القهوة التركية .. قصة حياتها انطلقت من اسطنبول للعالم
العلاقة بين القهوة التركية وشعوب العالم علاقة فيها شيء من العشق والسحر أيضا، وربما سحر العشق، أو ذلك السحر الذي يضيف العشق إلى الحياة. ولكل قصة حب تاريخ وحكايات تروى على مر الأجيال لا بد من التوقف عندها ومراجعتها، لأنها ـ وبمرور الزمن ـ تكون قد دخلت في النسق الثقافي للشعوب.
مع مرور العصور، أصبحت القهوة التركية شيئا ضروريا، لا غنى عنه في مختلف أنحاء العالم، فمن أجلها أقيمت المقاهي، ولأجلها صنعت الفناجين والركوات المزخرفة، وحُددت لها أوقات معينة، وأصبحت في العالم رمز الضيافة في مجالس ومجتمعات الناس الخاصة والعامة؛ ففتحت الأمم لها مكانا في حضاراتها وعاداتها المختلفة.
هذا العشق الذي بدأ من نبتة برية لم تزرعها يد إنسان في البداية، قبل أن تصبح تجارة معروفة عالميا، أرجعها البعض إلى بلاد اليمن، وآخرون إلى إثيوبيا.
أما المؤكد أن رحلة حبوب القهوة دخلت إلى بلاد الأناضول في عهد السلطان سليمان القانوني في عام 1540م، حيث جاء بها من اليمن إلى اسطنبول؛ فولع بها السلطان وأفراد أسرته وحاشيته؛ وصارت تقدم في كل المناسبات.
ومن ثم بدأت في الانتشار في الأوساط الاجتماعية، بعد أن قامت امرأة شامية، تدعى شمس، ورجل حلبي، يدعى حكم، بتأسيس أول مقهى للقهوة التركية في القلعة الخشبية في اسطنبول.
ومن ثم انتشرت بعد ذلك المقاهي في الأراضي العثمانية كافة، وصار يتردد عليها المثقفون والأعيان من الوزراء والولاة.
هذا الأمر بالقهوة التركية دفعهم إلى تشكيل جمعية للقهوجيين، وتعيين رئيس لها سمي «قهوجي باشي». وفي عهد السلطان العثماني مراد الثالث وصل عدد المقاهي في اسطنبول إلى أكثر من 600 مقهى.
وحول انتشار القهوة التركية في أنحاء العالم، وبلوغ صيتها أقصى أوروبا، تقول بعض المراجع التاريخية إن ذلك حدث إبان عهد القائد العثماني مصطفى باشا المرزيفوني، عندما حاصر مدينة فيينا النمساوية بجيشه في أواخر القرن السادس عشر، وكان واثقا من فتح العاصمة النمساوية آنذاك؛ فأخذ معه 500 كيس من القهوة ليشربها خلال احتفالات النصر، إلا أن فرحة الفتح لم تتم، ودارت الدائرة عليه بالهزيمة؛ فترك عتاد جيشه ومعداته، ومن بينها أكياس القهوة، فأحرق النمساوي بعضها، وألقى بعضها في نهر الدانوب لجهلهم بما تحتويه الأكياس؛ فانتشرت رائحتها التي عمت المنطقة كلها، فشمها ضابط نمساوي كان قد زار اسطنبول من قبل؛ فعرفها؛ وعرَّف أهل فيينا بها.
شُرْب القهوة أصبح جزء كبيرا من التفاعل الاجتماعي لدى شعوب العالم، وذا مكانة رفيعة رسخت في قيم الحياة اليومية.. فعلى سبيل المثال، بنت الأسر التركية الثرية غرفة خاصة تُستخدَم فقط لشرب القهوة، كما أنها أصبحت في كثير من الشعوب حجة تُعَرِّف بها الفتاة على نفسها طالبي يدها للزواج، فطريقة تقديمها للقهوة تعكس طبقتها الاجتماعية، ومهارتها في الطهي وشؤون المنزل.
كما أصبحت القهوة التركية رمزا لكرم الضيافة العربية، مهما سبقها من ضيافات. وإذا شرب الضيف قهوته؛ فذلك يعني أن سؤاله مجاب، وطلبه مقضي، كما أصبحت عادةً لمن ينتقل إلى بيت جديد، فيزوره جيرانه الجدد للتعرف عليه والتقرب منه، فيستقبلهم ويقدم لهم القهوة تعبيرا عن شكره وامتنانه لهم.
ولم تقف القهوة التركية عند هذا الحد، بل دخلت في نسق الثقافة الفكرية، فضربت بها الأمثال، وقيلت فيها الأشعار، ولُحنت لها الأغاني.. فمثلا على ذلك.. المثل الشعبي «إكرام فنجان القهوة له خاطر يُحمَد عليه الشخص أربعين سنة»، كما أُطلقت عليها أسماء كثيرة، فهناك «قهوة التعب» حين تشرب بعد عمل مرهق، وهناك «قهوة الخطبة» حين تُطلَب الفتاة للزواج.
هذا الإقبال الشديد على القهوة واجه في مرحلة من المراحل تعارضا دينيا، ومنعا وعقوبات، فعلى سبيل المثال.. في عام 1511م حرم شيوخ الدين الإسلامي شرب القهوة التركية، لاعتقادهم بأن لها آثارا جانبية مثل الكحول.
وأدى ذلك إلى حرق كل محلات البن، وفرض حظر على المبيعات، كما أعلنت الكنيسة في عام 1669م أن القهوة من عمل الشيطان.
التفنن في إعداد القهوة التركية وشربها أصبح موضة رائجة بين أوساط الفتيات.. يتفاخرن بها، ويحرصن على التباهي بإتقان عملها وتقديمها في كل مناسبة يكون فيها لفيف منهن.
تقول سارة عقيل «نحرص أنا وصديقاتي على شرب القهوة التركية في كل تجمُّع. كما تتميز كل واحدة منا بقهوتها.. فهناك من تضيف لها الحليب، وهناك من تضيف ماء الزهر، وهناك من تضيف مسحوق الكاكاو، أو البندق، أو الهيل، أما في مجال العمل، فشرب القهوة التركية أصبح أشبه ما يكون بالواجب الرسمي، فلا يكاد يبدأ يوم العمل، إلا والقهوة التركية حاضرة وموجودة، حتى قبل قدوم الموظفين أنفسهم، فهي تعتبر من الأشياء الضرورية في العمل ومتطلباته، وجزءًا لا يتجزأ من بروتوكول الضيافة في المكاتب».