في أسبوع باريس .. عودة المخضرم بيير كاردان بأطول عرض في التاريخ المعاصر
قد يكون اليوم الرسمي لانطلاق أسبوع باريس هو يوم الثلاثاء، لكن محرري الموضة لا يبدأون في أخذه بجدية إلا في اليوم الثاني. فاليوم الأول هو الذي يلتقطون فيه أنفاسهم بعد أسبوع في ميلانو، لا سيما أنهم لا يرون أن هناك حاجة للجري وراء مصممين شباب لن يعلنوا في مجلاتهم بسبب ضيق ذات اليد، ولا يمكن استعمال أزيائهم بأي حال من الأحوال بسبب ابتكاراتها الفانتازية التي تتحدى الواقعية. اليوم الثاني في المقابل، يشكل طبقا دسما بالنسبة لهم، فهو يضم أسماء معروفة من البلجيكي دريز فان نوتن، إلى آن فاليري هاش، «غي لاروش»، «روشا»، فيليب أوليفيرا باتيستا، والأهم من كل هذا، فإنه شارك فيه المخضرم بيير كاردان، بعرض طال ترقبه.
بيير كاردان البالغ من العمر 88 عاما، كان أشهر من نار على علم في الستينات من القرن الماضي، وعبرت شهرته المحيطات كمصمم سابق لأوانه بأفكاره المستقبلية وشطحاته الخيالية، لكنه توارى عن الأنظار في الثمانينات، بينما بقي اسمه يتردد ويدر الأرباح على من اشتروه ويطرحون أزياء تحمل توقيعه، رغم أنه ليس من وقعها أو أجازها. بل - كما تبين من تصريحاته - لم تكن لتنال رضاه إذا عرضت عليه، الأمر الذي أثر في نفسه طويلا، ودفعه إلى أن يثور عليهم وعلى التصميمات التي لم تكن تتنفس روحه الشابة، ويقدم لهم درسا يشرح فيه كيف يمكنهم أن يتطوروا مع الوقت ومخاطبة شريحة الشباب والجيل الصاعد بلغة سلسة.
وبالفعل جاء عرضه، بقدر الانتظار واللهفة، مثيرا وضخما بكل المقاييس، إلى حد أنه يمكن أن يدخل موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية كأطول عرض أزياء في التاريخ المعاصر. فقد قدم 90 زيا غطى بها كل ما تحتاجه المرأة والرجل لكل المواسم، الأمر الذي استغرق نصف الساعة تقريبا، في حين لا يستغرق أي عرض في العادة أكثر من 10 دقائق. لكن يبدو أن المصمم لم يرد أن يفوت الفرصة التي طالما ترقبها منذ أن أصبح اسمه ملكا للآخرين يفعلون به ما يريدون، لرد الاعتبار لنفسه وليقول إنه لا يزال في جعبته الكثير.
افتتح العرض بعارضة وعارض في أزياء مستوحاة من رواد الفضاء باللون الوردي الفاقع اللماع، وبأسلاك تلتف حول الساق على شكل حلقات، تلته أزياء لا تقل مستقبلية وغرابة، لكنها تذكر بتاريخ هذا المصمم المخضرم الذي بنى شهرته في الخمسينات والستينات بعدم ميله إلى الالتفات إلى الماضي، مفضلا تصويب أنظاره دائما إلى المستقبل.
لم تكن التشكيلة تغطي كل المواسم فحسب، بل أيضا كل المناسبات، من النهار والنزهات العادية إلى السهرة وحفلات الكوكتيل التي خصص لها فساتين قصيرة بكورسيهات محددة مستوحاة من حقبة الثمانينات. منذ البداية، كان واضحا أن كل بصماته ستكون حاضرة، سواء من حيث استعماله فن الغرافيك في رسومات لشخصيات من الخيال العملي أو في تفصيله فساتين سهرة بألوان متوهجة، وأخرى بألوان باستيلية هادئة أو باستعماله خامات لماعة وبراقة. أما الإكسسوارات فحدث ولا حرج، فقد كان هناك كم من النظارات المستقبلية الشكل التي تحدد العيون، فضلا عن قبعات وأشرطة على الرأس ومجوهرات ضخمة حول العنق وحقائب غريبة وكبيرة الحجم، بل وحتى إكسسوارات لتزيين الكاحل، عدا عن أحذية رجالية برقبة عالية مرصعة بقطع معدنية.
العنصر التجاري كان حاضرا ليس فقط من خلال فساتين ناعمة وقصيرة، لم يقاوم رغبته في طبعها بالمستقبلي ولو من خلال دائرة صغيرة على الصدر تبدو وكأنها زر لتحريك إنسان آلي، ولا من خلال فساتين سهرة طويلة ومنسابة أو جاكيتات من التويد، بل من خلال مجموعة من فساتين الزفاف باللون الأبيض والدانتيل، بما فيها فستان رومانسي يستحضر سندريلا بالتنورة المستديرة الفخمة. مجموعته هذه كانت أقرب إلى الواقع والحاضر منها إلى الخيال المستقبلي، مما يشير إلى أن هذا العجوز يريد أن يخترق السوق العالمية فنيا وتجاريا. فبعد باريس، سيتوجه إلى نيويورك من دون أن يخفي نيته في تحريك سوقه هناك ورفع مبيعاته، بحسب ما صرح به لـ«ويمنز وير دايلي»: «لأني لا أحصل على تغطيات إعلامية كبيرة، فإن الكثير من الجيل الصاعد لا يعرفني. أريد أن أوضح لهم أني ما زلت حداثيا وأصمم قطعا مبتكرة».
من جهته، لم يخرج البلجيكي دريز فان نوتن عن أسلوبه المعهود، أي ميله إلى اللعب والتلاعب على مفهوم الرجولة والأنوثة المثير بطريقة ذكية تعشقها محررات الموضة. هذه المرة لعب عليها من خلال نعومة الحرير وشفافية الشيفون وخشونة الدينم والجينز والقطن القوي، ومن خلال البسيط والمطرز، السميك والشفاف.
هذه الازدواجية امتدت أيضا إلى التصميمات التي مزج فيها ثلاث حقب مختلفة هي: الأربعينات بتفصيلاتها، والسبعينات بألوانها الصارخة، والتسعينات بهدوئها وبساطتها التي تتقيد بشعار «القليل كثير». ومع ذلك كان هناك تركيز لافت على الأحجام الكبيرة والنقوش التي رسمت على الحرير، في إشارة واضحة إلى تأثره بالفن الصيني ورسومات وألوان البورسلين، الأبيض والأزرق والأصفر.
ما يحسب لدريز فان نوتن، ويجعله من أهم المصممين المعاصرين، أنه ابن عصره، يفهم ثقافة الشارع، وينجح دائما في قراءتها بشكل فلسفي وترجمتها بأسلوب فني، لكن واقعي، يخاطب نخبة ليست بالضرورة ثرية أو مترفة، لكنها تتمتع بأسلوب راق وثقافة عالية.
وهذا ما أكدته هذه التشكيلة التي تناغم فيها الجينز الواسع والفضفاض مع قطع مفعمة بالنعومة والأنوثة. البنطلونات كانت في الغالب من الجينز زينتها أحزمة باللون الأبيض، كما كان هناك جاكيت لم يكسر بياضه سوى جزء أزرق سماوي صغير على حواشي الأكمام، فضلا عن فساتين تتدرج من اللون الوردي إلى الأرجواني من أسفل أو الأصفر أو البيج، وتبدو وكأنها قوس قزح.
أما القمصان البيضاء ذات التصميمات الواسعة التي أخذها من خزانة الرجل فنسقها مع تنورات مفصلة أعطتها بعدا أنثويا قويا. إذا كان دريز يتصور امرأة قوية وواثقة باللعب على الرجالي والأنثوي، فإن الصورة التي تسكن مخيلة السويدي، مارسيل مارونغيو، المصمم الفني لدار «غي لاروش» هي لامرأة واثقة وأنيقة في الوقت ذاته، كل همها الانطلاق، سواء تعلق الأمر بالتصميمات المناسبة أو الأقمشة المنسدلة. أطلق على مجموعته عنوان «عالم جديد وشجاع»، مما يفسر شحنه لها بكل معاني الأناقة الباريسية، التي قامت عليها الدار أساسا، بدءا من فساتين ناعمة ومطرزة تراقصت فيها الأقمشة الشفافة على ألوان متوهجة لخلق إحساس بالنعومة والسعادة، إلى البنطلونات المنسدلة لتغطي صنادل بكعوب عالية.
كان واضحا أن المصمم يريدها أن تعبر عن شخصية قوية في وجه التغيرات الاجتماعية الكثيرة، وتحديدا الأزمة الاقتصادية، وهي تغيرات جسدها في تدرجات الألوان، التي تباينت بين ألوان البشرة الهادئة ودرجات متوهجة مثل الأزرق والأصفر الليموني الفاقع، إلى جانب بعض الرسومات التي طبعت قطعا معدودة في بعض الأجزاء. كانت هناك رغبة ملحة انطلقت عدواها إلى الحضور بخلق شعور بالتفاؤل والبهجة والانطلاق، خصوصا بالنظر إلى بساطة التصميمات التي قد تبدو منسدلة بحرية على الجسم لكن كل ما فيها محسوب حتى تأتي الإطلالة أنيقة. شملت تشكيلته الكثير من الفساتين الناعمة والبنطلونات الضيقة، التي كانت متأثرة أيضا بالأسلوب الـ«اسبور» (العصري).
مارسيل استغل الفرصة وقدم إكسسوار الدار الجديد: حقيبة تحمل اسم «سانسيت» (الغروب) من الجلد باللون البرتقالي، لتكتمل الصورة والسعادة التي أدخلها العرض ككل على النفس.
المصممة الفرنسية آن فاليري هاش، في المقابل قدمت تشكيلة مختلفة في إيقاعها. تشكيلة تتميز بالحيوية والشباب غلبت عليها بنطلونات منسدلة تكاد تكون فضفاضة في بعض الأحيان وجاكيتات توكسيدو من الحرير بألوان الباستيل. الحرير لم يكن هو الخامة الوحيدة التي صاغت منها آن فاليري هذه السيمفونية الشعبية، فقد كانت هناك الكثير من القطع من الموسلين، الذي تماشى مع التصميمات التي تدعو إلى الانطلاق والتحرر من قيود الضيق والمألوف.