مقدمة لإقامة أول متحف فى الشرق الأوسط للعطور العربية
إذا كنا نعشق العطور العربية من عود ومسك وعنبر وورد فإن معظمنا يجهل تفاصيله. فنحن نتهافت على اقتناء الثمين منه، نراه يلمع في المحلات الأنيقة ليبدو في عيوننا أغلى من الذهب، ويصلنا دخانه وعبق روائحه، ليزيد دهشتنا، فنتمنى أن نتعرف على أسراره.
وتزداد سعادتنا عندما نتحدث مع العاملين فيه من باعة وصناع. ونحسدهم أحياناً لأن «دوامهم» مزيج من المتعة والسعادة، ولأنهم يتقاضون أجراً على وجودهم في أجواء ذكية. والأهم من ذلك عندما تجد ممن يقطن في الغرب عشاقا للعطور العربية بكل ما تعنية تلك الكلمة من معنى.
أحد هؤلاء كان جون كارليو صاحب دار اسموتيك، وهي المكتبة العالمية للعطور في باريس. عندما التقيته على هامش معرض العطر العربي، الذي افتتحه الشيخ عمار بن حميد النعيمي ولي عهد عجمان بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا، سألته عن سر ولعه بالعطر العربي فأجابني قائلا: «صدقيني لا أحلى ولا أروع من شمة عطر عربي أصيل تشنف أنفك وتصل لديك حتى أعماق النفس البشرية. روائح عطرة يصلنا دخانها بعبقه الغامض ويحيلنا إلى خيالات مفتوحة على عوالم ربما لا نعرف عنها سوى أنها ساحرة».
وأشاد كارليو بدور العرب الذين قاموا بثورة في مجال صناعة العطور وتطويرها، خاصة باختراعهم لآلة الإنبيق التي تساعد على تقطير الأزهار والنباتات والأعشاب واستخراج العطور، مشيرا إلى أن هذه الآلة مستخدمة حتى الآن وتحمل نفس الاسم.
ودار الأسموتاك لمن لا يعرفها عبارة عن مكتبة للروائح، تضم بين رفوفها مجموعة حية من العطور، حيث يتمكّن الزائر من شمّ عطور قديمة لم يعد لها وجود اليوم، واكتشاف عطور أخرى تاريخية أعيد إحياؤها من جديد، دون التخلف عن معرفة آخر ما صدر في ميدان العطارة.
وظلت فكرة إنشاء دار لجمع وحفظ العطور القديمة، محل نظر ودراسة لمدة عشر سنوات من قبل «جون كارليو»، رئيس اللجنة التقنية للجامعة الفرنسية للعطارين، ولم تصبح الفكرة حقيقة ملموسة إلا بعد أن انضمت إليه الهيئة الفرنسية للعطارين، وغرفة التجارة والصناعة بمنطقة فرساي. ويعد العطار «جون كارليو» من بين المبدعين القلائل في ميدان العطور الفرنسية.
وقد ظل ولا يزال منذ ما يزيد عن نصف قرن يتحف العالم بإبداعاته في مجال العطور الراقية وقد ولدت على يديه أغلب عطور دار «جون باتو» الشهيرة مثل: «بارفيوم دو باريس» و«باتو» و«لاكوست» و«فور افر».
كما قام بإحياء عطور أوروبية قديمة وعطور أخرى يعود تاريخها إلى العهد الاغريقي القديم. وتناول المعرض العديد من المحاور التي تخص تاريخ الطيب العربي، وخصص أبرزها للتحدث عن المواد الأولية التي تدخل في صناعة العطر العربي من أزهار ورياحين وأشجار وإفرازات حيوانية، إضافة إلى لما يعرف بـ«كيمياء العطر» ودور المسلمين في تأسيس علم الكيمياء، واختراع الآلات التي ساهمت في تطوير صناعة العطور، وانتشارها في العالم منذ العصور الإسلامية الأولى وحتى نشأة الكيمياء العضوية في القرن التاسع عشر، والتي تم بموجبها تعويض الروائح الطبيعية بالروائح الاصطناعية، وبالتالي انتقال العطر من الشرق إلى الغرب، وإلى فرنسا تحديدا التي تعد اليوم مركز صناعة العطور الحديثة في العالم.
أكثر ما يشد في المعرض هي المعلومات المشوقة التي تمحورت حول «عالم الرائحة» وما هيتها وكيفية شمها وتخزينها في الذاكرة، والمراحل التي يمر بها العطر منذ اللحظة التي يوضع فيها على الجسم حتى يتبخر تماما، والعطار ومميزاته، وكيفية تركيبه العطر وابتداعه لروائح جديدة.
وبالحديث عن الأثر النفسي الفعال للعطور العربية وبخاصة البخور في علاج كثير من الأمراض وخاصة النفسية منها أوضحت الدكتورة سلمى قريشي، الخبيرة في مجال الفنون والآثار والمتاحف الإسلامية والمشرفة على المعرض أن «الدراسات الحديثة أثبتت أن تلك العطور تؤثر بشكل فعال على الدماغ قبل الروح مما يولد لدى المريض إحساسا صحيا بالراحة والسكينة».
وسلطت الدكتورة قريشي الضوء خلال المعرض على نقطة غاية في الأهمية وهي قلة الاعتماد في الوقت الحاضر على العطور ذات المصادر الحيوانية حيث توضح الدكتورة أنه ولأسباب بيئية باتت الدول تحرم صيد غزال المسك والحوت لاستخراج العنبر، لذلك باتت صناعة العطور العربية تعتمد في مجملها على النباتات.
ونصحت الدكتورة قريشي عشاق العطور بالإبتعاد قدر الإمكان عن استعمال العطور الصناعية كونها تحوي مواد كيميائية طيارة تؤثر على مستخدم العطر والبيئة المحيطة به. ولا تربط الدكتورة قريشي بين جودة العطر العربي وارتفاع سعره فالأهم هو التأكد من جودته من خلال مدى مصداقية الجهة المصنعة له.
كان هذا المعرض المهم مقدمة لإقامة أول متحف من نوعه في دولة الإمارات والشرق الأوسط للعطور العربية، لما يحويه من مجموعات فريدة وقيمة.