قصة أول جاسوسة تستخدم اللاسلكي
12:27 م - الخميس 10 سبتمبر 2015
«هي بطلة الحرب المسلمة الوحيدة المعترف بها في بريطانيا، وتمثالها هو أول نصب يقام تكريما لامرأة أسيوية في البلاد».. هكذا تحدثت صحيفة «جارديان» البريطانية، عن فتاة مسلمة تحمل الجنسيتين الهندية والأمريكية، أصبحت واحدة من جواسيس بريطانيا الأكثر فعالية في باريس المحتلة من قبل النازيين في فترة الحرب العالمية الثانية.
نور عنايت خان، أميرة هندية قصة حياتها مليئة بالدراما ومشبعة بكل معاني التضحية والشجاعة التي تستحق أن تخلد، أبدت شجاعة منقطعة النظير انتهت بتضحيتها بروحها دفاعا عن أفكارها وما تؤمن به، فهي واحدة من عدد من المسلمين الذين ضحوا بأنفسهم لإنقاذ آلاف اليهود من محرقة النازية ومحاربة قوات الحلفاء في هزيمة النازية في فترة الحرب العالمية الثانية، لكن يجهل دورهم الكثيرون.
ولدت «نور»، التي أوردت قصتها صحف «واشنطن بوست، ونيويورك تايمز» الأمريكيتين، و«جارديان، وإندبندنت» البريطانيتين، وموقع هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»، لأب هندي من سلالة نبلاء أي الأمراء، يعرف بحضرة عنايت خان، كان واعظا مسلما وموسيقي صوفي من الهند سافر في السنوات التي سبقت الحرب العالمية إلى الولايات المتحدة الأمريكية للتبشير والتعليم، حيث التقى الأمريكية أورا بيكر، المولودة في ألباكيركي وتزوجها وانتقلوا إلى موسكو، حيث ولدت «نور» في عام 1914، وكان لها أخت غير شقيقة تٌدعى بيري بيكر.
وفي طفولة «نور»، هربت عائلتها من الفوضى التي كانت سائدة في العاصمة الروسية، موسكو، لتعيش في العاصمة البريطانية، لندن، ثم إلى العاصمة الفرنسية، باريس، حيث اشترى لهم راع ثري فيلا على مشارف المدينة، ذلك البيت الذي أصبح يعرف باسم «بمنزل الفضل»، أو «بيت البركة».
وكان الزوار يأتون لسماع والدها، لتتشبع الفتاة الشابة «نور» بذلك كله، حيث وصفت تلك الفترة أنها الأكثر مثالية في حياتها، حيث تعلمت الموسيقى وأصبحت موهوبة في العزف على آلة القيثارة، لكنها انتهت بشكل مأساوي عندما توفي والدها بشكل غير متوقع، وأقعد شدة الحزن والدة «نور»، وتولت «نور» دور رعاية أشقائها الأصغر سنا.
التحقت «نور» بجامعة «سوربون» ودرست سيكولوجيا الأطفال، ونشرت عدة أبحاث أكاديمية، منها كتاب عن الأديان في الهند، كما كانت كاتبة قصص قصيرة للأطفال، وفور تخرجها، نشر لها كتابا يحوى قصص خيالية للأطفال قبل بلوغها سن 25 عاما.
في عام 1940، أي بعد عام من اندلاع الحرب العالمية الثانية، احتل الألمان فرنسا وفرت «نور» ووالديها مثل ملايين الفرنسيين واستقلت قاربا من ميناء بردويو جنوب غرب فرنسا إلى إنجلترا.
كانت «نور» فتاة واعية فكريا وآمنت بفلسفة «غاندي» والجهاد المدني «اللاعنف»، وعندما لاحظت الخطر الفاشي والنازي يهدد العالم، وفور وصولها إلى انجلترا، وبعد احتلال ألمانيا لفرنسا، تطوعت للجيش البريطاني لتسهم في مقاومة «هتلر»، انضمت «نور» على الفور إلى قوات النساء المساعدة للقوات الجوية كمشغلة للراديو اللاسلكي، حيث كانوا يبحثون عن مجموعة من النساء يتطوعن للتسلل وراء الخطوط الألمانية والقيام بعمليات تخريب وتجسس وتعاون مع حركة المقاومة السرية «أندر جراوند».
انضمت «نور» وهي في العشرينات من عمرها لهذه المهمة التي تطلبت معرفة جيدة باللغتين الفرنسية والألمانية وثقافة عالية وذكاء حادا، وتم تدريبها على الهبوط بالمنطاد، والاتصالات اللاسلكية والشفرة، وتم تجنيدها من قبل السلطة التنفيذية للعمليات الخاصة SOE للعمل في «وحدة العمليات السرية للقوة الجوية البريطانية» لتكون ضمن أفراد العمليات الخاصة، وهي وحدة سرية تم إنشاؤها من قبل ونستون تشرشل ومكلفة بالحصول على المعلومات من وراء خطوط العدو لمساعدة مقاتلي المقاومة المحلية.
وكانت «نور» ضمن أفراد العمليات الخاصة الذين ذهبوا سرًا إلى باريس بعد تلقي تدريباتها في لندن عام 1942، ووجدت دعمًا من العناصر السرية الذين تعدهم بريطانيا ليوم الغزو، وتعتبر هذه الوظيفة هي الأكثر خطورة بين كل المناصب والوظائف بجهاز العمليات الخاصة، وذلك لأن سلطات الاحتلال كانت ماهرة في تتبع إشاراتها، والتعرف على مصدرها.
السجلات البريطانية أشارت إلى أنه في بداية تجنيد «نور» كتب مرؤوسوها تقارير سلبية ضدها، وقد يكون هذا نتيجة التحيز ضد بشرتها الداكنة وعقيدتها الإسلامية، كما وصفت «نور» بالمثالية، وهو الأمر الذي رآه رؤساؤها كعائق، فعلى سبيل المثال، قالت لهم إنها ترفض أن تكذب، لكن ما عزز فكرة تجنيدها ووجودها داخل التنظيم كان امتلاكها مهارات إذاعية ممتازة، وكانت هناك حاجة ماسة لمشغلي الراديو في فرنسا، حيث كانت شاحنات التتبع النازية تكتشفهم بكل سهولة، وكان متوسط زمن البقاء على رأس العمل 6 أسابيع.
في عام 1943، نقلت «نور» جوا بطائرة تجسس إلى فرنسا ثم هبطت بالمنطاد في ليل معتم ومنطقة موحشة نائية بالريف الفرنسي، حاملة معها جهاز لاسلكي، وخريطة للمنطقة، وبوصلة،وراديو في حقيبة بدت مثل الآلة الكاتبة، واتبعت «نور» الخريطة للوصول إلى رجال المقاومة في باريس، وانضمت إليهم ووبدأت «نور» في تنظيمهم للقيام بعمليات تخريبية كنسف الجسور والسكك حسب التوجيهات من قيادتها في لندن، وخلال ذلك واصلت تزويدها بالمعلومات العسكرية المتعلقة بحركات الجيش الألماني، وراحت تتنقل من جبهة لجبهة لتقوم بشتى المهمات التي كلفوها بها باللاسلكي.
وكان ضمن مهام «نور» دعم شبكة المقاومة تحت الأرض المسماة «ازدهار» أو Prosper للاتصال بين لندن والجواسيس المحليين، وبذلك تعتبر أول جاسوسة ترسل معلومتها عبر موجات الراديو في التاريخ، وكانت في كثير من الأحيان الرابط الوحيد بين بريطانيا والمقاومة الفرنسية.
تمكنت «نور» أن تتجنب إلقاء القبض عليها لنحو 16 أسبوعا، وغيرت موقعها باستمرار، وكانت لا تزال ترسل رسائل إلى لندن حتى عندما تعقبها «جستابو»، الشرطة السرية الألمانية في ظل الحكم النازي، بكاشف للراديو.
وكانت وظيفة «نور» هي الأخطر بين كل أعضاء العمليات الخاصة السرية لأن الألمان كانوا ماهرين في تعقب إشارات البث، حيث كان متوسط حياة مسؤول الاتصال بالمقاومة في باريس 6 أسابيع من بدء الإشارة الأولي قبل أن يقتله الألمان، لكن «نور» التي بدأت العمل ضمن صفوف المقاومة في يناير 1943 واصلت خدمتها، ورغم أن رؤساءها أمروها بالعودة إلى بريطانيا، بقيت في فرنسا وأدارت شبكة تجسس في باريس لمدة 3 أشهر.
وفي أكتوبر 1943، وبسبب خيانة من قبل عميل مزدوج، تم اعتقال «نور» والكثير من وكلائها على يد قوات The Gestapo «جستابو» الشرطة السرية الألمانية في ظل الحكم النازي، وبقيت قابعة في سجن السياسيين شديد الحراسة داخل ألمانيا «داخاو» لمدة 10 أشهر تحت التعذيب المستمر، كان همهم الحصول منها على رموز الاتصال بالمخابرات البريطانية ليشوشوا الإنجليز ويضللوهم بإعطائهم معلومات كاذبة، لكن هذه الفتاة المسلمة الوافدة من أعماق آسيا صمدت في وجوههم ورفضت الإفشاء عن أي معلومات، لدرجة أن البوليس السري الألماني «جيستابو» لم يعرف حتى اسمها الحقيقي.
تم نقل «نور» من مركز تحقيقات إلى مركز آخر، في فرنسا، وبلجيكا، وألمانيا، بدون أن يحظوا بمرادهم، واستطاعت أن تهرب منهم، لكنهم تمكنوا من تعقبها واعتقالها ثانية، وبعدما يئسوا منها أخيرا فبعثوا بها ثانية لمعتقل «داخاو» شديد الحراسة مع أمر يقول:«تعدم بحيث لا يبقى منها أي أثر»، وبعد مرحلة أخرى من التعذيب، وحينما جاءت لحظة إعدامها في عام 1944 هتفت «نور»: «حرية» قبل أن تسقط قتيلة، بعدها أطلقوا الرصاص عليها في مؤخرة رأسها ثم أحرقوها.
وتم تكريم ذكرى «نور» بالعديد من الميداليات المدنية والعسكرية في بريطانيا وفرنسا، فمنحت عام 1949 صليب الملك جورج السادس، أرفع وسام مدني بالمملكة المتحدة، وفى 2011، جمع متبرعون بريطانيون مبلغ 100 ألف جنيه إسترليني ثمنا لتمثال من البرونز للأميرة الهندية نصب وسط لندن قرب المنزل الذي كانت تقيم فيه، وأنتجت عن قصتها أفلام سينيمائية وتليفزيونية.
وفي نوفمبر 2012، دشنت الأميرة البريطانية «آن»، ابنة الملكة إليزابيث الثانية، تمثالا نصفياللجاسوسة«نور»، مصنوع من البرونز المنحوت، في ساحة حدائق «جولدن سكوير جاردنز» وسط لندن بالقرب من المنزل الذي عاشت فيه «نور»، ليكون أول تمثال لامرأة آسيوية مسلمة يوضع في ميدان عام بإنجلترا.
وقال مسئولون إن الحدث يمثل نهاية حقبة حملات استمرت سنوات قامت بها منظمة «عنايت خان نور» التذكارية لإحياء ذكرى بطلة الحرب المنسية، وهذه الحملة كانت بقيادة شراباني باسو الذي كتب سيرة حياة «نور» في كتاب عنوان «الأميرة جاسوس، وحياة نور عنايت خان»، وتلقت هذه الحملة دعما من رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، والعديد من النواب والسياسيين، وكذلك من النساء البارزات في العمل السياسي والمجتمعي مثل تشاكرابارتي الشامي، شادها جوريندر، شانكار أنوشكا، وإديا نينا.
ويقول عنها الحاخام اليهودي، مارك سناير، رئيس مؤسسة «التفاهم العرقي بالولايات المتحدة»:«عندما أزور معسكر داخو، أصلى من أجل نور ومن أجل كل من عانوا، إننا جميعا في الولايات المتحدة الأمريكية، مسلمين ومسيحيين ويهودا وهندوسا، بحاجة لمعرفة قصة (نور) التي تقربنا من بعضنا البعض».