دانييل ميتران .. المرأة التي خالفت سياسات الحكومة وساندت زوجها حتى في خيانته
فارقت دانييل ميتران الحياة عن 87 عاما بعد غيبوبة استمرت بضعة أيام في مستشفى «بومبيدو» في باريس، دانييل هي رفيقة درب الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران ووالدة نجليه جيلبير وجان - كريستوف، والمرأة المدافعة عن حقوق الإنسان، والزوجة التي تجاهلت، لثلاثين عاما، وجود امرأة أخرى في حياة زوجها ووافقت على الوقوف معها أمام نعشه، عندما سبقها إلى الرحيل قبل عام.
اشتهرت «مدام ميتران» بشخصيتها المستقلة ودفاعها عن المطاردين والمنفيين إنطلاقا من إرثها اليساري الذي لم تتخل عنه حتى وهي تستقبل كبار زعماء اليمين في العالم. وكانت لها، أحيانا، آراؤها السياسية التي لا تنسجم مع السياسة الخارجية لزوجها وتسبب الإحراج له، لكنه تركها تفعل ما تريد، وتقول ما تريد، وكان حريصا على وجودها معه بقدر حرصه على استمرار حياته الموازية مع آن بنجو، امرأة الظل ووالدة ابنته مازارين.
وميتران الذي كان زير نساء معروفا، تستهويه المرأة القوية والمثقفة والموهوبة، أحب دانييل غوز وقرر الارتباط بها من قبل أن يراها.
لقد شاهد صورتها موضوعة على حافة المدفأة في بيت عائلتها في «كلوني»، وسط فرنسا، عندما ذهب يزور شقيقتها كريستين التي ربطته بها صداقة رفاقية. لقد لفتت نظره ملامحها الهادئة التي لا تخلو من جمال. وعندما سأل من تكون، ردت كريستين: «إنها دانييل .. شقيقتي الصغرى». وبكل ثقة قال ميتران: «صاحبة هذه الصورة ستصبح زوجتي». وكان ذلك أوائل عام 1944، بعد انتهاء الحرب وهروبه من أسر الألمان وعودته إلى فرنسا للقاء خطيبته التي كان يحبها وبعث لها بأكثر من 3 آلاف رسالة، لكنها لم تنتظره وتزوجت.
طلب السياسي الشاب الذي كان يحمل، آنذاك، اسما حركيا من أيام المقاومة هو فرانسوا مورلان، من كريستين أن تعرفه على أختها، وتم ترتيب لقاء جمعهما في أحد مطاعم حي «سان جيرمان» في باريس. وبعد العشاء، كان رأي دانييل، التي تقف على عتبة ربيعها العشرين، أنها لا تميل إلى ميتران ولا يمكن لها أن تحبه لأنه أكبر منها سنا أكثر من اللازم وهي تفضل الفتية الذين يقاربونها في السن. لكنه لم يتراجع وواصل التردد على منزل الأسرة ودعوة البنت الصغرى إلى الخروج في نزهات معه إلى أن تغلب على نفورها وفاز بصداقتها التي انتهت بزواجهما في خريف العام نفسه.
ورغم أن العروس ناضلت في خلية من خلايا المقاومة الفرنسية، أثناء الحرب، وكانت أكثر يسارية من زوجها، فإنها وجدت نفسها في موقع لم تتهيأ له. إنها زوجة سياسي طموح يسعى للوصول إلى سدة الحكم. ولحسن حظها، فإنها كانت شابة تمتلك من العناد ما جعلها ترسم لنفسها حياة ذات أهداف محددة بحيث لا تبقى مجرد ظل لزوجها. ويبدو أن قوة شخصيتها عززت رغبة ميتران في الاقتران بها لأنه أراد زوجة من عائلة علمانية تحمل قيما إنسانية، تدعمه وتفهمه فكريا وتتحمل الضربات إلى جانبه، بغض النظر عن مواصفاتها كأنثى.
يوم دخل ميتران قصر الرئاسة، في ربيع 1981، لاحظ كثيرون أن نسبة النساء قد ارتفعت في طاقم «الإليزيه» وفي مقاعد الوزارة. ولما اختار إديت كريسون لتصبح أول امرأة رئيسة للحكومة، قيل إنها كانت من محظياته.
والحقيقة أن الرئيس لم يكن يجمع حوله المستشارات الجميلات فحسب؛ بل عاش حياة خاصة باذخة بعيدا عن الأعين.
ولم تكن الفرنسية الأولى غافلة عما يجري، رغم أنها اختارت البقاء في البيت الصغير الذي كانا يسكنانه في الدائرة الخامسة من باريس ولم تنتقل للإقامة الدائمة في القصر. ومن ضمن ما كانت تعرفه، أن زوجها يقيم علاقة منتظمة مع سيدة تعمل في أحد المتاحف وقد أنجب منها طفلة تستحوذ على اهتمامه وحبه.
وبخلاف المثل الشائع، فإن الزوجة أول من يعلم. واختارت دانييل أن تواصل حياتها مع الرئيس الذي صار ارتباطها به نوعا من الصداقة العميقة والتعاهد الأبدي الذي يسمو فوق صغائر الغيرة والعتاب والشكوى. وفي ما بعد، قالت لإحدى الصحافيات، ردا على الشائعات التي تطارد زوجها: «أنت تعرفين أن زوجي رجل يسحر النساء». وحين أثارت الصحافة قضية مازارين، للمرة الأولى، كانت دانييل أول من اعترض على «التطفل غير اللائق» على حياة الرئيس الخاصة. ولما سئلت عن رأيها، قالت إنها تعلم بالأمر منذ البداية وتعتبر مازارين شابة ذكية وتبعث على الإعجاب.
لم يكن دخول «الإليزيه»، للمرة الأولى، مثيرا لدانييل ميتران، فهي كانت قد دعيت إلى القصر، أكثر من مرة، باعتبارها زوجة لوزير منذ سن الحادية والعشرين؛ بل إن أحد مسؤولي القصر استهان بها ولم يصدق أنها زوجة لوزير. ومنذ ولاية الرئيس الأولى، قررت أن تشغل نفسها بشيء مفيد وأسست جمعية «فرنسا الحريات» وكرست وقتها للعمل الاجتماعي ومساعدة المهاجرين والعاطلين عن العمل والرد على رسائل المحتاجين.
وكان لها دور مشهود في تبني قضية الأكراد وفتح باب اللجوء أمام العائلات النازحة من العراق إلى فرنسا. لقد كانت تنفي خلافها السياسي حول بعض القضايا مع الرئيس وتوضح أنها اختلفت مع الحكومة.
وكثيرة هي المرات التي «ركبت» فيها دانييل رأسها ونفذت ما تعتبره مناسبا، مثل تأييدها للزعيم الروحي الدالاي لاما الذي كان يمكن أن يشوش على علاقات بلدها مع الصين، أو لثوار السلفادور، أو موقفها من الحكم في المغرب، أو إعلان حبها للزعيم الكوبي فيديل كاسترو، وكان وزير الخارجية الأسبق رولان دوما يتحمل شطحات الفرنسية الأولى ويشكو همه لصديقه الرئيس.
وفي فترة التعايش بين الرئيس الاشتراكي ورئيس الوزراء الديغولي، انتقدت إدارة جاك شيراك للحكومة وقالت، علنا، إنه يتصرف كيفما كان. أما تأثيرها على سياسة زوجها، فلم تكن تنظر إليه من هذه الزاوية؛ بل تعتبره مسألة طبيعية لشخصين عاشا جنبا إلى جنب لأكثر من نصف قرن. وكانت تشعر بأن من واجبها أن تقوم بمهمة الوسيط بينه وبين الشارع وتحكي له عن زياراتها لمناطق التأزم في العالم وتنقل له آراء الناس في سياسته لكي لا يبقى أسير القنوات الدبلوماسية.
قبل أشهر قلائل من انتهاء ولاية ميتران، أدخلت دانييل إلى المستشفى لإجراء عملية في القلب. وكان هو يتلقى العلاج الدوري بالأشعة، في مستشفى آخر، بسبب سرطان المثانة. وحالما وقف على قدميه سارع لزيارتها حيث ترقد واطمأن على صحتها.
لقد تركها تشغل نفسها بالجمعية التي تديرها للدفاع عن حقوق الإنسان، وكان يريد أن «يشبع» من ابنته التي تشبهه في الشكل والمزاج، ما بقي له من عمر. ورغم تباعدهما، فقد ظلت تذود عنه ضد منتقديه وتقول إن «مهاجمة الرجل المريض أمر مخجل». وبعد وفاته، واصلت دورها كوالدة واضطرت إلى بيع أثاث بيتها، بالمزاد العلني، لكي تسدد كفالة ولدها البكر، بعد اتهامه في قضايا فساد مالي وتوقيفه.
في واحدة من المقابلات النادرة التي تحدثت فيها سيدة فرنسا الأولى السابقة عن حياتها الخاصة، قالت دانييل إن الصحافة تأخرت في كشف موضوع الابنة «الطبيعية» للرئيس. وأضافت: «لقد ظن فرانسوا أن نشر الموضوع سيؤذيني، خصوصا أنه تزامن مع فترة مرضي، لكنني طمأنته وقلت له إن الأمر سيزيدني اقترابا منه لأن علينا أن نتكاتف لمواجهة العاصفة». وردا على سؤال عما تريد أن تتركه في ذاكرة الفرنسيين بعد رحيلها، قالت: «إنه أمر يعود لهم إذا تذكروا أنني كنت امرأة محبة.. أما إذا تذكروا شيئا آخر فقد أكون أسأت التعبير عن نفسي».
ومن المقرر أن توارى دانييل ميتران الثرى في مسقط رأسها في «كلوني»، الجمعة المقبل. وكانت قبل وفاتها قد احتفلت مع أصدقائها وأنصارها بالذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس «فرنسا الحريات».
من جهة تلقت الأوساط السياسية والشعبية في إقليم كردستان خبر وفاة السيدة دانييل ميتران عقيلة الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران أمس بمشاعر فياضة من الحزن والأسى، فيما أعلنت حكومة الإقليم التي عقدت اجتماعا يوم أمس الحداد الرسمي العام في أنحاء الإقليم.
وكانت للسيدة ميتران التي توصف في كردستان بـ«أم الأكراد» مواقف إنسانية كبيرة لدعم القضية الكردية سواء في العراق أو في الأرجاء الأخرى من كردستان، وكانت وراء إصدار العديد من القرارات الدولية عن مجلس الأمن الدولي لوقف المذابح التي ترتكب ضد الشعب الكردي، منها القرار 688 الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي في أبريل (نيسان) من عام 1991 إثر فرار الملايين من أبناء الشعب الكردي إلى جبال كردستان، وتشردهم إلى كل من تركيا وإيران، وهو القرار الذي سمح بإقامة منطقة حظر الطيران فوق الأجواء العراقية وأدى إلى وقف اعتداءات النظام العراقي الأسبق بقيادة صدام حسين ضد الكرد، وهي المنطقة التي ظلت قائمة إلى حين سقوط نظام صدام عام 2003.
وكانت للسيدة ميتران مواقف عديدة في دعم وحدة الصف الكردي، حيث أرسلت وفدا يمثلها كرئيسة لمنظمة «فرانس ليبرتي» منتصف التسعينات من القرن الماضي في أوان اشتداد القتال الداخلي بين الحزبين الرئيسيين في كردستان الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني لبذل جهود المصالحة، ورعت العديد من مؤتمرات التفاوض بين الحزبين إلى حين إجراء المصالحة الشاملة بينهما، وكان لها حضورها في مراسيم افتتاح أول برلمان منتخب في كردستان عام 1992، وكذلك حضورها في الجلسة التاريخية للبرلمان الكردستاني التي أعلن فيها توحيد حكومة إقليم كردستان عام 2003.
ويتحدث القيادي البارز في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه الرئيس العراقي جلال طالباني عدنان المفتي الذي ترأس في الدورة السابقة البرلمان الكردستاني عن مواقف السيدة ميتران قائلا «تعرفت على السيدة ميتران منذ نهاية عام 1989 وهو العام الذي شهد عقد مؤتمر دولي لمناهضة استخدام الأسلحة الكيمياوية في الحروب بفرنسا، وعلى امتداد السنوات التي أعقبت ذلك كانت السيدة ميتران خير معين للشعب الكردي، وكرست منظمتها (فرنسا الحريات) لخدمة القضية الكردية ودعمها على المستوى العالمي والدولي، وكان لها دورها المؤثر على زوجها الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران في سعيه لإصدار العديد من القرارات الدولية لصالح حماية الشعب الكردي من اعتداءات نظام صدام حسين وبقية أنظمة الحكم في المنطقة».
ويستطرد المفتي في تصريحه «كانت الراحلة مهمومة دائما بقضية ووضع الشعب الكردي، وسعت باستمرار إلى خدمة هذا الشعب ونصرة قضيته القومية العادلة، وكان لها دور كبير في دعم قرار قيادة الجبهة الكردستانية بإجراء أول انتخابات برلمانية حرة في تاريخ الشعب الكردي وتشكيل حكومة الإقليم، وحضرت شخصيا مراسيم افتتاح أولى جلسات البرلمان، وفي منتصف عام 1994 عندما اندلع القتال الداخلي في كردستان بين الحزبين الكرديين، أرسلت وفدا يمثلها كرئيسة لمنظمة فرانس ليبرتي إلى كردستان، واختارتني أنا وكلا من الدكتور محمود عثمان والسياسي الكردي بختيار أمين الذي عين لاحقا وزيرا لحقوق الإنسان العراقي، وحملتنا رسالتين إلى كل من الزعيمين طالباني وبارزاني بهدف وقف القتال وحل الصراعات عن طريق التفاوض.