جدران منزل إلمور ليونارد أعظم روائي بوليسي تخفي وراءها جريمة
يعلم إلمور ليونارد، مؤلف الروايات البوليسية الأميركي الشهير والمعروف بين أصدقائه بلقب «دوتش»، وزوجته كريستين الكثير عن أمور الحياة.
ولذا، عندما يتعرضان لمواقف سيئة فإنهما يدركان تماماً أن هذا الوجه جزء من وجوهها في بعض الأحيان.
بالأمس تعرّض الزوجان لأحد هذه المواقف.
فإبان وجودهما في منزلهما الآخر بمنتجع بالم بيتش في ولاية فلوريدا، تعرض منزلهما في بلومفيلد فيليدج بولاية ميشيغان للسرقة.
ولدى عودة الزوجين اكتشفا سرقة ملابس ومجوهرات بقيمة 15.000 دولار، وسرعان ما اتضح أن وراء السرقة خادمات يعملن لديهما.
وعلى الفور بادر ليونارد وزوجته إلى طردهن. طبعاً يتوقع المرء انتهاج المجرم أسلوباً ينطوي على قدر أكبر من الابتكار والذكاء لدى الإقدام على سرقة منزل مؤلف للقصص البوليسية، ولكن مع هذا من الممكن أن يستغل «دوتش» هذا الحادث وتحويله إلى فكرة لقصة جديدة بطلها من الأغبياء.
وفي حديثه عن كيفية وضعه القصص، أكد دوتش أنه: «لم يسبق أن كانت لديّ فكرة خلابة قط، بمعنى فكرة لقصة عظيمة تستحوذ على اهتمام القراء.
وإنما أكتب بناءً على فكرة راودتني فحسب، ودائماً ما تتولد الأفكار في ذهني من تلقاء ذاتها». على امتداد نصف قرن، عكف دوتش على تأليف روايات بوليسية تحمل في طياتها قدراً هائلا من العنف والإمتاع معاً.
وأبصرت غالبية هذه الروايات النور داخل غرفة واحدة في المنزل .. تحديداً على المكتب الذي يحمل الآلة الكاتبة. وإجمالاً يصل عدد الروايات التي ألفها إلى 43 تقريباً، ناهيك من القصص القصيرة وسيناريوهات الأفلام السينمائية، حتى أُطلق على إلمور ليونارد، عن جدارة، العديد من الألقاب .. بينها «أعظم روائي بوليسي على قيد الحياة» و«ملك الجريمة» و«ديكنز منطقة ديترويت».
أضف إلى ما سبق أن دوتش أسهم في صياغة مجموعة هائلة من الأعمال الأدبية والأفلام السينمائية، وتحوّل في الفترة الأخيرة إلى مصدر إشعاع ثقافي لدرجة أن أي قصة تتناول جريمة عنيفة تتميز بحوار مثير باتت تنتمي إلى الأسلوب «الدوتشيكي».
وعندما طرحت أخيراً النسخة الجديدة من لعبة الفيديو «غراند ثيفت أوتو» وصفتها صحيفة «نيويورك تايمز» بالقول إن بمقدورها «منافسة روايات إلمور ليونارد». أما فيلم «بلب فيكشن» فيعد أفضل أفلام إلمور ليونارد التي لم يكتبها، إذ اعترف مخرجه كوينتين تارانتينو أنه «مدين بالكثير» لـ«دوتش» عندما عرض الفيلم في دور السينما للمرة الأولى.
عندما توجهنا إلى منزل «دوتش» للتحاور معه، توقعنا أن نقابل شخصاً مفعماً بالغرور والصلف، لكن بدلاً من ذلك وجدنا شخصاً نحيفاً وقصير القامة يتميز بدماثة الخلق والروح المرحة، ومع أنه يبلغ من العمر 82 سنة بدا وكأنه شاب في العشرينات من عمره أثناء تحركه النشط بمختلف أنحاء المنزل.
«دوتش» أعرب عن اعتقاده بأن ثاني أسوأ فيلم أنتج على الإطلاق هو النسخة الأولى من «بيغ باونس» (الارتداد الكبير)، الذي قال عنه أنه «كان بشعاً». واعتمد الفيلم على قصة كتبها دوتش في عقد الستينات.
وأضاف دوتش بقوله: «أما الفيلم الأسوأ بلا منازع فكان النسخة الثانية من «بيغ باونس» وقد التقيت مورغان فريمان، وهو ممثل جيد أعشقه، أثناء التصوير وسألته «ماذا تفعل هنا؟»، فأجاب «أنا رجل القانون». فقلت «لا أعني دورك. وإنما ماذا تفعل في هذا الشيء؟».
من جهة أخرى، بالرغم من أن دوتش يعيش في المنطقة المحيطة بمدينة ديترويت، تدور رؤيته الرئيسة حول الأوضاع العامة في الولايات المتحدة خلال حقبة ما بعد حرب فيتنام عندما تردت أخلاقيات الناس وأصبحت السخرية السبيل الوحيد للبقاء على قيد الحياة. ويعج عالم روايات دوتش برجال شرطة لا يمثلون الخير المطلق ومجرمين لا يحملون شراً كاملاً بداخلهم. كما تخلو قصصه من إصدار الأحكام، ولا يعلم الأشرار أنهم أشرار.
بجانب أنه تسود القصص نبرة تهكمية، وتبرز فيها التفاصيل الهائلة للحانات وزنزانات السجون. في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، من المقرر أن يتسلم دوتش جائزة إف. سكوت فيتزجرالد للإنجازات في مجال الأدب الأميركي من «مؤتمر فيتزجرالد الأدبي» في روكفيل بضواحي العاصمة واشنطن، وللعلم بين من بين الفائزين السابقين بالجائزة كل من نورمان مايلر وجون أبديك وجين سميلي ووليام كينيدي.
وكان «دوتش» قد بدأ مشواره مع الكتابة بالعمل لصالح إحدى وكالات الإعلانات في الخمسينات، ولم تحقق أي من رواياته أفضل المبيعات بين الكتب الأميركية على امتداد 30 سنةً. وأوضح «دوتش» أنه بدأ أخيراً يجني «قدراً أكبر من التقدير باعتباري كاتباً أدبياً ... لكنني لا أعلم كيف حدث ذلك».
داخل المنزل، يعمل دوتش بانتظام على مكتبه حيث توجد آلة كاتبة طراز «آي. بي. إم.» على إحدى جوانبه. إنها حجرة مكتب لطيفة بشكل عام، وتضم جهاز تلفزيون، بينما لا يملك دوتش جهاز كومبيوتر.
ثم هناك حجرة عائلية تضم صوراً لأبنائه الخمس و13 حفيداً وثلاثة أبناء للأحفاد، إلى جانب صورة زيتية جميلة لزوجته كريستين. وُلد إلمور ليونارد في نيو أورليانز بولاية لويزيانا عام 1925، وكان والده موظفاً بشركة جنرال موتورز.
ولذا تنقلت عائلته بين عدة مدن مثل ممفيس ودالاس وأوكلاهوما سيتي، قبل أن تستقر في نهاية الأمر في ديترويت. ومنذ الصغر عشق دوتش روايات أرنست همنغواي.
وفي شبابه، خدم لفترة في سلاح البحرية الأميركية وتزوج بيفرلي كلين، التي ارتبط بها منذ دراستهما في الجامعة سوياً. وبالفعل، نجح دوتش في تكوين أسرة مكونة من خمسة أبناء وحرص على الاستمتاع مع عائلته بقضاء أجازات طويلة بمنتجع بومبانو بيتش في ولاية فلوريدا. عام 1954، أنجب دوتش ولده كريس وهو العام الذي أصدر خلاله عمله الأول «صائدو الجائزة».
وفي هذه المرحلة من حياته عاقر المسكرات وازدادت مشاجراته مع زوجته. ثم انتقل للعيش بمفرده، وعلى مدار ثلاث سنوات تردد على جلسات جمعية «ألكوهوليكس أنونيمس» بهدف التوقف عن تناول الكحوليات. وقوبل العمل الذي عكف عليه في تلك الفترة، وهو رواية «الرجل المجهول»، بالرفض من جانب 105 دار نشر، قبل أن يعثر على دار تقبل نشرها.
عام 1977، انفصل دوتش وكلين عام 1977، وهو العام الذي أقلع فيه عن المسكرات. وبعد ذلك، التقى زوجته الثانية جوان لانكستر في إحدى النوادي. وبدأ مشواره مع الشهرة والثراء. وعاش وزوجته الجديدة في سعادة إلى أن قست عليهما الحياة وتوفيت زوجته بعد صراع مع مرض السرطان عام 1993. نظراً لبقائه وحيداً في المنزل، اضطر دوتش إلى الاستعانة بأحد العاملين لدى شركة لخدمة الحدائق.
وأرسلت الشركة كريستين التي تصغر دوتش بـ23 سنة، وبعد شهور قليلة، تزوجا. ثم لقيت أبنتهما جيرالدين حتفها بسيارة سائق مخمور، مما شكل تجربة كارثية للوالدين.
طوال رحلة الحياة هذه فضل ليونارد التعامل مع أحداثها بعيداً عن الأضواء والصخب ووسائل الإعلام. وعلى مدار السنين سنة بعد سنة حرص على طرح كتاب جيد، بحيث بدا وكأن الكتابة لا تكلفه أدنى مجهود. وهو ما يفسره بالقول «إنني أفعل بالضبط ما أرغب في القيام به. هذا هو أفضل وضع ممكن، حيث أجلس وأنظر من النافذة عندما أشرع في الكتابة.
ثم أركز في الأمر ولا أكاد أصدق أنني أجلس هنا لوحدي أكتب هذه القصة وأشعر بالإثارة تجاهها وأحصل على أموال مقابلها ... الكثير من المال. إنني لست ملتزماً بأسلوب تجاري بعينه لتلبية حاجة تجارية، وإنما أكتب بالأسلوب الذي يروقني، والحمد لله يلقى هذا الأسلوب رواجاً». ولقد نجح حقاً في جمع عدة ملايين من الدولارات.
وفي ما يخص دوتش الإنسان من الواضح أنه يحب أبناءه حباً شديداً وهم يبادلونه الشعور ذاته. وها هو أنهى للتو كتابه الأخير «كلاب الطريق». وحتى الآن، مازال يمارس الكتابة بأسلوبه المعتاد، إذ يكتب من الساعة 9 صباحاً إلى 6 مساءً، ويبدأ بالكتابة على ورق عادي، وعندما يعجبه المشهد يكتبه على الآلة الكاتبة. ولا يبدأ عمله قط بناءً على خطة عامة في ذهنه، وإنما تتوالى الأفكار على ذهنه من تلقاء ذاتها.