أسابيع لندن .. مدريد .. لاكمي .. ثلاث عواصم والزمان واحد
السياسيون والاقتصاديون والفنانون وكل من يتابع أحداث العصر ومجرياته يعرفون أن الموضة ليست تلك الهواية السطحية التي يقبل عليها أناس مرفهون، لديهم متسع من الوقت لا يعرفون كيف يقضونه سوى بالتجول بين صفحات المجلات والمحلات، بل هي صناعة تضاهي في أهميتها صناعة الأطعمة وتحقق ضعف ما تحققه صناعة السيارات من مكاسب.
هذه الحقائق أكدتها بالأرقام دراسة صدرت مؤخرا تفيد بأنها فعلا صناعة تقدر بـ 21 مليار جنيه إسترليني في بريطانيا وحدها، وأن 816 ألف شخص يعتبرونها مصدر رزقهم.
وهذا لا ينفي أنها أيضا «بريستيج» ينعش قطاعات أخرى مثل السياحة، ويلمع صورة أي بلد كونها وسيلة حضارية تقرب وجهات النظر وتعرف بثقافة البلد الذي تصدر منه وإمكانياته الإبداعية بلغة يفهمها معظم الناس.
لكن على الرغم من أنه بإمكان أي بلد، كيفما كانت جغرافيته وإمكانياته، أن يستحدث أسبوعا خاصا به، وهو الأمر الحاصل الآن، بدليل أننا بين الفينة والأخرى نسمع بولادة أسبوع جديد في مكان بعيد لم نسمع من قبل أنه يهتم بالموضة ولا باحتضانه خبراء ومهتمين، فإنه من غير المنطقي أن تتم هذه الولادات بطريقة عشوائية، من دون أن تأخذ بعين الاعتبار أن التوقيت من ذهب.
فما هي الفكرة من أسبوع لا تحضره وسائل إعلام عالمية تخرجه من المحلية إذا كانت هذه الوسائل مشغولة بأسبوع آخر في بلد آخر، أو حتى في قارة أخرى؟
هذا بالفعل ما يحصل دائما خلال أسبوع لندن للموضة الذي يتزامن مع كل من أسبوع «لاكمي» الهندي وأسبوع «سيبيليس» الإسباني بمدريد، وأسبوع مقدونيا، بل وحتى اليوم الأخير من أسبوع نيويورك بعد أن تعدى هذا الأخير السبعة أيام إلى ثمانية أيام.
فمنذ نحو ثلاثة مواسم تقريبا، غيرت «التفاحة الكبيرة» تاريخها أو بالأحرى أضافت إليه يوما كاملا، رغم تدخلات السياسيين والمسؤولين في لندن لثنيها عن عزمها، آملين منها أن تعيد النظر في هذه الخطوة التي بلا شك ستؤثر سلبا على أسبوعهم.
لكن لا حياة في من تنادي، فقد أصرت غرفة الموضة النيويوركية على قرارها، وذهبت إلى أبعد من ذلك بتخصيص اليوم الثامن والأخير لمصممين كبار من أمثال أوسكار دي لارونتا ونعيم خان، وماركة «لامب» للمغنية غوين ستيفاني لتضمن بقاء وسائل الإعلام فيها إلى النهاية.
وطبعا المتضرر المباشر لندن، التي يكون يومها الأول دائما هادئا ينتظر وصول وسائل الإعلام والمشترين من ذوي الأوزان الثقيلة.
أما بالنسبة لأسبوع مدريد (سيبيليس) فيتزامن دائما مع أسبوع لندن، وينطلق دائما في اليوم نفسه، متحديا أي انتقادات أو مخاوف من عدم قدرته على استقطاب وسائل عالمية مهمة ومؤثرة. وكونه عاش هذا الموسم دورته الـ52، فهو يقول إنه صامد، ولا يرى أن هناك حاجة ملحة إلى دعم إعلامي خارجي.
وسواء كان السبب عدم مبالاته بالمنافسة من باب ثقته بنفسه، أو من كونه يتوجه إلى جهات محددة أو في أسوأ الحالات، يجهل أنه يحتاج إلى تسويق، فإن النتيجة واحدة، وهو أنه يضيع على نفسه تغطية مهمة لا شك يحتاجها، خصوصا أن الموضة التي يطرحها يمكن أن تنافس ميلانو بأناقة تصميماتها.
لكن مما لا شك فيه أن الدراسة التي نشرها أسبوع لندن مؤخرا وترد لصناعة الموضة اعتبارها كقطاع مهم، كان لها صدى في العاصمة الإسبانية، التي استعانت بالأميرة ليتيسيا، زوجة ولي العهد الإسباني الأمير فيليبي، لافتتاح أسبوعها منذ أسبوعين.
الهدف واضح وهو إضفاء المزيد من الثقل عليه، على غرار ما تقوم به لندن منذ عدة مواسم، بدخول سياسيين معتركها للإبقاء عليها وإنعاشها، الأمر الذي أتى بثمار تزيد الشهية وتثلج صدور كل البريطانيين.
فجولات عمدة لندن، بوريس جونسون، معروفة، حيث احتفل شخصيا ببلوغ أسبوع لندن الـ25 عاما، كما يعمل كل ما في وسعه لتسهيل حضور وسائل الإعلام وتوفير خدمات تنال رضاهم وتشجعهم على المجيء مرة ثانية، كما أن الأمير تشارلز فتح أبواب «كلارنس هاوس» في قصر سان جيمس لها، هذا الموسم، وقدمت بين جنباته تصميمات خاصة بالموضة الأخلاقية.
وجدير بالذكر أن المنافسة بين لندن ومدريد غير خافية على أي متابع للموضة، وهي ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب. فعندما كانت لندن فقيرة وتتوق لمن يدعمها ماليا ومعنويا، كان هناك أمل يراود المسؤولين في إسبانيا بسحب عاصمتهم السجاد من تحت أرجلها واحتلال مكانتها ضمن الـ4 الكبار، إلا أن الأمل أصبح ضعيفا وشبه مستحيل بعد أن بلغت لندن الخامسة والعشرين من عمرها.
فقد اشتد عودها وزادت جاذبيتها، لا سيما أن الزمن علمها لعبة التسويق والدعاية والإغراء. فهمت أيضا كيف تستفيد من الأخطاء القديمة والتجارب الصعبة التي مرت بها وأن لا تنسى مكامن قوتها.
قوة تعرف أنها تستمدها من شبابها ومن خصوبتها التي تتجلى في قدرتها على تفريخ شباب يشاد بهم في الموهبة والابتكار من جهة، فضلا عن حسن استقبالها واحتضانها لكل موهوب أجنبي بغض النظر عن جنسيته وميوله من جهة ثانية.
لهذا، ومنذ بلوغها الـ25 في العام الماضي، تنتقل من نجاح إلى آخر لدرجة أنها أصبحت تؤرق نيويورك وميلانو على حد سواء.
من ناحية التسويق أصبحت تنافس الأولى، ومن ناحية تفريخ الشباب تتفوق على الثانية بأشواط. ميلانو الآن متهمة بأنها لا تحتضن المواهب ولا تولدهم، فمعظم مصمميها الكبار بلغوا من الكبر عتيا، ويحتاجون إلى دماء شابة تضخ بعض التجديد والحيوية فيهم، خصوصا وأن آخر اكتشاف أنجزته كان منذ أكثر من عشرين عاما مع ظهور الثنائي «دولتشي آند غابانا» ويبلغان الآن منتصف العمر.
لندن في المقابل، لا تتوقف على تقديم مصممين شباب، محاولة الحفاظ على روحها الشابة والمبتكرة من دون أن تنسى أن هذه الأزياء يجب أن تجد لها مكانا في السوق وليس فقط على صفحات المجلات.
يوم الثلاثاء انتهى أسبوع لندن، بعرض دار «بيربيري» التي عادت إليه بعد 8 سنوات من العروض في ميلانو، بينما امتد أسبوع مدريد إلى يوم الخميس، أي سبعة أيام كاملة، متجاهلا حتى انطلاق الأسبوع الميلاني يوم الأربعاء الماضي.
يمكن القول إن كونه يعيش في عالمه الخاص، جعله في منأى عن الضجة التي أثارها تغيير نيويورك لتاريخ أسبوعها ورفض ميلانو أن تؤجله ولو ليوم، مما حشر لندن بين العاصمتين وقصر أسبوعها إلى 5 أيام فقط. وخلال كل هذه الضجة لم تتدخل مدريد في النقاش وظلت على موقفها وكأن الأمر لا يعنيها.
سرعان ما تمالكت لندن توازنها، فهي عاصمة تعرف كيف تتعامل مع الأزمات والمطبات لأنها عايشتها لأكثر من عشرين عاما، وحولت ما بدا للوهلة الأولى نقطة سلبية إلى مكمن قوة. فالآن يمر أسبوعها قصيرا وحلوا وسريعا لا يدخل الملل على النفس.
صحيح أن بدايتها تكون هادئة، غير أن الإيقاع يتسارع بدءا من اليوم الثاني وترتفع حرارته إلى المائة في اليومين الأخيرين، بفضل أسماء مثل «بيربيري»، و«إيريديم»، وأماندا وايكلي، وتود لين، وكريستوفر كاين، والثنائي «بيتر بيلوتو» وهلم جرا من الأسماء التي باتت تستقطب شخصيات مثل أنا وينتور، رئيسة تحرير مجلة «فوغ» الأميركية.
أما أسبوع «لاكمي» الهندي، فإن جغرافيته تختلف، لكن قصته لا تختلف من حيث تفاصيلها كثيرا. فهو الأخير يغني على ليلاه في نفس التوقيت، وإن كان يحاول أن يركز على استقطاب إعلاميين من آسيا وأستراليا والشرق الأوسط، بالنظر إلى قربهم منه. هذا الموسم أيضا، رأى أن يستعين بنجوم بوليوود الذين لم يبخلوا عليه ببريقهم، لكن حسبما نشرته وسائل الإعلام الهندية، فإنه شهد حضورا ضعيفا رغم الاحتفالات والدعايات التي سبقت انطلاقه.
ولم تشفع له مشاركة نجمات معروفات مثل ناندانا سين، وغيرها، بل العكس فقد سرقت الكثيرات منهن الأضواء من الأزياء، وهو الأمر الذي لا يروق للمصممين عادة، لكنهم في هذه الحالة عليهم القبول بالمر لتجنب التجاهل التام.
من الصعب أن يشفع للأسبوع الهندي، الباقة المشكلة من المصممين المهمين أمثال مانيش أرورا، إلا أن تزامنه مع أسابيع عالمية أخرى يحد من فرصته للتعريف بهم أمام جمهور عالمي أكبر، علما بأن الكثير من التصميمات في عروض «ريدي وسيدي» الذي يدخل ضمن «جين نيكست» أو الجيل القادم، مثلا، كانت تخاطب الغرب أكثر من الشرق، كذلك ألوانها وتطريزاتها الخفيفة أو المنعدمة تماما.
فالساري الذي كان يسود منصات العروض سابقا، تراجع إلى الوراء لصالح لباس «الكادي» المكون من سروال و«توب» طويل لعمليته، فضلا عن أن بعض المصممين حرصوا على تفكيكه وإعطائه أشكالا شابة تخاطب الجيل الجديد من الزبونات الشرقيات.