بريطانيا .. كيف مهدت لولادة الموضة الرجالية في العالم؟

الموضة الرجالية ولدت في بريطانيا عام 1528 .. دراسة رسمية أجراها متحف «فيكتوريا أند ألبرت» وتبناها أسبوع لندن للموضة
الموضة الرجالية ولدت في بريطانيا عام 1528 .. دراسة رسمية أجراها متحف «فيكتوريا أند ألبرت» وتبناها أسبوع لندن للموضة

حتى عهد قريب كان معرض فلورنسا السنوي، «بيتي أومو»، وأسبوعي باريس وميلانو، أول ما يتبادر إلى الذهن عندما يتعلق الأمر بالموضة الرجالية، كان وقلما تذكر لندن. فهذه الأخيرة عانت كثيرا في الجانب النسائي لسنوات قبل أن ترسخ مكانتها، فما البال بالجانب الرجالي، الذي لم تكن تتجرأ على دخوله أو مجرد التفكير فيه منذ عشر سنوات تقريبا؟ لكن ما لا يعرفه الكثير من الناس أن بريطانيا هي مهد الموضة الرجالية، ففيها ولد مفهوم الأناقة المرفهة حسب دراسة أجراها متحف «فيكتوريا أند ألبرت».
 
الدراسة أكدت بالأدلة الدامغة أن بذرة الموضة الرجالية كما نعرفها اليوم زرعت في بريطانيا فعلا منذ عام 1528، وهذا يعني أنه على الرغم من أن أسبوع لندن انطلق منذ ثلاثة مواسم فحسب، إلا أنه يتمتع بالشرعية التاريخية التي تسمح له بأن ينافس باقي العواصم العالمية.
 
واستنادا إلى هذه الحقيقة شمرت العاصمة البريطانية في العام الماضي عن ذراعيها ودخلت المعركة بكل قواها لاسترجاع حقها التاريخي، وطوال هذا الأسبوع أكدت للعالم أنها منافس لا يستهان به.
 
الأسبوع الذي امتد من يوم الأحد إلى الثلاثاء شهد أكثر من 30 عرضا، بالإضافة إلى المعارض الجانبية و21 فعالية اجتماعية، منها حفل «دولتشي أند غابانا» و«جيمي شو» وغيرهما.
 
والجميل في هذه المشاركات ذلك التناغم بين الحداثة والكلاسيكية، وبين الشباب المتحمس لفرض نفسه وترسيخ مكانته، والمخضرمين في التفصيل مثل «هاكيت لندن»، و«إي توتز» من الذين يريدون التذكير بأن البدلة الرجالية ولدت هنا ومعها الأناقة عموما.
 
وهذا ما أشار إليه جيريمي هاكيت بقوله إن «لندن مدينة عالمية، وكل ما يجري فيها يثير الانتباه، وهذا أمر جيد، لأن هذا يعني أيضا أن عدد الزائرين إليها يتزايد، كما أنه كلما زاد عدد المشاركين في البرنامج صب هذا في صالحه».
 
أما عن تأثير تنامي قوة الأسبوع على باقي الأسابيع الرجالية الأخرى في العالم، فلم يعتقد بأن الأمر له تأثير سلبي: «لأن إيطاليا مثلا تتمتع بصناعة أزياء رجالية رائعة». ويوافقه باتريك غرانت، مصمم ماركة «إي توتز» التي تمتلك أغلبية أسهم «نورتون أند سانز» الواقعة بـ «سافيل رو» الرأي، بأن هناك «شيئا مثيرا في ما يتعلق بالأزياء الرجالية بلندن حاليا، فقوتها تتزايد مع كل موسم، مما يجعل كبار بيوت الأزياء العالمية تلتفت إليه وترغب في الالتحاق به لقضم قطعة منه».
 
وأضاف: «لكني أتمنى أن يتمكن من الحفاظ على شخصيته والأسس التي قام عليها وتميزه عن غيره، خصوصا ذلك الشعور اللامتناهي بالتفاؤل وروح التحدي التي يستمدها من فورة الشباب والأجيال الصاعدة .. فلندن تتميز بنكهة فريدة لا أريدها أن تختفي أو تفقد قوتها».
 
ما يجعل لندن مختلفة عن باقي العواصم كذلك، التنوع الذي يصل إلى حد التطرف أحيانا، بين الحداثي والكلاسيكي، وبين الرغبة في الحفاظ على الإرث العريق بتقاليده وطقوسه، والتوق إلى معانقة العصر وإتقان لغته.
 
حتى خياطو «سافيل رو» دخلوا لعبة الموضة وعروض الأزياء في المواسم الأخيرة، وتدل كل المؤشرات على أنهم يستمتعون بها بعد أن قاوموها لفترة، فقد اكتشفوا أن التجديد لا يؤثر على إرثهم، بقدر ما يعطي هذا الإرث نفسا جديدا واستمرارية تبقي على جذوته مشتعلة.
 
وبما أن لندن تحتضن جنسيات متعددة بثقافاتها المتنوعة، فإن كل ما كانت تحتاج إليه في السابق هو المنبر العالمي الذي يتيح لها استعراض قدراتها والتعريف بإمكانياتها، وهو ما انتبهت إليه منظمة الموضة اللندنية، واجتهدت على تحقيقه.
 
وطبعا ساعد على اكتمال الوصفة ونجاحها استعداد بيوت أزياء كبيرة الالتحاق بها، مثل «ألكنسدر ماكوني»، و«توم فورد»، و«برينغل أوف سكوتلند»، وهذا الموسم «بيربيري»، وغيرهم.
 
جذور الموضة الرجالية
قبل انطلاق الأسبوع بأيام، نشرت منظمة الموضة دراسة مطولة تؤكد حق بريطانيا في ريادة الموضة الرجالية عالميا. الدراسة التي قام بها متحف «فيكتوريا أند ألبرت» غاصت في كتب التاريخ ودهاليزه الخفية لاكتشاف البدايات وسر العلاقة التاريخية القوية التي تربط الجنس الخشن في كل أنحاء العالم بما يسمى بالأسلوب الإنجليزي، وكيف أثر عليهم إلى الآن. 
 
ديلان جونز، رئيس الأسبوع الرجالي ورئيس تحرير مجلة «جي كيو» يشرح أن الدراسة «تمنح صورة مثيرة عن تاريخ الموضة الرجالية في بريطانيا، مما يضاعف أهمية هذا الإرث وتأثيره في يوما هذا».
 
فبدلة التويد، والقبعة العالية (الباولر) المفضلة لكل من تشارلي تشابلن ووينستن تشرشل وغيرهما، فضلا عن حذاء الـ«بروج» المتميز بثقوب، كلها قطع ارتبطت بالرجل البريطاني أساسا قبل أن يتم تسويقها عالميا، أحيانا من خلال الأفلام والروايات الأدبية.
 
من الأساليب الأخرى التي ولدت هنا: الأسلوب «الداندي»، القميص وربطة العنق المطبوعان بالورد، المعطف الخاص بالفروسية، البدلة الصوفية المكونة من ثلاث قطع، المعطف الممطر، التويد والتارتان وحذاء المطر المصنوع من المطاط «ويلنغتون» إشارة إلى دوق ويلنغتون، وغيرها.
 
فالدراسة تتقفى تاريخا يعود إلى عام 1528، حيث كانت لندن مركزا ثقافيا وتجاريا مهما منذ ذلك الوقت، حين منح هنري الثامن شركة «ذي كلوك ووركرز» الامتياز الملكي، لتلتحق بمجموعة مرموقة من الشركات وتستطيع تمثيل الجالية اللندنية المكونة من الخياطين وصناع القبعات والأحذية والحرير وغيرها. في عام 1660، وفي المنطقة القريبة من كاتدرائية «سانت بول»، كان يتمركز كل هؤلاء، وكان أهم زبائنهم الطبقات الأرستقراطية والأثرياء.
 
تقول كارين بروثيرو مؤلفة الدراسة إن الأسلوب البريطاني، ولأكثر من 300 عام، منجم لا ينضب من الابتكار والإبداع. وقد أتاح الفضاء الخصب وإمكانية تقديم أزياء لكل الطبقات، من الملوك والأرستقراطيين إلى البوهيميين والمتأنقين، فرصة أكثر للابتكار في هذا المجال، الأمر الذي لا يزال واضحا ومعمولا به إلى الآن.
 
وتضيف أنه يمكن ملاحظة تأثيره في كل مكان: في الشوارع، وعلى منصات عروض الأزياء، وفي محلات الموضة الشعبية، كما في شوارع التفصيل المتخصص والنخبوي.
 
وتشير إلى أن صناعة الأزياء لم تكن حكرا على طبقة بعينها، لكن كانت هناك تفاصيل تفرق بينهم. فالأقمشة المترفة والزخرفات الغالية، مثلا، كانت من نصيب الأثرياء فحسب. وفي القرن السادس عشر، صدر قانون يمنع ارتداء المخمل سوى لمن يحصلون على أجر يتعدى 200 جنيه إسترليني في العام، ونفس الأمر ينطبق على الحرير الذي كان غاليا لا تقدر عليه إلا شريحة قليلة. 
 
وكان طلب ريتشارد الثاني أن يصنع له صديري من الصوف أول خطوة للتشجيع على استعمال الخامات الإنجليزية لدعم صناعة النسيج المحلي، خصوصا بعد أن اكتشف أن هذه الخامة تمنح القطعة صلابة وتجعلها أكثر تحديدا على الجسم. 
 
وفي نهاية القرن التاسع عشر، انتعشت صناعة الحرير في لندن، مما شجع على استعماله عوض الصوف إلى جانب البروكار تزامنا مع تنامي سطوة طبقة جديدة أغلبها من السياسيين. 
 
غير أن الملاحظ أن العائلة البريطانية المالكة كانت ولا تزال إلى الآن أكبر دعاية لمفهوم «صنع في بريطانيا» وترسخ الأمر على يد أمير وايلز، إدوارد السابع وبعده جورج الخامس ليصل إلى قمته في عهد إدوارد الثامن.
 
فهذا الأخير اشتهر بأسلوب عصري أنيق يميل إلى التفصيل المريح وليس المقيد. وكان له الفضل في الترويج للتويد والنقوشات المربعة لأنه جعلها تبدو عصرية، كذلك تنسيقها مع كنزات من الصوف. 
 
نفس الشيء يمكن أن يقال على حذاء الـ «بروج» المميز بثقوبه أعلى القدم. فقد رأى النور في اسكوتلندا في أواخر القرن الثامن عشر، وما إن ظهر به أمير وايلز هو وقبعة «باولر» في رحلات غولف حتى تحول إلى موضة بين باقي الرجال. 
 
كان معظم الأمراء يشترون قمصانهم من «تيرنبل أند آسر» (Turnbull and Asser) الواقع بجيرمين ستريت، وأحذيتهم من جون لوب بشارع «سانت جايمس»، وهو تقليد لا يزال لولي العهد الحالي، الأمير تشارلز.
 
ورغم أن الحرب العالمية الأولى فككت أناقة العهد الإدواردي الراقية فإن دمقرطة الموضة في ما بعد جعلت صناعة الأزياء الرجالية في لندن أكثر تميزا وحرفية من حيث الراحة وحرية الحركة التي تتيحها، خصوصا أن أكثر النشاطات الاجتماعية كانت تستدعي ذلك، مثل رحلات الصيد ولعبة الغولف والبولو وغيرها. وقد يكون أوستن ريد أول من قدم مفهوم «التفصيل الجديد» في محله الواقع بـ«ريجنت ستريت» عام 1926، بينما قدمت «داكس» خطا رياضيا مفصلا في عام 1936. 
 
«سافيل رو» أيضا شهد بعد الحرب العالمية تطورا وتوسعا، إذ التحق به «هاردي أيميز» خياط الملكة المفضل في عام 1945، ومعه دخلت فكرة الموضة إلى الشارع. مع بداية الخمسينات، تعايش الأسلوب البوهيمي مع الأسلوب الكلاسيكي في تناغم من الصعب رؤيته في أي مكان في العالم، ليظهر ما أصبح يعرف بـ «أسلوب الشارع اللندني».
 
البدلة
البدلة المكونة من ثلاث قطع يقال إن صناعة أول بدلة مفصلة من ثلاث قطع، سترة وبنطلون وصديري، تعود إلى عهد ريتشارد الثاني الذي تبناها عوض ما كان يشبه الرداء الكهنوتي الواسع مع بنطال قصير، موضة تلك الأيام. 
 
فقد أعجبته فكرة أنها مكونة من صديري ومعطف يصل إلى الركبة وقميص. وكان الصديري مصنوعا من الصوف المغزول في بريطانيا عوض الحرير الفرنسي، طلب أن يتم التركيز فيه على التصميم عوض الزخرفات والتطريزات، موضة تلك الأيام.
 
كان هم ريتشارد الثاني أن يبتعد عن الأسلوب الفرنسي السائد. وعلى مدى الأعوام، شهد الصديري تغيرات كثيرة، منها أنه فقد أكمامه في عام 1750 وبعضا من طوله في عام 1790 ليصبح بالطول الذي نعرفه به اليوم.
 
حذاء «البروج» 
يتميز بكعب منخفض وثقوب وتسنينات على طول الأجزاء العلوية من الجلد، ففي أواخر القرن الثامن عشر، سمح الجلد غير المدبوغ وإضافة ثقوب بتجفيفه من المياه التي كانت تتسرب إليه بسبب الطقس الممطر وتبلله، خصوصا أن أكثر النشاطات كانت تجري في الهواء الطلق والريف الإنجليزي. وحقق نقلته إلى عالم الأناقة والموضة عندما تبناه دوق ويندسور، إدوارد الثامن، خلال رحلاته إلى اسكوتلندا لممارسة رياضة الغولف.
 
قبعة الباولر 
تتميز بشكلها المقبب وحافتها المرفوعة إلى أعلى، وصممت أول مرة في عام 1849 من قبل «جيمس لوك أند كو» لحماية رؤوس الفرسان من عوامل الطقس المتقلب. ثم استعملت من قبل العاملين في الحقول، لكن ما إن ظهر بها إدوارد السابع والكاتب أوسكار وايلد في نهاية القرن التاسع عشر، حتى تبناه باقي أفراد الأسر المالكة والطبقات الأرستقراطية، وكانت المفضلة لرئيس الوزراء وينستن تشرشل.
 
معطف الفروسية
بين عامي 1750 و1830 بدأ تأثير الفروسية يبدو أوضح في الملابس الإنجليزية، وسرعان ما انتقلت هذه الموضة من الطبقات الأرستقراطية إلى الطبقات الغنية والمتوسطة. ومع بداية القرن التاسع عشر ظهر المعطف بأكمامه المقصوصة عاليا عند الأكتاف لكي يتيح للفارس حرية الحركة والتحكم في الفرس.
 
المعطف المطري 
في عام 1901 طلب مسؤول عسكري من السيد توماس بيربيري أن يصمم زيا خاصا بالجنود يحميهم من تقلبات الطقس ويكون مناسبا للخنادق. توماس بيربيري قدمه بكتافيات إضافية، وأحزمة على حاشية الكم وياقة قابلة للتحويل مع فتحة خلفية لتسهيل الحركة، لكنه بتصميمه الحالي لم يتبلور إلا عام 1914، ومنذ ذلك الحين وهو قطعة بريطانية أيقونية تتحدى الطقس والزمن، ومن بين أقوى صادرات الموضة البريطانية إلى العالم.
 
الأسلوب الداندي 
في بداية القرن التاسع عشر، ابتكر جورج بو برامل موضة رجالية ثورية خاصمت الأسلوب الكلاسيكي الهادئ وعانقت أسلوبا منمقا إلى حد الاستعراض. فقد اختار معطفا بسيطا وقميصا من الكتان بياقة عالية وربطة عنق مربوطة بشكل منمق وكأنه وردة، وبنطلون طويل عوض القصير الذي كان يصل إلى الركبة ضاربا عرض الحائط ما كان جاريا به العمل. اهتم بأدق التفاصيل ولم يكن يقبل أي خطأ، ليولد ما أصبح يعرف بالداندية، التي ما زلنا نراها تطل علينا من عروض الأزياء بين الفينة والأخرى.
 
القميص وربطة العنق المطبوعان بالورود الصغيرة 
في عام 1957 افتتح جون ستيفن أول محل له في شارع «كارنبي» الشهير، وهناك بدأ في صنع أزياء رجالية مطبوعة بالورود وبأقمشة ناعمة وخفيفة لم تكن معهودة من قبل لأنها لم تكن تخص الجنس الخشن. لم يمر عقد واحد حتى توسعت تجارته في الشارع، وأصبح نقطة جذب للشباب. وربما لا شعوريا كان له تأثير على مصممين كبار من أمثال بول سميث وغيره.
 
بوت «ولينغتون» 
الحذاء العالي الرقبة المصنوع من المطاط «ويلنغتون» جاء بعد أن طلب آرثر ويلسلي، دوق ولينغتون، من صانع أحذيته «هوبي» في شارع سانت جيمس أن يغير تصميم «بوت هيسيان» المصنوع من الجلد، الذي يعود إلى القرن الثامن عشر حتى يتمكن من ارتدائه في أرض المعارك.
 
واشترط أن يكون مريحا وأنيقا حتى يلبسه في النهار والمساء على حد سواء، وهو الآن جزء لا يتجزأ من ثقافة الصيد والنشاطات التي تجرى في الهواء الطلق بسبب الطقس المتقلب.
 
قماش التويد 
أيضا ولد هنا في المرتفعات الاسكوتلندية عندما ظهر ولي العهد، جورج الرابع، آنذاك بـ «كيلت»، تنورة اسكوتلندية خاصة بالرجل، من التارتان. قبل ذلك كان الحرير هو المفضل لدى النخبة لأنه كان أغلى، إلا أن طبيعة الصوف وقوامه جعلا تفصيله أسهل ونتيجته أكثر إبهارا.
 
ومع نهاية القرن الثامن عشر ترسخت مكانة خياطي لندن في هذا المجال وانتشرت سمعتهم عالميا، تماما كما انتشرت سمعتهم في مجال تفصيل الملابس العسكرية، التي كانت دفعة قوية لخياطي «سافيل رو».
 
فقد تلقى معظمهم طلبات لأغراض عسكرية في وقت من الأوقات، مثل جيمس جيف، الذي فصل ملابس لورد نيلسون وكابتن هاردي هوكس، كذلك «جيفز اند هوكس» و«هنري بول أند كو» وغيرهم.