المرأة الحديدية «مارغريت تاتشر» .. ملاك أم شيطان؟
02:43 م - السبت 20 أبريل 2013
قيل وسيقال الكثير عن مارغريت ثاتشر وعهدها في رئاسة الوزراء البريطانية على مدى ثلاث ولايات متصلة. فهل تسنّت لها صناعة التاريخ على هذه الشاكلة بفضل أنها خاضت الحقل السياسي وهي مسلحة بالكيمياء التي نالت فيها شهادتها الأكاديمية؟.
لا جدال حول أن تشييع رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت (البارونة) ثاتشر إلى مثواها الأخير صباح الأربعاء والتي توفيت الاثنين عن 87 عام، أسدل ستار الختام على فصل تاريخي عظيم، اختطه يد إحدى أشهر النساء في العالم وأكثرهن إثارة للجدل داخل بلادها وخارجها. فقد غيرت – خلال 11 سنة من حكمها (1979 – 1990) وجه بريطانيا، سواء من حيث تركيبته الاقتصادية - السياسية أو الاجتماعية، وأيضا وجه العالم بأسره.
المرأة الحديدية
غيرت تاتشر وجه المملكة المتحدة باعتمادها ليبرالية اقتصادية لا هوادة فيها واعادت الهيبة الدولية للبلاد. وكانت نظرتها الفولاذية الثاقبة بعينيها الزرقاوين رمزا لقوة شخصية لا تضعف. ولم يعبر احد عن شخصيتها تلك كما عبرت عنها هي نفسها حين قالت عبارتها الشهيرة "انا مع الاجماع. الاجماع حول ما اريده".
ولم تتخل طوال 11 عاما من حكمها (1979-1990) عن رفضها الشديد للتسويات خدمة لمبادىء تؤمن بها بعمق وهي السياسة الاجتماعية المحافظة والليبرالية الاقتصادية وفكرة عظمة بلادها. وتولدت هذه القناعات بالتاكيد من تربية صارمة لوالد بروتستاتني ميتودي للشابة مارغريت هيلدا روبرتس التي ولدت في 13 تشرين الاول/اكتوبر 1925 في غرانتام وسط انكلترا.
اصبحت محامية بعد زواجها في 1951 وانضمت الى حزب المحافظين ودخلت في 1959 مجلس العموم نائبا عن فينشلي (شمال لندن) ثم تولت في 1970 و1974 وزارة التربية. وتولت في 1975 رئاسة حزب المحافظين لتهزم بعد اربع سنوات حزب العمال. فاصبحت رئيسة وزراء بريطانيا حتى 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1990 وهي فترة قياسية من الحكم في القرن العشرين.
وولد تعبير جديد قد من سياستها هو "التاتشرية". ولدفع اقتصاد جعل من بريطانيا البلد "المريض في اوروبا"، خصخصت كل شيء وخفضت الضرائب والنفقات العامة وهاجمت النقابات. لكن عدد العاطلين فاق مستوى ثلاثة ملايين واصطدم اضراب عمال المناجم في بداية الثمانينات بعنادها.
وسعت لاستعادة مجد الامبراطورية السابقة. واسهمت حملتها على جزر الفوكلاند في 1982 في ذلك. وقامت ايضا بدور في نهاية الحرب الباردة خصوصا انها كانت مقربة من رونالد ريغن وميخائيل غورباتشوف.
لكن طبعها العنيد ارتد عليها. ودق رفض ضريبة محلية "بول تاكس" ناقوس نهايتها السياسية. وازاء الاحتجاجات عليها حتى من داخل حزبها قدمت استقالتها بعيون دامعة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1990.
وانزوت البارونة ثاتشر اثر ذلك في حي بلغرافيا بلندن لكتابة مذكراتها وانسحبت نهائيا من الحياة السياسية في 2002 لدواع صحية. وفي حزيران (يونيو) 2003 تاثرت بشدة لوفاة زوجها دنيس كما اثرت فيها لاحقا المشاكل القضائية لابنها مارك.
وفي كانون الاول (ديسمبر) 2005 بعد اقل من شهرين من احيائها عيد ميلادها الثمانين في فندق بلندن بحضور الملكة اليزابيث الثانية، ادخلت المستشفى بسبب اصابتها بالوهن. وكشفت ابنتها كارول في 2008 ان والدتها تعاني من خرف العته حتى انها تنسى احيانا ان زوجها قد توفي.
وبقيت منذ لك التاريخ منزوية ولم تشارك في الاحتفال الذي اقامه ديفيد كاميرون في عيد ميلادها ال 85 في 2010 ولا في يوبيل الملكة في 2012 او الالعاب الاولمبية بلندن. واودعت المستشفى اثناء احتفالات نهاية العام 2012 حيث خضعت لعملية لازالة ورم في المثانة وبقيت في النقاهة منذ تلك الايام.
ملاك أم شيطان؟
يمكن أن نلخص إنجازات ثاتشر في مداواة الاقتصاد البريطاني بنقله إلى رأسمالية السوق البحتة. وفي هذا السبيل قضت مرة وإلى الأبد على نقابات العمال، التي حكمت البلاد فعليًا في السبعينات. لكن ثاتشر أتاحت في الوقت نفسه تملّك المساكن والأسهم التجارية لقطاع هائل من الفقراء، وبشكل لم تنجزه أي حكومة عمالية سابقة أو لاحقة.
مع ذلك فقد شقّت المجتمع البريطاني أيضًا، بكسرها شوكة النقابات، التي كانت بمثابة عظم الظهر بالنسبة إلى العمال وعائلاتهم. وشقّته أيضًا بانتقالها إلى نوع من الرأسمالية، يفتقر بالكامل تقريًبا إلى الوجه الإنساني. ومع أنها صنعت التاريخ كأول امرأة في داونينغ ستريت على مر التاريخ البريطاني، فالحقيقة هي أنها لم تتحرك قيد أنملة لنصرة النساء في ما يتعلق ونضالهن من أجل المشاركة على قدم وساق مع الرجال في صنع القرار السياسي والاقتصادي.
على الصعيد الخارجي، يصحّ القول إن ثاتشر – مع رونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف نفسه – غيّرت وجه العالم إلى الأبد بمساهمتها الرئيسة في إسقاط الامبراطورية السوفياتية. وإذا أضفت إلى هذا نصرها في حرب الفوكلاندز (الأولى لأي قوة دولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية)، تجد أنها استعادت لبريطانيا مكانتها التي فقدتها على المسرح الدولي منذ غروب آخر الشموس وراء آفاق الامبراطورية.
في الوقت نفسه، فقد سجل التاريخ للبارونة نكرانها الكامل لحقوق الفلسطينيين، ومساندتها الصلدة لأسوأ أنواع الظلم منذ عهد العبودية، وهو نظام «الأبارتيد» في جنوب أفريقيا. وكانت أيضًا ظهرًا وحصنًا منيعًا من يد العدالة لأحد أبشع رموز الدكتاتورية في القرن العشرين، وهو حاكم تشيلي العسكري أوغستو بينوشيه، قاتل رئيسها المنتخب شعبيًا مع عشرات الآلاف من أنصار الديمقراطية في بلاده. ولم تتوان بالطبع في المساعدة على قصم ظهر أي جهة باحثة عن الحرية في حال فاحت منها ما تعتبره هي رائحة يسارية.
... ومع ذلك ورغم كل هذا - وربما بسببه - فلا مكان لنكران أن ثاتشر صنعت التاريخ مرارًا وتكرارًا كما لم يفعل أحد من قبل. فقد صارت في بلادها «المهمة» أول زعيمة لحزب المحافظين وأول رئيسة للوزراء على مدى تاريخ بلادها.
وأكملت هذا الإنجاز بالحكم على امتداد ثلاث ولايات متصلة، وهو ما لم يُهيّأ لأي رئيس وزراء بريطاني منذ بداية القرن العشرين. وفي غضون تلك الولايات أنجزت ما أنجزته، فغيّرت وجه بلادها والعالم من حولها على ذلك النحو ذكره. فكيف تسنى لها كل هذا؟.
كيمياء .. وكيمياء سياسية
عظماء القادة يولدون والزعامة جزء من تركيبة حمضهم النووي .. هكذا حدثتنا دراسة علمية صدرت في الآونة الأخيرة. وإذا تقبّلنا هذا الزعم، لكونه صادرًا من علماء يدركون معنى ما يقولون، فقد ولدت ثاتشر لتكون زعيمة عظيمة.
أضف إلى هذا ما أتت به إلى وسائل الإعلام صديقة حميمة للبارونة، هي الليدي ميري آرشر (عقيلة السياسي رئيس حزب المحافظين سابقًا والروائي الشهير جيفري آرشر). فقالت إن ثاتشر «خاضت عالم السياسة بعقلية عالِم الكيمياء، ووظفت معرفتها بخبايا هذا العلم لتشكيل بلادها والعالم من حولها بناء على قوانينه وعلى أساس ضرورة الفهم العميق للأشياء وسيادة الدليل الملموس على غيره».
لنذكر هنا أن ثاتشر - المولودة العام 1925 لأب بقّال بسيط - درست الكيمياء في جامعة أوكسفورد. وبعد تخرجها عملت باحثة في مصنع للآيس كريم، وساعدت فيه على ابتداع وسائل دوامه أطول فترة ممكنة، كما ساعدت على كيفية إنتاج «الآيس كريم المرن القوام».
يذكر أيضًا أن ميري آرشر نفسها حاصلة على شهادة في الكيمياء، وتصادف أنها تلقت بعض علمها على يد الشخص نفسه الذي حاضر ثاتشر في أوكسفورد، وإن كان بفارق 20 سنة بينهما.
وقالت آرشر عن ثاتشر: «السواد الأعظم من الساسة يتبعون ما توحي لهم به الغريزة، لكن هذا ليس بالمنحى العلمي. أعتقد أن ما يلخص حالة ثاتشر بشكل جيد مقولة آل غور (نائب بيل كلينتون ومرشح الجمهوريين الخاسر أمام جورج بوش)، وهي أن العالِم يقبل الحقائق المدعومة بالدليل الدامغ، وإن كانت عكس ما يتمنى». وقد كان هذا هو ديدن البارونة ثاتشر».
كيمياء أخرى؟
هل الحكم، إذن، علم يخضع للحقائق والمعايير والمعادلات والبرهان على غرار مستلزمات الكيمياء، التي استقت منها ثاتشر أسلوبها؟.
البريطانيون على الأقل منقسمون إلى نصفين تقريبًا في الإجابة عن هذا السؤال. وهذا لأن نصفهم يعتقد أن ابنة البقال صانعة التاريخ أثبتت جدارتها بأن تصنّف في عداد أعظم رؤساء الوزراء. لكن للنصف الآخر رأيه المعاكس تمامًا .. وربما كانت هذه بحد ذاتها معادلة كيميائية أخرى.