هل فقدت مهنة الطهي في نيويورك بريقها؟

ساعات العمل الطويلة والرواتب المنخفضة أدت إلى أزمة في المطاعم
ساعات العمل الطويلة والرواتب المنخفضة أدت إلى أزمة في المطاعم

خلف الأبواب المتأرجحة لمطابخ المطاعم بمختلف أرجاء البلاد، بدأت الفوضى في الانتشار بعض الشيء.


ومع ذلك، فإن هذا الأمر لا يلاحظه الزبائن، لأنه يجري خلف الأبواب المغلقة، بمنأى عن الأنظار، فلا تزال الطلبات تتدفق، وتخرج في المقابل الأطباق العامرة بما لذ وطاب.

إلا أن هذا لا ينفي أن هناك مشكلة متزايدة يتحدث عنها الطهاة وأصحاب المطاعم على نحو متزايد هذه الأيام.

وتكمن هذه المشكلة في تفاقم صعوبة الوصول إلى طهاة ماهرين، والمقصود هنا ليس كبار الطهاة الذين يتولون وضع قائمة الطعام ويتولون تنظيم العمل داخل المطبخ، وإنما الرجال والنساء حديثي التخرج من مدارس فن الطهي ويسعون بدأب وراء اكتساب المهارة العملية اللازمة.

وبطبيعة الحال، يؤثر نقص الأيدي الماهرة داخل المطبخ بالسلب على الطهاة في شيكاغو، حيث يشكو أصحاب المطاعم أنهم أصبحوا حاليًا يتلقون طلبات عمل أقل بكثير عن الحال في السنوات السابقة.

وعن ذلك، قال بول كاهان، شيف محلي، في حديث له مع صحيفة «شيكاجو تريبيون» الأسبوع الماضي: «لقد بلغ الأمر حدًا اضطرنا إلى أننا عندما نعثر بالصدفة على طهاة ماهرين نسارع إلى تعيينهم حتى عندما لا تتوافر وظائف شاغرة لدينا، تحسبًا للوقت الذي ستصبح فيه وظيفة شاغرة في وقت ما».

ويمثل هذا الأمر مشكلة أيضًا داخل نيويورك، حيث أصبح الطهاة الماهرين سلعة نادرة على نحو متزايد. 

وفي هذا الصدد، قال ألفريد بورتيل، الشيف ومالك مطعم «جوثام بار آند جريل» في مانهاتن والحاصل على نجمة «ميتشيلين»: «منذ سنوات قليلة، عندما كانت تتوافر لدينا وظيفة شاغرة في المطبخ، كان يدفعني ذلك للاطلاع على 12 سيرة ذاتية، واتصل بـ3 أو 4 لتجريبهم داخل المطبخ، لاتخاذ قرار.

الآن أصبح الوضع مقلوبًا، أصبح هناك طاه واحد و12 مطعمًا»، وذلك حسب تصريحاته لمجلة «فورتشن».

والواضح أن هذه المشكلة تمتد إلى مطاعم بغرب البلاد. من جهتها، تحاول سياتل التأقلم مع المعضلة ذاتها، وكذلك سان فرانسيسكو.

في الواقع، يكمن السبب ببساطة أن جاذبية وإغراء حلم الصعود داخل صناعة المطاعم لم يعد كما كان من قبل، وكان من شأن ساعات العمل الطويلة وانخفاض الراتب علاوة على سلسلة من العوامل الثقافية والاقتصادية الأخرى، تقليل الرغبة في الالتحاق بوظائف في المراتب الدنيا من الهرم الوظيفي بالمطاعم عما كان الوضع سابقا، مما أدى إلى معاناة الكثير من المطابخ من نقص مزمن في أعداد العاملين بها.

وتتمثل واحدة من أوضح العقبات أمام جهود تعيين طاه جيد، ناهيك بإيجاد شخص على استعداد للعمل داخل المطبخ هذه الأيام، في أن العيش بكبريات المدن الأميركية أصبح من المتعذر تحمل تكاليفه على نحو متزايد. 

وينطبق هذا الأمر، على سبيل المثال، على نيويورك، التي من المتوقع أن يتقاضى فيها الطاهي العادي ما بين 10 و12 دولارًا في الساعة، بينما يصل متوسط الإيجارات إلى 1.200 دولار، مما يعني أن العيش بالمدينة أصبح أقرب للمستحيل. 

وعليه، ينتهي الحال بالكثيرين بالعيش بعيدًا عن المطاعم التي يعملون بها. وأضف إلى ذلك الوقت المتأخر الذي تنتهي فيه النوبات الليلية.

علاوة على ذلك، فإن خريجي مدارس الطهي عادة ما يتحملون كثير من الديون، وهو عبء يعجزون عن الوفاء به أحيانا.

بيد أن ذلك لا يعني أن المطاعم تخدع العاملين بها وتستغلهم لتكديس الأموال لديها، وإنما الحقيقة أنه لا تتوافر الكثير من الأموال التي يمكن تدويرها داخل هذه الصناعة. 

من جهته، يقدر الاتحاد الوطني للمطاعم متوسط هامش المطاعم متوسطة المستوى (التي يبلغ متوسط الشيك بها 25 دولارا أو أعلى) بـ4.5 في المائة فقط. 

ورغم أن الطهاة النجوم والمطاعم الناجحة موجودون بالفعل، فإنهم يمثلون الاستثناء، وليس القاعدة. كما أن جزءا كبيرا من الأموال التي يجنيها هؤلاء الطهاة تأتي من ظهورهم في برامج تلفزيونية أو إصدارهم كتب وما إلى غير ذلك.

وعلقت كيم مكلين، من مؤسسة «إن بي دي غروب» البحثية المعنية بالمجال، بقولها: «ليس هناك عائد».

من ناحية أخرى، يشعر البعض بالقلق من أن برامج الطهي التلفزيونية خلقت انطباعًا خاطئًا لدى الشباب الطامحين للعمل كطهاة في أن سبيل النجاح ليس الصبر والمثابرة، وإنما الشهرة المفاجئة.

كما أن برامج المذاعة عبر «فوود نتورك» و«برافو» وغيرهما أشاعت انطباعًا كاذبًا بأن العمل في المطابخ أمر في أغلبه إبداعي ومسلي، بينما في الواقع يواجه الطهاة الشباب تجارب مريرة خلال بدايات عملهم بالمطبخ.

وعن العمل داخل المطابخ الحقيقية قال أندي ريكر، الشيف وصاحب مطعم «بوك بوك» بمدينة نيويورك في تصريحات صحافية عام 2013: «المكان ضيق وساخن، ولا يتوفر لديك مساحة كبيرة للحركة. كما أنك أثناء العمل تعاني من نقص الماء بجسدك، بينما تدور حركة جنونية من حولك، وبينما الأرضية دهنية الملمس، يتصاعد لهيب النار وتوجد مياه من حولك. يختلف هذا الحال عن الوجود داخل مطبخ أستوديو».

كما أن هناك تغييرًا آخر غير ملحوظ، لكنه مهم، يحدث على مستوى الولايات المتحدة بأكملها لا يبشر بالخير بالنسبة لصناعة المطاعم، ألا وهو أنه بعد سنوات من تدفق اللاجئين المكسيكيين بصورة مستمرة، والذين أبدوا رغبتهم وموهبتهم في العمل كطهاة، بدأ هذا السيل في التحرك بالاتجاه المعاكس. 

وتشير الأرقام إلى أعداد المهاجرين غير الشرعيين الذين يعيشون داخل الولايات المتحدة أصبح ثابتًا على امتداد العقد الماضي (وقد بلغ ذروته منذ ثمانية أعوام، عام 2007). بحلول عام 2012، كان صافي الهجرة من المكسيك صفرًا بالفعل، أو ربما حتى سلبيًا، مما يعني أن أعدادًا أكبر من المكسيك أصبحوا يخرجون من عن أولئك الذين يدخلون البلاد.

قطعًا هذه أنباء بالغة السوء لصناعة اعتمدت بشدة على هذه الفئة السكانية. عام 2010، قدرت إحصاءات مكتب إحصاءات العمل بأن 1.4 مليون من إجمالي نحو 12.7 مليون عامل داخل صناعة المطاعم، ينتمون للمهاجرين الشرعيين أو غير الشرعيين.

عام 2008، قدر مركز بيو أن نحو 20 في المائة من طهاة البلاد، البالغ عددهم أكثر من 2.5 مليون شخص، من المهاجرين غير المسجلين.

ومع ذلك، ورغم المصاعب التي تعانيها الصناعة، لا تزال مطاعم جديدة تفتح أبوابها، الأمر الذي قد يتسبب في تفاقم المشكلة. 

وفي الوقت الذي يتراجع العرض من المرشحين المحتملين للعمل، يزداد المعروض من الوظائف، مما يخلق فجوة متنامية بين العرض والطلب.

ورغم ذلك، سيظل مرتادو المطاعم في الوقت الحاضر يستمتعون بأوقاتهم داخل المطاعم ويتناولون وجبات لذيذة من دون أن يدركوا أنه خلف الأبواب المتأرجحة هناك فريق عمل يعاني بشدة من نقص الأيدي العاملة الماهرة، وذلك لأن صناعة المطابخ من الصناعات المتميزة بقوة التحمل والمثابرة، وتعد الضغوط بها واحدة من الحقائق اليومية. 

أما إذا استمر الوضع، فإن الأمر لا يعدو كونه مسألة وقت قبل أن تتسع دائرة المشكلة وتمس المواطن العادي وتصيب الصناعة بأكملها بالتباطؤ، وقد تجبر المطاعم نهاية الأمر على إغلاق أبوابها.