تونس .. تهدي العالم أفضل خلاصات العطور

العطر.. رائحة نفاذة تسلب الألباب وتدير الأعناق، يستنشقها الرجل فتحيي فيه ذكرى الشباب وتذكره بالذي فات، وترشها المرأة، فتسكنها روح عجيبة، فإذا بها أحلى النساء .. لهذا كله من بإمكانه أن يرفض قارورة عطر تشع بالألحان؟


العطور سعت لها كل الشعوب وحيكت حولها الأساطير، وأوجدها الجميع من عدم، حتى وان كانت من طيب أو من شجر أو من زهرة تذهب السأم وتعيد للروح بهجتها، لهذا لن نناقش المؤرخين حين يعلموننا أن العطور مرافقة للإنسان منذ بدايته على الأرض، عرفها الفراعنة والإغريق وتفنن فيها الأندلسيون، ورشها الفينيقيون على أثوابهم وفوق مفارشهم، كما تحدث المؤرخون عن استعمال القرطاجنيين زمن عليسة للعطر والطيب في حياتهم العادية وفي مناسباتهم الدينية، ولن نغالي حين نقول إن تونس أرض طيب وعطر منذ قديم الزمان، فالحفريات الأثرية أطلعتنا على مباخر ومقاطر صنعها الأولون من طين لاستعمالها في التطيب والتعطر، بل إن لكل طبقة اجتماعية عطورها.

فالقرطاجنيون، على سبيل المثال صنعوا قنينات من الزجاج لتعبئة العطور والاحتفاظ بها للمناسبات العائلية والدينية، كما أن المرأة القرطاجنية، كانت تتباهى بتلك القنينات وتقبل عليها بشغف، بل إنها تحتفظ بها كتحف داخل مخدعها وذلك لدقة صناعتها وجمال أشكالها.

والعطور في تونس يمكن أن تأتي من الغابات الطبيعية المنتشرة في شمال البلاد وغربها وكذلك شمالها الغربي، وهي مساحات هامة من الشجيرات الغابية الطبيعية من بينها على وجه الخصوص «الريحان» و«الذرو» و«الكلتوس» و«الخلنج» وهي عبارة عن غابات ممتدة وبتقطيرها نحصل على الزيوت الروحية لأفضل العطور، لذلك يتزاحم عديد من الشركات الغربية حاليا على الغابات التونسية، وتستأجر عددا هاما من العائلات القاطنة في الوسط الغابي لقص الشجيرات الصغيرة وجمعها وبيعها إلى تلك الشركات التي تحاسبهم بحساب الأطنان من الشجيرات.

ويعمل عديد المؤسسات التونسية والجمعيات التنموية على الاستجابة للطلبات الغربية المتزايدة على الغابات التونسية وما تخلفه من عطور، وغالبا ما يقع تقطير الشجيرات العطرية والطبية في نفس المكان، لذلك يمكن أن تشاهد على بعد أمتار من الطريق قدرا حديديا كبيرا تطبخ فيه النباتات التونسية الغابية التي ستكون ذات يوم في الأسواق العالمية وتستعملها أكبر دور إنتاج العطور والطيوب في العالم وخاصة في القارة الأوربية.

وتأتي العطور التونسية المروجة في أكبر المحلات العالمية من ناحية أخرى من إنتاج الزهور والورود سواء في الحقول الممتدة، أو تحت البيوت المكيفة، ومن أهم الأصناف المزروعة في تونس يمكن أن نذكر «الورود» وأزهار «القرنفل» و«القلايول» و«الستيريليزيا»، ويسعى عديد من المستثمرين التونسيين إلى تجربة عديد الأصناف الجديدة من الزهور التي بالإمكان أن تجد طريقها نحو الأسواق الغربية بالأساس حيث يقع تسويقها كزهور طازجة أو لصناعة العطور الطبيعية. وتمثل بلدان الاتحاد الأوربي أكبر سوق للزهور المقطوفة وتوجه معظم الكميات إلى الأسواق البلجيكية والفرنسية والسويسرية وكذلك الأسواق الهولندية.

وتحتفظ العائلات التونسية بعادات تقطير الزهور بالطرق التقليدية وذلك على غرار نباتات «العطرشاء» و«الزعتر» و«الإكليل» و«البنفسج» و«النسري» و«الورد» و«الياسمين» وتطلق عبارة «مدينة الورد» على مدينة «أريانة» التونسية الكائنة بالقرب من العاصمة التونسية، وهي من بين أهم المدن التونسية المنتجة لورود معروفة باسمها ويقام مهرجان سنوي للورد بها.

إلى جانب كل هذا، يتنافس العديد من المؤسسات التونسية على إنتاج العطور والأصباغ ومواد التجميل التي تعتمد في تركيبتها على خلاصات زيتية مأخوذة من زيوت روحية للنباتات العطرية يتم تحضيرها في تونس لتدخل ضمن التركيبة الأساسية لأشهر العطور العالمية. وتعتبر تونس في مقدمة البلدان المصدرة لزيت «النيرولي» مثلا، الذي يقع تقطيره من روح الزهور المقطوفة من شجرة «الأرنج» المنتشرة بكثرة في مناطق الشمال الشرقي لتونس(محافظة نابل بالأساس)، وكذلك بالنسبة لزبد الزهر، كما تميز دور العطور العالمية زيت «النيرولي» التونسي وتؤكد على جودته التي يعود الفضل فيها إلى المعطيات الطبيعية من اعتدال للمناخ، وجودة للتربة.   

وتعتمد طريقة صنع العطر في مراحلها الأولى على وضع كمية مضبوطة من الخلاصات الزيتية، وخلطها بالمواد الأولية الضرورية من العطر ويضاف لها مقدار محدد من الكحول، ويترك الخليط بعد ذلك يتخمر لمدة تتراوح بين أسبوع وأربعة أسابيع على الأقل، ثم تضاف مادة ملونة وتخلط جميعها بالماء المقطر وهذا حسب تركيبة العطر ونوعيته المحددة، تأتي في نهاية المطاف عملية التعليب، مع العلم ان بعض المصانع التونسية تعمل لفائدة السوق الفرنسية، وبالتالي لا تسوق أية كمية من منتجاتها داخل الأسواق التونسية.

في إطار هذه التجربة تحدث لنا السيد محمد فاروق قاسم، صاحب مصنع لتحويل الزهر، ملاحظا أن الزهر مستخرج من «الأرنج» خلال شهري مارس وأبريل ويتم تقطيرها لتعطينا ماء الزهر وزيت الزهر، مضيفا أن كل طن من الزهور يوفر لنا قرابة الكيلوغرام من الزيت وحوالي 600 لتر من ماء الزهر، ويضاف إلى ماء الزهر غاز مستورد بحساب 200 لتر من الغاز لكل 1000 لتر من ماء الزهر ويقع خلطها فيمتص الغاز قوة ماء الزهر لنحصل في نهاية المطاف على روح ماء الزهر الذي تصنع منه أفضل العطور العالمية.

ويتابع محدثنا: «أكبر دور العطور في أوربا تستورد مشتقاتها الأساسية من تونس والقائمة طويلة، ويتوجه الإنتاج بالأساس إلى فرنسا، إلا أن السوق الألمانية تستقطب بدورها جانبا من الإنتاج التونسي». ويلاحظ السيد محمد فاروق قاسم من ناحية أخرى، أن السوق الأميركية لا تزال عصية على المنتجات التونسية وان كانت تصلها، بطريقة غير مباشرة، من فرنسا نظرا لما تحظى به من مصداقية مرتفعة.

أما السيد طارق الفزاني، رئيس جمعية تنمية 21، فقد أكد وجود برنامج طموح لتقطير العطور بمنطقة سجنان(محافظة بنزرت شمال تونس)، ويقع هناك تقطير أغصان «الكلتوس» و«الريحان» و«الذرو» و«الخلنج» إذ تتوفر بالمنطقة مساحات هائلة من الأشجار الغابية الطبيعية وهي مقدرة بحوالي 30 ألف هكتار، وقد انطلقت عمليات تحديد المردودية الاقتصادية لهذه النباتات ويتم تقطير أربع إلى خمس نباتات كل ثلاثة أشهر وقد تمكن فريق الباحثين من التأكد من أهمية عديد النباتات العطرية والطبية، وشرعت إحدى الشركات الهولندية فعليا في استغلال نبتة «الذرو» وذلك كأوراق للزينة، ومن المنتظر أن تتطور عمليات الاستغلال لتشمل زيوتها النباتية.

فالمعروف أن الطن من أغصان «الكلتوسج تعطينا قرابة الخمسة لترات من الزيوت النباتية ويباع اللتر الواحد على عين المكان بحساب 40 دينارا تونسيا (33دولارا)، واللتر الواحد بإمكانه أن يوفر مالا يقل عن 1000 قارورة عطر، أي بحساب مللتر واحد في كل 99مللترا. بالنسبة للريحان، فان الطن من الأغصان لا يوفر سوى لتر ونصف فحسب من الزيوت الروحية وهي تسوق بـ 250 دينارا تونسيا للتر الواحد، (208 دولارات)، وتقاس كذلك بحساب 99وحدة لكل وحدة من الزيوت الروحية. في المقابل تعرف نباتات «الذرو» بمردودها الضعيف، فالطن من تلك الأغصان لا يوفر سوى لتر من الزيوت، الأمر الذي يفسر ارتفاع سعرها بالمقارنة مع بقية النباتات، فاللتر الواحد يباع بحوالي 1000دينار (833دولارا أمريكيا).

ويرى طارق الفزاني أن هذه الصناعة التي لا تزال بدائية في مناطق الشمال التونسي يمكن أن تتطور خلال السنوات القادمة، خصوصا ان الانتاج هناك «بيولوجي» بالكامل ولم يمسه التلوث البيئي. فمن يقول في العالم الغربي أن تلك العطور التي يتباهى بها أولئك، نساء ورجالا، تطبخ داخل قدر مرمي في جبال الشمال التونسي؟ ومن يسمع بنساء وأطفال يجمعون أغصان «الذرو» و«الريحان» في الجبال وزهور «الأرنج» من أعالي الشجر، ولا يدركون في حقيقة الأمر أنهم يملكون ثروة طبيعية هامة يبيعونها بأسعار زهيدة لا تكاد تذكر، ليجني منها العارفون عشرات الملايين؟