فيلم «سيكس آند ذي سيتي».. وهوس الماركات العالمية
في عام 2004 اصيبت ملايين النساء بحالة من الحزن بعد بث آخر حلقة في السلسلة التلفزيونية «سيكس آند ذي سيتي». كان حزنا مشوبا ببعض الهيستيريا، إلى درجة أن العديدات اصطففن بصبر في طوابير طويلة على أمل شراء قطعة أزياء أو اكسسوارات من تلك التي ظهرت بها البطلات، في محاولة لاستحضارهن في الذاكرة.
ولا شك أن الحميمية التي طبعت علاقة أربع صديقات، كل واحدة بشخصية وميول وهوايات واهتمامات تختلف عن الأخرى، ومع ذلك يستطعن البوح بمكنونات قلوبهن لبعضهن بعضا من دون حرج أو تردد، ويفرحن بصدق عندما تفرح الواحدة منهن، ويحزن عندما تحزن... صداقة لا تتأثر بتغير الظروف ولا بمرور السنوات، كانت أحد أسباب هذا الحزن.
فهذه العلاقة الرباعية أعطت الأمل للبعض منا بأن الصداقة المتينة ليست اسطورة أو مجرد علاقة مبنية على المصالح الشخصية، بل يمكن ان تتحقق على ارض الواقع، وهو ما حرك الحنين إليها وبالتالي ساعد على إنعاش صداقات كاد البرود وإيقاع الحياة السريع والماديات أن تصيبها في مقتل.
لذلك ليس غريبا ان نشهد تجدد هذه الهيستيريا بمجرد تناهي أخبار تصوير فيلم بنفس العنوان، ومبني على نفس القصة والشخصيات.
لكن الحديث عن الصداقة وحدها ليس كافيا لإعطاء هذا العمل حقه الكامل، ذلك انه بالرغم من الأحداث الطريفة التي تمس حياتنا بشكل أو بآخر، وتنوع العلاقات الإنسانية بحلوها ومرها، إلا ان الموضة تبقى البطل الحقيقي في هذا العمل، وهي التي سترتبط به كلما فتحت سيرته في المستقبل، كما انها هي التي تشدنا إليه.
يمكن القول بثقة ان «سيكس آند ذي سيتي» لمتتبعي الموضة افضل من أي عرض ازياء، ومن أي مناسبة سجاد احمر، فهو على الأقل يقدمها لنا بجرعات طريفة تسمح لنا بهضمها، وبشكل أقرب إلى الواقع، كون من يلبسنها، رغم اقترابها من الغرابة والفانتازيا احيانا، هن نساء مثلنا، يواجهن مشاكل حياتية قد تواجهها أي امرأة عصرية، ويعانين ايضا من عقد مماثلة، سواء تعلقت بعدم الرضا عن مقاسات الجسم أو الخوف من زحف الزمن مع ظهور أول شعرة بيضاء أو عدم استطاعة شراء شقة بسبب عدم القدرة على التدبير، كما هو الحال بالنسبة للبطلة كاري برادشو، التي تلعب دورها النجمة سارة جسيكيا باركر.
فهذه الأخيرة، مثلا، تحولت إلى ايقونة موضة بعد السلسلة، إلى درجة جعلت البعض يلمح ان اسمها ارتبط بالموضة اكثر من التمثيل، لكنها بالنسبة لشريحة كبيرة من النساء، هي أيضا فيلسوفة، على أساس الدرر التي نطقت بها، وتحولت إلى أمثلة متداولة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:«أحب أن تكون ثروتي أمام ناظري.. معلقة في خزانة ملابسي» و«لقد توصلت إلى نتيجة مهمة وهي انه من الظلم معاقبة حذائي الجديد فقط لأني لا أعرف كيف أتحكم في ميزانيتي» وغيرها من الدرر التي تصب كلها في خانة الأناقة.
نعم، فالموضة، ببساطة، هي الشخصية الخامسة في العمل، إن لم تكن الأولى. فخزانة البطلة كاري (سارة جيسيكا) وحدها تضم 81 زيا مختلفا، تسابقت كبريات دور الأزياء على تقديمها، لعل وعسى تظهر فيها ولو في لقطة سريعة، بدءا من شانيل إلى فندي، ديور، أرماني وطبعا مانولو بلانيك، لأن ظهورها لثوان يزيد مبيعاتها بشكل لا يمكن ان تحققه حملة دعائية مدفوعة الثمن.
أما الطريف في المسألة، أن الأزياء لم تكن ضمن حسابات المنتجين في البداية، وما علينا إلا ان نتذكر كنزة مزينة بالموز ظهرت بها البطلة سامنثا (تجسد دورها كيم كاترال) فضلا عن بعض الغرائب التي تهادت بها كاري برادشو في شوارع مانهاتن.
لكن مع تلاحق الأحداث، انتبه المنتجون أن المشاهد يهتم بالأزياء والاكسسوارات ويتحدث عنها في اليوم التالي أكثر مما يتحدث عن الأحداث نفسها، ومن هنا انطلقت الشرارة لتوسيع دورها، ومن هناك بدأت الإطلالات تتغير لتصبح أكثر إبهارا.
فلا أحد ينكر ان كاري برادشو متعة متحركة بالنسبة لأي متابع ومهتم بالموضة.. ففي كل لقطة تفاجئنا بزي مختلف واكسسوارات تكاد تغطي عليه لجرأتها وضخامتها، حتى نصاب بالحيرة: هل نعجب بها أم نضحك عليها، لكننا بعد فترة نجد أنفسنا قد انقدنا وراءها، أحيانا بدافع التقليد، وأحيانا اخرى بدافع لاشعوري، وفي الغالب لأن المحلات تكون قد أغرقتنا بكم هائل مشابه لها وبأسلوب علق في الذاكرة فخلق نوعا من الألفة معها.
وسواء أحببنا أم كرهنا، لا بد من الاعتراف بتأثير كاري فينا بدءا من الورود الضخمة التي تكاد تغطي الصدر تماما، أو القبعات الصغيرة التي تطرح عدة تساؤلات عن مدى جدواها، أو الأحذية العالية والرفيعة التي تجعل مجرد النظر إليها أمرا متعبا فما البال بالمشي بها في الشوارع العامة.. ومع ذلك تبهرنا.. تسحرنا وتمنحنا بعض الشجاعة على الإقدام عليها.
والفضل في هذا حسب قول كارمن هايد، مديرة علاقات عامة في دار «تومي هيلفيغر» يعود إلى أن العمل، سواء التلفزيوني أو السينمائي، يصور امرأة واثقة تعرف تماما ما تريد، وهو بذلك يؤكد قوة الأزياء وقدرة التأثير في الآخر، وايضا في تحسين المزاج وزيادة الثقة بالنفس. على شرط ان تعانق المرأة الموضة وتستمتع بها، لا أن تصبح ضحية لها».
ولا بد من الإشارة ايضا إلى تأثير هذا العمل في سوق الموضة عموما وعلى المنتجات المرفهة خصوصا، من باب أن البطلة كاري تميل إلى الغالي والثمين، سواء كان على شكل فستان من فالنتينو أو إيف سان لوران، او حذاء من مانولو بلانيك أو جيمي شو.
فأرقام المبيعات تشير إلى ان شوارع الموضة الشعبية والمنتجات الرخيصة التي عرفت اوجها في السنوات الماضية تضررت، وبدأت تئن تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، عكس المنتجات الراقية، التي لا يبدو انها تعاني إلى حد الآن.
فماركة «اكواسكوتم» مثلا التي ظهرت في الفيلم، شهدت مبيعاتها ارتفاعا بنسبة 30% بعد ظهور كاري في قطعة تحمل اسمها، كما سجلت محلات «هارفي نيكولز» بلندن نفس الإقبال. فبمجرد أن ظهرت صور لكاري في معطف من تصميم «إيرديم» بكشاكش، فضلا عن فساتين منقوشة وقطع براقة ولافتة بتوقيع الروسية روكساندا إلينشيك، حتى زاد الإقبال. دار «كريستيان ديور» كان لها هي الأخرى نصيب من هذه الكعكة من خلال صندل «الغلادياتور» (410 جنيهات استرلينية) الذي نفد من السوق بعد ان ظهرت به النجمة، وهناك لائحة انتظار طويلة عليه، كذلك الأمر بالنسبة لحذاء بكعب مرصع بالأحجار من الثنائي بروانزا شوللر يقدر ثمنه بـ 445 جنيها استرلينيا. والمتابع لـ «سيكس آند ذي سيتي» يعرف ان الأحذية جزء مهم من قصته، فللبطلة كاري مقولة مشهورة بأنها ستذكر كتلك المرأة العجوز التي تملك العديد من الأحذية ولا تملك بيتاً تسكن فيه.
وفسر متحدث باسم محلات هارفي نيكولز هذا الإقبال المحموم على الاحذية التي لبستها بطلة الفيلم بأنها تمنح فرصة لشراء قطعة لمصمم معروف، أو دار عالمية عندما يتعذر شراء قطعة أزياء يقدر ثمنها بـ 9000 أو 10.000 جنيه استرليني، على سبيل المثال. تمارا ميلون، صاحبة ماركة جيمي شو، صرحت اخيرا بأن تأثير كاري في الموضة غير قابل للنقاش، خصوصا قدرتها على التقاط صرعة تحولها بين ليلة وضحاها إلى موضة عالمية.
والحقيقة ان كاري التي تلعب دورها سارة جيسيكا باركر، ما هي إلا شماعة للأزياء والاكسسوارات التي تختارها المصممة باتريشيا فيلد، المسؤولة عن اختيار ازياء كل النجمات في الفيلم. فهذه المصممة ذات الشعر الملون بالفوشيا، هي التي تحرك خيوط اللعبة من وراء الكاميرا، وتؤثر في ذوقنا وفي تحولات السوق، وليس ببعيد في مصائر المصممين ايضا.
ورغم النجاح المنقطع النظير الذي حققته، وحازت خمس جوائز لحد الآن، إلا انها تقول: إنها لم تتبع استراتيجية معينة في البداية «فالشيء الذي تعلمته بالخبرة هو أنه لكي تتحول أي موجة أو صرعة لموضة دارجة يجب ان تتمتع بجاذبية عالمية، سواء تعلق الامر بوردة أو اسم محفور على قلادة... بمعنى آخر شيء سهل يتقبله الناس». وتتابع:«الفيلم صور في شهر سبتمبر وطرح في دور السينما في شهر مايو، لذلك من الصعب توقع توجهات الموضة، التي يمكن ان تتغير بين يوم وآخر، لذلك أتجنب هذا الامر تماما حتى أتجنب الفشل.
في المقابل، أهتم بأن تكون لكل بطلة من البطلات قصة خاصة، ثم ألبسها على هذا الأساس. وصفتي الناجحة هي أن اختار قطعة من الموسم الحالي، وأنسقها مع قطعة قديمة من عشر سنوات، أمزجهما مع بعض وأوجد اسلوبا خاصا لا يعترف بزمن محدد لكن يتناسب مع شخصية لابسته.. فأنا لست هنا لأسوق للأزياء».