كيف تتعامل الأميرة شارلين دو موناكو مع تاريخ طويل من التمرد والجموح النسائي تقاليد القصر؟
بعد خمس سنوات من علاقة غرامية مرت جل أطوارها في الظل وبعيدًا عن أعين الفضوليين سواء من الناس العاديين أو نساء ورجال الصحافة الشعبية، بعد كل هذه المدة، قال الخطيبان "نعم" لبعضهما مدنيا في قاعة العرش بقصر موناكو.
بعد ذلك، تابعهم العالم في حفل مماثل، لكن هذه المرة ديني، حيث ذرفت عروس الأمير ألبير شارلين، وهي تقف في طقوس احتفالية دينية في كنيسة سانت ديفوت، دموعا للفرحة المشوبة بقلق اللحظة على أنغام فرقة موسيقية يرافقها صوت حزين.
دموع قطعت دابر الإشاعات التي استهدفت العروسين، والتي أولت أنها نتجت ما لحقها من غيرة أطراف محلية لم تقبل أن يسرق قلب الأمير من طرف جميلة جنوب إفريقية، كما فسرت أنها كانت نتيجة الضغط الذي كانت تحمله على أكتافها على أمتار من ولوجها الباب الصغير لدائرة الأميرات والأمراء في موناكو والعالم ككل.
واستغرب الصحافي فريديريك لورون الذي يقطن الإمارة للإشاعة التي نشرتها مجلة الإكسبريس على موقعها، رغم أنه يشهد لها بمصداقية خاصة. وقال لورون "لقد اندهشت لتلك الحكاية..."، معترفاً أن هذا الصنف من الأخبار هو "الرياضة المفضلة لسكان الإمارة".
أصعب ما توجهه الأميرة الشابة
أصعب ما تواجهه شارلين ويتستوك، الشابة النحيلة ذات القامة المديدة التي أصبحت، اعتبارا من أول من أمس، أميرة لموناكو، هو التاريخ النسائي المضطرب والعجيب لعائلة غريمالدي، والذي توارثته أميراتها بنتا عن أم عن جدة.
لقد اشتهرت الإمارة الصغيرة المتكئة على كتف المتوسط من ضفته الشمالية، بجموح نسائها وسطوتهن، وتمرد الكثيرات منهن. لكن تاريخ أميرة موناكو الجديدة يخبرنا، أيضا، بأنها في طفولتها كانت تتنكر في ثياب «زورو»، البطل الأسطوري الشهير ذي القناع الأسود، الذي كان ينتصر للضعفاء من ظلم النبلاء المستبدين.
لم تكن أميرات موناكو التاريخيات مجرد قامات أنيقة ترتدي أزياء كبار المصممين، وصور جميلة تحتل أغلفة المجلات بهدف الترويج السياحي لبقعة من الأرض الصخرية التي لا تزيد مساحتها على الكيلومترين المربعين. بل لعب بعضهن، مثل بوميلين فريغوسو وكارولين جيلبيرت، أدوارا في صمود الإمارة خلال الأزمات الكبرى وفي وجه أطماع الطامعين. ولعل تلك الأزمات هي التي قوت شكيمتهن ودفعتهن إلى افتكاك السلطة من أيدي آباء لاهين أو أزواج ضعفاء الشخصية.
وكانت بوميلين، مثلا، الملقبة بالأرملة السوداء، تحكم بشكل مستقل ومن دون أخذ المشورة من أصحاب السلطة، آنذاك، أي أمراء مدينة جنوا، الميناء الكبير والقريب الواقع اليوم في ما يسمى بشاطئ «الريفييرا الإيطالية». ورغم أن زوجها وابنها وقعا رهينتين في أيدي الحاكمين في ميلانو، فإنها لم تتراجع، وضمنت استمرار السلطة في يد عائلة غريمالدي، كما وقعت بوميلين على اتفاقية تتضمن بندا يسمح للنساء بالجلوس على كرسي الحكم في موناكو، منذ عام 1454.
وكانت تلك هي البداية لسطوة أميرات من حفيداتها، مثل كلودين أو شارلوت - كاثرين دو غرامون التي مدت أواصر الصداقة مع ملوك فرنسا وبريطانيا وكانت من التمرد والتحرر حد أن زوجها كان يستدعيها لكي تعود من باريس إلى مونت كارلو لتأدية واجباتها البروتوكولية، فكانت تلبي الطلب مصطحبة عشيقها معها.
إنها، إذن، سبعة قرون من التحرر النسائي الذي انتهى بزواج كارولين، الشقيقة الكبرى للأمير الحالي ثلاث مرات، وانفصالها ثلاث مرات، وكذلك حال شقيقتها شتيفاني التي خرقت آخر هالات الحفاظ على المظاهر وأنجبت أطفالا من دون زواج رسمي، ثم تزوجت وطلقت وصاحبت السائق والحارس وصاحب سيرك الحيوانات. إنها أمور عادية في أوروبا، لكن العائلات النبيلة ما زالت تتحاشاها.
فكيف ستواجه أميرة موناكو الجديدة كل ذلك التاريخ؟
كان على شارلين، الشابة الرياضية التي تحمل ميداليات ذهبية عالمية في السباحة، أن تتعلم، قبل كل شيء، مرارة التخلي عن ثيابها البسيطة لكي ترتدي المجوهرات الثمينة والبدلات الكلاسيكية وفساتين السهرة الآتية من تحت أيدي المصممين والطرازات في ميلانو وباريس. وهي ما زالت تفضل الاستغناء عن المجوهرات قدر الإمكان، ولا تتزين بها إلا في المناسبات الرسمية. كما أنها وطنت نفسها على ارتداء الأحذية ذات الكعب العالي، وعرف عنها ميلها إلى تلك التي تحمل توقيع «جيمي شو».
لم يكن غريبا أن تبدي شارلين سعادتها بأول هدية تلقتها من الأمير ألبير بعد تعارفهما، رغم أن تلك الهدية لم تكن حلية من الماس ولا سيارة غالية، بل باقة ورد بسيطة. وهو أمر لا يكشف ذوقها فحسب بقدر ما يعبر عن ذكاء الأمير الذي فهم ميول حبيبته.
فهذه المرأة التي تمتلك من الصفات الخارجية كل ما يؤهلها لشغل منصبها الأميري بجدارة، جاءت من أجواء مختلفة تماما عن أوساط النخبة في موناكو. إنها من مواليد «بولاوايو» في زيمبابوي الأفريقية عام 1978، أي أنها تصغر زوجها بعشرين سنة، قبل أن تعود عائلتها للاستقرار في جمهورية جنوب أفريقيا منذ بداية تسعينات القرن الماضي. لذلك فإنها شديدة الإعجاب بالرئيس نيلسون مانديلا، ونشأت كشابة عصرية في كنف أب يعمل في وظيفة تجارية وأم تعمل معلمة للسباحة.
وكان من الطبيعي أن تلقي بها والدتها في أقرب مسبح، منذ نعومة أظفارها، لكي تتعلم فن العوم. ثم صارت الهواية هاجسا حقق لها ثلاث ميداليات ذهبية في بطولة العالم، عام 2002. والسباحة هي التي قادتها إلى موناكو للمشاركة في مسابقة جرت هناك، عام 2000، وهي الرحلة التي التقت فيها بالأمير الشاب للمرة الأولى، ثم تكررت اللقاءات، متباعدة، والمكالمات الهاتفية الطويلة عبر القارات والمحيطات والفوارق في التوقيت، إلى أن ظهرت قصة الحب للعلن وصارت شارلين من الوجوه المألوفة في مونت كارلو.
وإذا كان أهالي البلد يرونها شقراء باردة لا تشبههم في طباعهم المتوسطية الساخنة، فإن أصدقاء الدراسة يؤكدون أن الأميرة الجديدة تخفي خفرها وراء قناع من الهدوء، وأنها امرأة منطلقة ولطيفة وودودة، صقلت المنافسات الرياضية شخصيتها وتربت على عشق الطبيعة، ببحارها وجبالها، وعلى العمل الإنساني.
ومنذ إعلان خطوبتها للأمير، صار لشارلين مكتب في القصر، وطاقم من المساعدين والسكرتيرات، لكنها ما زالت تحصر نشاطها في العمل الإنساني، وتمضي جانبا من وقتها في المشي على القدمين والسباحة ولعب الغولف لساعات طوال.
ويحدث أن تخرج إلى المقاهي القريبة لشرب فنجان من القهوة مع إحدى صديقاتها، أو الجلوس تحت الشمس ومطالعة صحيفة الـ«هيرالد تريبيون» أو مجلة «تايم». لكن فسحات فراغها باتت معدودة، وسط المشاغل الكثيرة والاستعدادات التي سبقت العرس. كما عملت الأميرة الجديدة على تحسين لغتها الفرنسية، ومحاولة التعرف على أدبائها. وعرف عنها حبها لقراءة الروايات بلغة فولتير، إلى جانب كتب مواطنتها نادين غورديمر حائزة «نوبل» في الأدب.
في عام 2006، بعد إشاعات كثيرة، رأى العالم الحبيبين يتبادلان ضحكات وإشارات دافئة وهما يجلسان في مقصورة كبار الضيوف أثناء افتتاح دورة تورينو الأولمبية للألعاب الشتوية، في إيطاليا. وحطت الصور على صفحات كل المجلات الشعبية، وتوقع المعلقون أن الأمير قد حسم أمره.
لكن ساعة الحسم استطالت لعدة سنوات تالية، إلى أن وقف الاثنان أمام مسجل عقود الزواج المدني في موناكو، بعد ظهر أول من أمس الجمعة، ثم أمام الأسقف الذي كللهما عروسين، أمس، بشهادة الكثير من أصحاب الرؤوس المتوجة والألقاب الأميرية والرئاسية، وتحت أنظار الآلاف القلائل من أبناء الإمارة الذين زحفوا إلى الساحة الخارجية للقصر الرابض على صخرة تشرف على البحر، عدا الملايين الذين تابعوا الحدث عبر شاشات التلفزيون.
شارلين قالت «نعم» في عرس متوسطي وليلة من ألف ليلة
في الساعة الخامسة من عصر أمس، وصلت شارلين إلى موقع الحفل متأبطة ذراع والدها مايكل ويتستوك، ومرتدية فستانا من تصميم الإيطالي «أرماني»، حيث ازدحمت ساحة القصر بالكراسي المصفوفة لنحو 800 ضيف، بالإضافة إلى 3500 شخص من أهل الإمارة. وكانت قنوات تلفزيونية فرنسية رئيسية قد باشرت التغطية قبل هذا الموعد بساعتين. وسارت العروس على سجادة حمراء وبيضاء، داخلة إلى المبنى التاريخي الذي صار قصرها، حتى بلوغ المذبح الذي حول الساحة إلى كنيسة في الهواء الطلق.
بعد هذا الدخول المؤثر، انتقلت العروس من ذراع والدها إلى ذراع عريسها الأمير الذي ارتدى بدلة عسكرية، ليقفا أمام أسقف موناكو برنار بارسي. وقد وافقت شارلين على التحول من المذهب البروتستانتي إلى الكاثوليكي، مذهب الإمارة والعائلة الحاكمة في موناكو.
وقد أسهمت السلاسة التي تم بها الزواج المدني، في اليوم الأسبق، في تخفيف التوتر الذي خيم على أجواء العرس بسبب إشاعة تداولتها وسائل إعلام عالمية كثيرة ووضعت إتمام المراسم موضع الشك. وحسب أوساط مقربة من القصر، فإن غضب العروس كان بسبب طلب مقدم للأمير يتعلق باعترافه بأبوة طفل له من علاقة سابقة. وفي تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية، أمس، علق المصدر قائلا ما معناه إنه ليس بالإمكان إعادة تشكيل ماضي الأمير، وإن عروسه شابة عصرية وتتفهم هذه الأمور.
أمام المذبح، جلس المدعوون الرسميون من الضيوف الأجانب في نصف دائرة، يتقدمهم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي ترتبط دولته بعلاقات تاريخية وثيقة مع موناكو. وكان بين كبار المدعوين، كذلك، ممثل العائلة المالكة البريطانية الأمير إدوارد، النجل الأصغر للملكة إليزابيث الثانية وزوجته. وفي جانب من الساحة، تمركزت فرقة موسيقية يزيد عدد عازفيها على المائة، بينهم أعضاء أوركسترا الإمارة، ومنشدو أوبرا مونت كارلو، وعدد من كبار المغنين الضيوف.
وجاء قرار إجراء المراسم الدينية في ساحة القصر وليس داخل الكاتدرائية التي شهدت، قبل 55 عاما، زواج الأمير رينيه والأميرة غريس كيلي، والدي العريس، نظرا لصغر مساحتها التي لا تتسع لأكثر من 500 مدعو. وبعد انتهاء المراسم، استقل العروسان السيارة «الليموزين» المكشوفة و«النظيفة»، أي المعدلة وفق شروط الحفاظ على البيئة، وطافا شوارع الإمارة في طريقهما إلى كنيسة «سانت ديفوت» لوضع باقة الأزهار الخاصة بالعروس، هناك، حسب تقليد متوارث.
وأخيرا، حلت اللحظة التي ينتظرها الجميع، وهي الجلوس إلى موائد العشاء الاحتفالي ذي الأطباق المتوسطية التي أشرف عليها الشيف دوكاس. وكان الصيادون قد باشروا صيد الأسماك الخاصة بالعشاء الأميري منذ صباح الجمعة، وقال الطباخ الشهير إنه قرر أنواع الأكلات في اللحظة الأخيرة، وبحسب ما عادت به شباك الصيادين من حصيلة طازجة، بالإضافة إلى الخضراوات المنتقاة من مزارع الأمارة. وعلى إيقاعات الموسيقى وأنوار الألعاب النارية والعشاء الساهر المتوقع أن يكون استمر حتى الفجر، زفت موناكو أميرها الذي تعتق في خابية العزوبية.
شيرلين الأميرة
كان القبول المتبادل بين العروسين بتوقيع قبلة بينهما التقطت لها الكاميرات وعدسات المصورين صورًا تاريخية في حياة الإمارة جابت كل بقاع العالم، داحضة الإشاعات التي روجت قبل موعد حفل الزفاف بأيام، كما دشنت بذلك مسارا جديدا في حياة العروسين.
حفل الزفاف الذي انتظره العالم
وبهذا العقد المدني والديني بين العروسين تصبح السباحة الأولمبية الجنوب إفريقية شيرلين ويتستوك عنصرا ضمن عائلة جريمالدي، وتثبت تشبثها بهذه الزيجة، وبالتالي إنصاتها لقلبها دون أي مبالاة منها بالكتابات والأقاويل التي حاولت تنال من سمعة علاقتها بخطبيها.
وظهرت العروس في الحفل المدني بلباس عصري بلون سماوي، يعكس النفسية المتفائلة للعروس، في حين ارتدى العريس بذلة داكنة اللون توضح ثباته وصفاء ذهنه في يوم غير عادي، ليس في حياته فقط، وإنما في حياة إمارته برمتها.
أما في الحفل الديني، فكانت العروس جميلة للغاية، وحضرت كأميرة تستحق هذا اللقب بامتياز، تفاعلت بسمو مع الأجواء التي أحاطت بها، ونجحت في أول يوم لها كأميرة أن تنتزع حب جميع الموناكيين الذين حضروا لتحية العروسين على جنبات شوارع موناكو.
أمراء عرب من بين الضيوف
حضر الزفاف، بحسب مجلة لوفيغارو، أمير قطر وعقيلته موزة، زيادة على أولياء العهد في البحرين وأبو ظبي، والأميرة المغربية لالة مريم، كما هو شأن ملوك بلجيكا، وهولندا، ولوكسمبورغ، والدانمارك، والسويد وعدد من الأمراء والأميرات الأوربيين.
موناكو ووضعها الاقتصادي
يرى متتبعون أن موناكو تجتاح مرحلة اقتصادية صعبة، ويعول على هذه المناسبة كنوع من الدعاية لها، ولو أنهم يقرون أنها تختلف كثيرا عن زفاف أبيه، والتخوف الذي ظل حاصلا هو أن يطلع إلى السطح خبرا من العيار الثقيل يغطي إعلاميا على هذا الحدث.
ويربط الإمارة بفرنسا نوع من العلاقة توصف أنها ترواح نفسها بين الحب والكره. و يعاب على الإمارة فرنسيا أنها من بين الجنات الضريبية التي يفر نحوها من يسعون إلى تبييض الأموال، وهو ما يعقب عليه أحد الإعلاميين بقوله إن "الإمارة تعرف بالامتيازات الضريبية التي تخص بها مواطنيها لا أقل و لا أكثر".