بديعة مصابني .. وهبت الفن كل ما لديها ورحلت وحيدة

الفنانة بديعة مصابني
الفنانة بديعة مصابني

صرح فني كان مهداً لعمالقة صنعوا تاريخ الفن في مصر والعالم العربي، فكازينو بديعة مصابني كان شاهداً على تعلم تحية كاريوكا أولى خطوات الرقص الشرقي، وكان بداية شهرتها وانطلاق نجوميتها، ولم تكن وحدها، بل رافقها فريد الأطرش وسامية جمال وإسماعيل ياسين، ليكون للبديعة "وديعة" المحبة للفن الدور الأكبر في حياة كثير من نجوم الغناء والرقص والتمثيل، ومحطتهم الأولى نحو قلوب الجماهير.


من هى:
فتاة صغيرة تشع حركة ونشاطاً وحياة، ولدت في 25 فبراير لعام 1892 باسم "وديعة"، ولكن مع كبر عمرها لاحظ الجميع جمالها فأطلقوا عليها "بديعة"، الذي ظل ملازما لها حتى رحيلها، والدها كان تاجرا لبنانيا يملك مصنعاً، ووالدتها الشامية جميلة الشاغوري، عاشت سنوات عمرها الأولى في بيروت، ولكنها مرت بتجارب عدة قاسية. 
في البداية، جاء حريق مصنع الأب ورحيله، لتعيش وهي الطفلة الأصغر من بين 4 أولاد و3 فتيات مرارة فقد الوالد وقسوة الفقر بعد وفاته، فالعائلة ميسورة الحال أصبحت مهددة ولا تملك قوت يومها بعد خسارة الممتلكات ونهب مجوهرات والدتها، وهو الأمر الذي أثر في حياة بديعة لسنوات طويلة حين تُركت للعوز والفقر، وجعلها أكثر قربا من كل محتاج. 
وهي بعمر السبع سنوات، ينال بديعة مصابني واحد من أسوأ المواقف التي يمكن أن تمر بها فتاة أو سيدة، فعلى يد أحد المخمورين أصدقاء إخواتها تعرضت للاغتصاب، الذي ترك داخل نفسها بالغ الأثر، فالجاني لم يخسر سوى عام واحد من حياته قضاها داخل السجن، بينما ارتحلت هي وأسرتها إلى أمريكا الجنوبية هربا من المجتمع.
قضت بديعة مصابني مع أسرتها 7 سنوات في بلاد أمريكا الجنوبية، تعلمت الإسبانية وأتقنتها تحدثا وكتابة، كما تعرفت هناك على الفن، ففي مدارس داخلية أودعت بها تلقت بديعة دروس الرقص واشتركت في المسرحيات المدرسية، وتعرفت على أنواع الموسيقى، وهو ما جعلها منفتحة على الثقافة الغربية ومطلعة على كل جديد، فتمكنت من أن تسبق آخرين بخطوات. 
كانت مصر هي محطة بديعة مصابني التالية، وأهم محطاتها الفنية، وكذلك على مستوى حياتها الشخصية، فرافقت والدتها عام 1912 نحو زيارة المحروسة، وفي أثناء التنزه والمشاركة في أحد الرياضات قرب ميدان الأزبكية، وقع عين فؤاد سليم على الفتاة الصغيرة الجميلة التي تمتلك روحا مرحة ونشاطاً وحركة دائمين.
سألها فؤاد سليم عن اسمها، ولاحظ أن لغتها العربية غير سليمة، واقترح عليها أن تعمل في التمثيل ووافقت على الفور، فعرضها على جورج أبيض الذي أسعده أداؤها واستحسنه، وقرر أن يضمها لفرقته المسرحية، ولكنه طلب من فؤاد سليم أن يعلمها اللغة العربية وبالفعل في خلال 3 أشهر أصبحت تتقنها تحدثا وكتابة.
بدأت بديعة مصابني العمل مع فرقة جورج أبيض، ومع عتيادها للخروج والمكوث لساعات طويلة تعمل خارج المنزل، بات يزعجها تساؤلات والدتها اليومية، واستنكارها لتصرفات الطفلة بديعة، ولذلك خططت أن تتخلص من هذا كله كي تكون لها الحرية في فعل ما تريد، فتحكي في أحد لقاءاتها التلفزيونية الناردة مع المذيعة المصرية ليلى رستم، كيف أقنعت والدتها أنها ترغب في الرحيل من مصر، واشترت تذكرة واحدة لوالدتها، وجعلتها تركب القطار وحيدة، لتعود الأم إلى الشام وحدها وتبقى هي في مصر.
ومن فرقة جورج أبيض انتقلت إلى العمل مع الشيخ أحمد الشامي، الذى كان يمتلك فرقة متجولة، فانضمت لها وجابت معه قرى وربوع مصر المختلفة -مما أكسبها وهي ما زالت طفلة في سن صغيرة- خبرة التعامل مع الجمهور ومعرفة ميوله، فكانت تقوم بالتمثيل والاستعراض واستطاعت أن تحصل على مساحة أكبر من الأدوار.
علاقتها بنجيب الريحانى:
وجاء التعارف على نجيب الريحاني من خلال المشاركة في فرقته ومسرحه، فكانت لسنوات طويلة بطلة الروايات التي كان يعكف بديع خيري على تأليفها، مثل "الليالي الملاح"، و"مراتي في الجهادية"، و"المراكز دي برابولا"، و"الشاطر حسن"، و"البرنسيسة"، إلى جانب مجموعة من الأغنيات الاستعراضية اشتهر منها "في الضلمة"، و"الغيرة نار"، و"غني يا بلابل"، و"يا أهل القانون"، و"بريه من الافندي"، وشكلا معا ثنائيا فنيا متميزا.
بخلاف العمل، جمع الزواج بين بديعة مصابني ونجيب الريحاني عام 1925، رغم اختلاف طبيعة حياة كل منهما، فهي فتاة مرحة تحب الحياة وتهوى أن يتخلل يومها الحركة والنشاط والتعارف ولقاء الجميع، بينما كان للريحاني طبيعة منغلقة على نفسه، يفضل أن يجتمع بصديقه بديع، ويمضي الوقت في منزله، قليل الكلام ولا يرغب في التعبير عن نفسه. 
وعلى مدار 18 عاما، هي عمر زواجهما، تخللت الخلافات علاقتهما كثيرا، وانفصلا دون طلاق أكثر من مرة، كونها كانت تريد زوجا تشاركه أغلب تفاصيل يومها، بينما هو يفضل الانزواء عن الجميع. وفي عام 1934 افتتحت بديعة الكازينو الذي يحمل اسمها على صالة عماد الدين، ليكون واحداً من أهم معالم شارع عماد الدين، وملتقى محبي الفن، وكذلك مقصد رجال الدولة والسياسة والفن.
داخل كازينو بديعة، وجد كل باحث عن فرصة ضالته، وكان وجهة كل عاشق للفن وصاحب موهبة لا تعوض، فعلى مسرحها غنى فريد الأطرش ونال شهرته، وعرف الجمهور إسماعيل ياسين وحفظ مونولوجاته، وزخر الرقص الشرقي بظهور تحية كاريوكا وسامية جمال، فنالت بديعة لقب "عميدة الرقص الشرقي".  
كانت تتقن بديعة مصابني ما يقرب من خمس لغات، فأجادت الإسبانية والعربية والفرنسية تحدثا وكتابة، كما كانت تحكي بالإنجليزية والتركية بطلاقة، مما سهل لها التواصل مع ثقافات مختلفة، فاعتادت أن تسافر إلى أوروبا مرتين في العام الواحد، تتعرف على أشهر الرقصات وتطلع على أحدث صيحات الأزياء والمناظر على مسارح وكازينوهات أوروبا، فتاتي بها ليكون مسرحها بوابة لعالم مختلف.
جمعت مصابني على مسرحها بين التخت العربي والموسيقى الشرقي، وكذلك الرقصات الإسبانية والأوروبية فتمكنت من إمتاع الحضور واكتسبت شهرة جعلت الكازينو الخاص بها مختلفا، وكانت تشارك الفتيات اللاتي يعملن معها الرقص والاستعراض والغناء أحيانا، ورغم عدم إتقانها للرقص كانت على علم بتقنياته وتعلم كيف تتمكن في حركاته، كما كانت تجيد الإدارة، فاستطاعت بطريقة تحمل كثيراً من الصرامة والصدق والحب أيضا أن تدير كازينو يعمل به ما يصل إلى 500 شخص. 
لم تحتمل بديعة مصابني رفقة الريحاني أكثر من 18 عاما، وفي سنة 1943 انفصلت عنه بصورة نهائية، وإن كانت صداقتهما ظلت مستمرة. ومع بداية تأثر الكازينو بظهور السينما واندلاع الحرب العالمية الثانية، قررت بديعة أن تتجه إلى الإنتاج السينمائي، ولكن لم يستمر الأمر كما خططت له، وبدأت الضرائب تطالبها بتسديد ديون ومبالغ ضخمة فما كان منها إلا الهروب إلى لبنان. 
انتقلت بديعة مصابني إلى لبنان عام 1950، وعملت على استكمال آخر سنوات عمرها في الاستمتاع بالمال الذي جمعته، وفضلته على كثير من طلبات الزواج ورغبات المحبين، ولكنها تزوجت من أحد الأشخاص مدة لم تزد عن شهرين بسبب طمعه في مالها، ولم تحظ بفرصة إنجاب الأبناء بعد وقوعها في أحد المرات في أثناء تأديتها لرقصة ما وتعرضها للإجهاض، ولم تكن تعلم بحملها.
عاشت سنواتها الأخيرة تدير متجرا خاصا، بعد أن تحصّل أقاربها على ثروتها، ولم يبق لها سوى ما يبقيها على قيد الحياة، واتسمت بديعة بالتعاطف مع الآخرين، رغم ما توحي به شخصيتها القوية فكانت تقود سيارتها في شوارع لبنان وتقوم بتوصيل كل شخص على قدميه إلى منزله، متذكرة كيف عاشت طفولة بائسة وفقيرة ولم ترغب في أن يمر آخرون بتجربتها، فكانت كمن يهون عليهم، وعاشت دوما محبة للطبيعة والحيوانات، ولديها قدرة كبيرة على العطاء، مهتمة بإقامة الحفلات الخيرية ومساعدة المحتاجين. 
حتى سنواتها الأخيرة، احتفظت بديعة مصابني بروحها المرحة وحبها للحياة، وكانت قادرة وهي بعمر الـ 75 أن تغني أغنياتها وتحرك الصاجات بيديها، نادمة على أنها لم تتزوج وانشغلت بالفن وفضلته على أن تصنع لنفسها حياة أسرية هادئة مع زوج محب، لترحل وحيدة في 23 يوليو عام 1974 في رحلة بلبنان.