلخص أسلوبه.

قد لا يكون اسمه معروفا لفتاة في بداية دخولها عالم الموضة وتعرفها على خباياها، وبالتالي لا تزال تعشق كل ما هو موقع باسم عالمي معروف، لكنه حتما بطل بالنسبة للعارفات والزاهدات في الرائج والمتشابه.

عندما التحق توماس ماير بالدار الإيطالية العريقة «بوتيغا فينيتا»، ردد الكل «وافق شنّ طبقه».

فهذه الدار مثله تتقن الفخامة الهادئة، ومثله لا تؤمن بالتوقيعات الكبيرة، وتكتفي في الإشارة إلى ذاتها بالتركيز على علامتها المسجلة، التي تتمثل في طريقة جدل متميزة جدا، يتقنها سكان البندقية، ويعرفها خبراء الموضة والمتمرسون فيها من النظرة الأولى، وهذا ما يجعل حقائبها بالذات حلما تتسابق عليه الأنيقات اللواتي لا يردن ان تتشابه إكسسواراتهن مع ما هو سائد، طبعا إلى جانب أزيائها وإكسسوارات الديكور الداخلي وغيرها.

في لقاء أجرته «الشرق الأوسط» مع المصمم توماس ماير قال عن هذه الشركة: «عندما عرض عليّ العمل في «بوتيغا فينيتا» ترددت في البداية، لأنني كنت سعيدا ومكتفيا بتصميم خطي الخاص، لكن بمجرد ان زرت المعمل، حتى غيرت رأيي مباشرة.

توضح لي آنذاك ان هذه شركة تتمتع بإرث عريق وبإمكانية كبيرة للبناء على هذا الإرث، ليس فقط لناحية حرفية العاملين فيها، بل أيضا لأنها لا تؤمن بأن يكون لها «لوغو»».

لم يخب ظنه كما لم يخب الأمل فيه، فمنذ ان التحق بها عام 2001، والدار تحقق تقدما على العديد من بيوت الأزياء العالمية، إلى جانب أرباح لا يستهان بها، وهذا ما تعترف به المجموعة المالكة «بي.بي.آر»، التي تملك دار «غوتشي» أيضا، مما يجعل الآمال معقودة على «بوتيغا فينيتا» في المستقبل، خصوصا أنها تفوقت حتى على دار «غوتشي» في ما يتعلق بأرقام المبيعات في النصف الأول من هذه السنة.

بعد مشوار طويل في مجال التصميم يمتد إلى أكثر من عقدين، نجح ماير في أن يوظف كل خبراته وتجاربه في هذه الدار التي لم تكن مغمورة، لكنها كانت مهددة بالإفلاس في ظل رواج كل ما هو براق ومثير ولافت.

وصفته السحرية كانت مجازفة كبيرة رجفت لها قلوب البعض في البداية، كونه تبنى تيارا معاكسا تماما لما يجري في الساحة. تيار يتوخى الرقي والفخامة من دون استعراض.. أزياء تبدو بسيطة، لكنها بعيدة كل البعد عن البساطة، فهي تحاكي الـ«هوت كوتير» في أسلوب تفصيلها وخياطتها.

وسرعان ما أصبح هذا الرقي الهادئ، ماركة «بوتيغا فينيتا» المسجلة، إلى جانب أسلوب الجدل طبعا. وهكذا، ورغم انخفاض الدولار والين، ورغم كل ما يجري في العالم من تذبذبات اقتصادية، خرج توماس ماير من المغامرة وكأنه بطل أسطوري تمرد على السهل والسائد ونجح، ليؤكد صدق قوله إن: «الموضة عامة وتتغير، بينما الأناقة شخصية وتدوم مدى الحياة».

ومما لا شك فيه أن ما أثار الخوف في نفوس البعض، وما قوبل بريبة وشك في البداية كان هو بالذات ما أطلقه إلى العالمية.

فقد راهن على الجودة وعلى ذوق المرأة الأنيقة التي تعرف ماذا تريد، وبرهن انه يفهم السوق أكثر من غيره، لا سيما ان تقنياته الفذة في التفصيل وأسلوبه المميز ساعده على حمل الدار الإيطالية إلى آفاق جديدة، لم يكن يتوقع الكثيرون اختراقه لها، في خضم كل ما يبرق ويلمع، لكنه ربما يكون أكثر من فهم ان هذه الأمور لا بد أنها ستصيبنا بالتخمة، إن عاجلا أم آجلا.

فنحن بالفعل أصبحنا في العقد الأخير نتطلع إلى مضاد ينقذنا من الاستعراض والتكلف بهدف الإثارة، والكثير مما أفقد الموضة خصوصيتها وتميزها.

وهذا ما حققته لنا الدار، ففي هذا الموسم مثلا، وخلال أسبوع ميلانو، أعطتنا درسا ممتعا في طرق استعمال الحرفية اليدوية في الأزياء، سواء الخاصة بالرجل أو بالمرأة.

فالتفصيل كان من نوع السهل الممتنع، فحتى القطع المصنوعة من قماش الدينم، للرجل، تميزت بالتفصيل الرفيع والتفاصيل الدقيقة، التي تجعل كل قطعة في غاية الأناقة والأهم من هذا في غاية الترف.

لكنه ترف غير صارخ على الإطلاق، بل العكس تماما، فهو ترف يجمع بين جودة الأقمشة ودقة التفصيل وبراعة التنفيذ في ألوان ترابية هادئة، كل ما فيها يحترم زبون «بوتيغا فينيتا»، الذي هو أبعد ما يكون عن حديث نعمة يريد ان يتباهى بالجاه، بل أنيقا يريد التميز من دون مبالغة أو بهرجة.

قد يقول البعض إن التوقيت كان في صالحه، لكن هذا غير صحيح، لأنه التحق بالدار في عصر دار «غوتشي» الذهبي عندما كان مصممها، توم فورد، لا يزال يتحفنا بالمثير والأنثوي واللافت، بل إن المفارقة الطريفة أن توم فورد هو الذي زكّى توماس ماير واقترح اسمه لقيادة «بوتيغا فينيتا»، التي كانت تبحث آنذاك عن مصمم، يأخذ بيدها ويحملها إلى المستقبل.

وهذا يؤكد أن ماير شجاع يتمتع برؤية واضحة وليس مجرد محظوظ تواجد في المكان المناسب وفي الوقت المناسب.

صحيح أن الأمر ساعده من حيث إن الأغلبية من عشاق الموضة باتت تتوق إلى فخامة بسيطة وهادئة لا تستعرض الجاه بقدر ما تشير إلى الذوق، لكن هذا يحسب له، لأنه عرف كيف يغذي هذا الجانب ويملأ فراغا كبيرا، من دون ألوان صارخة ومن دون «لوغو» سواء تعلق الأمر بالإكسسوارات أو الأزياء.

أسلوب يضفي الأناقة على أي امرأة مهما كانت مقاييسها، بفضل تقنياته التي تجعل الأقمشة تتتبع تقاطيع الجسم بشكل سهل ومنساب وطبيعي، وطيات خفية بعيدة عن الفذلكة.

ففي الوقت الذي كان يتبارى باقي المصممين في طرح فساتين «الإمباير» أو الفستان الواسع القصير الذي يلبس مع بنطلونات مطاطية، ركز هو على الفساتين المفصلة والمنسابة.

وفي الوقت الذي أتحفونا فيه بالألوان الصارخة والنقوشات المتضاربة، ظل وفيا للألوان الترابية الكلاسيكية.

ومع أنه سبح ضد التيار تفوق وحقق السبق، فليس هناك محل كبير في أي من العواصم لا يحتوي على ركن خاص بهذه الماركة. السوق العربية لا تجهله، فقد صوبت الدار أعينها في السنوات الأخيرة إلى الشرق الأوسط، وحققت فيه نجاحا ملحوظا. وحسب قول توماس ماير فإن المنطقة: «سوق مهم بالنسبة لـ«بوتيغا فينيتا» من جهة، كما أن لها مكانة خاصة في نفسي من جهة ثانية.

فأنا أعشق ثقافتها الغنية وتاريخها. وأعجب أكثر بذلك الاحترام العميق للحرفيين والصناعات اليدوية، والتصميمات الأنيقة والمترفة، لذلك ليس لديّ أدنى شك أننا سنجد لنا مكانا بها.

فمنافسي الوحيد هناك مبدع يقدم الجودة والحرفية العالية ويحترم التقاليد من دون توقيعات بالبنط العريض».

في الوقت الذي يطرح فيه باقي المصممين حقائب كل موسم، تتشابه في معظمها، ولا تستغرق سوى حوالي 80 دقيقة في صنعها، من دون ان تنعكس هذه السرعة على أسعارها الجنونية، ظل توماس ماير، وفيا لثقافة «بوتيغا فينيتا» وأسلوبها، غير مبال ما إذا كان صنع الحقيبة الواحدة قد يستغرق يومين أو أكثر. الحقيبة بالنسبة له ليست صرعة، بل إنها استثمار بعيد المدى يجب ان يبرر سعره، وبالتالي يجب ألا تتبع هوى السوق أو هوس الموضة الاستهلاكية، التي لا يستفيد منها سوى الشركات المصنعة.

من البداية، ركز على المرأة التي تريد حقيبة واحدة في السنة، لكن مميزة، ونجحت مجازفته فـ«عهد الحقيبة التي تكسر السوق بدأ يخفت، لكن هذا لن يوقف المرأة عن شراء الحقائب، الفرق هو أنها الآن تبحث عن التميز والجودة التي ستدوم، وهذا يصب في صالح «بوتيغا فينيتا» حسب قوله، ويضيف: «المرأة التي نتوجه لها تعرف أنها ستحصل على حقيبة يمكنها استعمالها لعدة أعوام، كما أنها، أي الزبونة، تتمتع بالثقة والعاطفة وذوق رفيع يميل إلى الجميل لكن البعيد عن الافتعال والتكلف».

ونظرا للأهمية التي توليها الدار للحقيبة، كان من البديهي ان تحتفل بحقيبتها الايقونية «دي نوت» وبتقنيتها على حد سواء من خلال معرض متنقل أطلق عليه «دي نوت.. معرض استعادي» لما لهذه الحقيبة بالذات من أهمية على المستويين التاريخي والفني للدار.

بتصميمها الفريد على شكل صندوق صغير يحمل باليد، أصبحت ترمز لـ«بوتيغا فينيتا»، وترتبط بماضيها وحاضرها ومستقبلها، خصوصا بعد أن أصبحت جزءا لا يتجزأ من أناقة النجمات في المناسبات الكبيرة، بدءا من بينلوبي كروز، إلى ماري كايت أولسن وغيرهما.

لقد بلغت هذه الحقيبة سن الثلاثين، لهذا رأت الدار أنها باتت تستحق معرضا خاصا بها تستعرض فيه حوالي 50 تصميما مختلفا لها منذ بدايتها إلى الآن. المصمم توماس ماير قال إن الفكرة من المعرض هي أن يستمتع أكبر عدد من عشاق هذه الحقيبة بتصميماتها المتنوعة، ويتعرفوا عن قرب على حرفية اليدويين الذين أبدعوها.. «بالنسبة لي ما يجعل هذه الحقيبة مهمة هي أنها امتداد لـ«بوتيغا فينيتا»، وعلامة مسجلة لها. علاقتي بهذا التصميم ليست عاطفية، بل إبداعية محضة، فأنا مرتبط بجمالياتها ولما تتضمنه من ميزات وخصائص تهمني كمصمم».