انطلاق أسبوع باريس للهوت كوتير لخريف وشتاء 2009

لا تحتاج لأن تكون تاكاشي موراكامي لكي تدرك بأنه عندما تلتقي الموضة بالفن، فإن النتيجة لا تكون مبهرة فحسب، بل مثيرة لكل الحواس. وهذا ما رأيناه أمس، (اليوم الاول) من اسبوع «الهوت كوتير» بباريس لخريف وشتاء 2009، حيث أعطى مصمموها الإحساس بأنهم اكتسبوا ثقة أكبرَ في هذا المجال، فتوالت خبطاتهم الفنية. معظمنا بات يعرف أن الراحل إيف سان لوران، أول من ارتقى بالموضة إلى مصاف الفنون مطلع الستينات، فيما تؤكد لنا المواسم والعروض أنه لن يكون الأخير.


وما يحضرنا في هذا الموسم ليس ذكرى سان لوران كونه كان بمثابة الأب الروحي لهذا الموسم قبل ان يتقاعد، فقط، بل ايضا مقولة من اقواله بأن «الهوت كوتير»، تتمتع «بأسرار كثيرة، لكن خفية ألا يسمع همسها إلا قلة لهم القدرة على توريثها لأجيال أخرى». الفرنسي رولان موريه أكد امس أنه واحد من هؤلاء. فقد قدم تشكيلة استوحاها من الفن المعاصر، وبالذات من فنانين أمثال سيزار ومورير وغيرهما، كما لعب فيها على الظل والضوء بشكل لا يترك أدنى شك في أنه يتمتع بعيون مصور محترف. فقد غلب عليها اللونان الابيض والاسود باستثناء قطع قليلة أدخل عليها نفحات من ألوان الأرجواني أو الأحمر النبيذي.

رولان قال إنه اطلق فيها العنان لخياله الفني من حيث تلاعبه بالضوء والظل، والأحجام الضخمة التي تخفي بين ثناياها تصميمات في غاية العصرية، لكنه قال ايضا انه راعى فيها مخاطبة امرأة شابة وعصرية بكل المقاييس. امرأة لم تعد تريد البهرجة في التطريزات، لأنها تريد ان يقتصر البريق على مجوهراتها. ومن هنا جاءته فكرة فساتين فنية من حيث التصميم، بسيطة من حيث الألوان والتطريزات. والطريف ان هذا المصمم الشاب يبدو وكأنه يتفاءل بالساعة الحادية عشرة والنصف صباحا، فعرضه أمس كان في هذا التوقيت، وهو نفس التوقيت الذي قدم فيه أول تشكيلة تحمل اسمه الخاص عام 2007.

وبالنظر إلى ما قدمه من تصميمات رائعة، فإنه لا يلام على هذا التفاؤل. التشكيلة التي قدمها امس تؤكد أنه فعلا من الذين أسعفهم الحظ لتهمس لهم الـ«هوت كوتير» بأسرارها على أمل ان يورثها لأجيال قادمة، لاسيما أنه في زمن تعيش فيه باريس أزمة شح في عدد مصممين شباب من أبناء جلدتها، بعد أن تقاعد البعض، أو غيب الموت بعضهم الآخر، مما جعلها تضطر إلى دعوة شبان أجانب ليحملوا المشعل ويبقوا على شعلته مضيئة.

رولان موريه ممن باتت تستدعيهم غرفة الموضة الباريسية في كل موسم، ولم لا، فهو في الأقل، يعرف اصول المهنة، حيث قضى عشر سنوات في دار جون لوي شيرير العريقة، التي أسعفه الحظ بدخولها وعمره 30 عاماً فقط، ليكون اصغرَ مصممِ أزياءٍ رفيعةٍ في كل «افوني مونتين» بباريس. وثمرة هذه العشر سنوات واضحة في أسلوبه الذي لا يترك أدنى شك بأنه تلميذ نجيب غرف من نبع الكبار، لاسيما أنه سبق له العمل قبل ذلك في دار «بالنسياجا» وعمره لا يتعدى العشرين.

التأثير الثاني الذي يبدو واضحاً في أسلوبه عشقه للملابس المسرحية، وهو الأمر الذي يسهل تفسيره. فقد سبق أن عمل في هذا المجال، بل تم ترشيحه عامي 2006 و2007 لجائزة موليير. لكن طموح ستيفان بلا حدود، وفكرة ان تكون له دار خاصة به للأزياء الرفيعة كانت بمثابة الحلم. فالـ «الهوت كوتير» هي الميدان الذي يتيح للمصمم استعراض قدراته الفنية وإمكاناته الخيالية والتقنية على حد سواء، وتأسيس دار خاصة به يخرج عفاريت الإبداع من قمقمها ويحررها من مسؤولية الارتباط بإرث وتقاليد غيره. وهذا ما امتعنا به في تشكيلة «الضوء والظل» التي أكدت قدرته على إعطاء المرأة تصميمات تخاطب العصر، كما قد تجد لها أيضا مكانا في المتاحف في يوم ما.

لكن لا يكتمل أسبوع الأزياء الرفيعة بباريس بدون كريستيان ديور، وصولات مصممها البريطاني جون غاليانو، الذي قدم في متحف «لورودان» تشكيلة اقل ما يمكن ان يقال عنها انها رائعة، ونجح كعادته أن يفاجئ الحضور، هذه المرة بتقديم قطع جد معقولة لا تغلب عليها الفانتازيا، كما عودنا، من خلال مجموعة من الفساتين والتايورات، يمكن فعلا رؤية دقتها وجمالها من دون الحاجة إلى شحذ الذهن وقراءة ما بين الطيات. تشكيلة تستحضر احيانا حقبتي العشرينات والثلاثينيات، لبذخها وترفها من جهة، ولتصميمات قبعاتها من جهة ثانية. لكن الحديث عن الاكسسوارات لا بد أن يجرنا إلى الحزام الذي تسيد هنا، سواء كان على شكل كورسيه يغطي معظم الجزء ما بين الصدر والأرداف، او على شكل حزام رقيق يحدد الخصر ليبرز نحوله واتساع التنورة.

مما لا شك فيه أن غاليانو قد يكون تنازل عن جنوحه وجنونه، لكنه لم يخرج عن ثقافة دار «ديور» التي عرفت أوجها بعد الحرب العالمية الثانية بإثارة الكثير من الجدل بسبب سخائها في استعمال امتار وأمتار من الاقمشة في وقت كان التقشف فيه هو السائد. وهذا ما بدا واضحا أمس من خلال التقنيات التي يتقنها أكثر من أي أحد ولا يبخل عليها. بيد ان الأمر الواضح هو ان غاليانو، اكثر مصمم يجد نفسه، وفي كل موسم، أمام تحدٍ جديدٍ، كونه عودنا على الإبهار والفنية العالية، الأمر الذي يجعل العبءَ عليه كبيراً. فما من أحد منا لا يترقب عرضه بفارغ الشوق لمعرفة ما إذا كان سيقدم لنا عرضاً فانتازياً، أو لوحة سريالية أو شخصيات من وحي التاريخ أو من ثقافات بعيدة نسيَّها الزمن.

لكن المشكلة، أو بالأحرى المطب الذي يمكن ان يقع فيه أيُّ مصمم مجتهد هنا، أن يتمادى في الفنية متناسياً ان «الهوت كوتير» يجب ان تكون ايضا عملية وتواكب تطورات العصر. صحيح انها تقوم على الروعة وشد الأنفاس، إلا انها ليست موضة بمعنى الصرعة. فما كان يناسب امرأة بول بواريه، مثلا، في بداية القرن العشرين، او امرأة كريستيان ديور في الخمسينات، لا يناسب امرأة بداية القرن الواحد العشرين، التي تعمل، وتضطر إلى استعمال سيارة، قد تكون فارهة لكن تصميمها، هو الآخر تغير وأصبح أصغر حجماً، مما يجعل الفساتين الضخمة والمنفوخة غير معقولة في أرض الواقع.

غاليانو في هذه التشكيلة اكد انه ابن عصره، رغم اتهام البعض له بأنه يعيش في برج عاجي يطلق فيه العنان لخياله وجموحه المسرحي من دون ان يقرأ تغيرات المجتمع بشكل واقعي، إلا ان الحقيقة التي تؤكدها الأيام، أنه أذكى من خصومه ومتهميه. فتحت طيات السريالية وخيوط الفانتازيا والأمتار السخية من الجنون هناك عملية محسوبة، تعرفها عاشقاته جيدا. وهذا ما تؤكده لنا أرقام المبيعات فيما يخص خط الملابس الجاهزة والاكسسوارات، والـ«بريستيج» الذي يغدقه على دار «ديور» كل موسم «هوت كوتير» لتبقى حديث الناس ووسائل الإعلام. هذه المرة لن تقتصر التشكيلة على العرض و«البريستيج» فحسب.

فليس هناك عروس لن تحلم بفستان ابيض أطلت علينا به عارضة، يتميز بتنورة واسعة استعمل فيها غاليانو القماش باشكال مثلثة تجعلها تتنفس التفرد والتميز، أو بفستان اسود مطرز، هو الاكثر فنية في هذه التشكيلة، بتنورة واسعة تتجه إلى الوراء لتبدو لابستها وكأنها طاووس متحرك.

لكن ما يجعل هذه التشكيلة رائعة، انه فعلا نجح في مزج الفنون بالعملية، باستعماله الكورسيهات التي يمكن الاستغناء عنها لتظهر من تحتها قصات ناعمة وفي غاية الانوثة. هذه الازدواجية في التلاعب بالاكسسوارات، خصوصا الحزام، أسهب فيها من حيث الاقمشة ايضا، إذ لا نستغرب ان نجد فستانا واحدا بأقمشة مختلفة، أو على الأقل استعملت فيه تقنيات مختلفة لتعطيه التنوع. فقد تناغم الشفاف مع السميك، مثلا، والتول مع الحرير وهكذا، والنتيجة ازياء تكمن روعتها في عمليتها.