الساعات المزخرفة .. رحلة جمال وإبداع من الجيب إلى المعصم

لأن ساعات اليد من المنتجات التي يمكن أن يدفع المرء من أجلها مبالغ طائلة، فإن صناعها وجدوا أنفسهم أمام تحديات كبيرة للحفاظ على ولاء زبائنهم وإغرائهم بالمزيد من الشراء حتى تظل الحياة مستمرة، وفي الوقت ذ
لأن ساعات اليد من المنتجات التي يمكن أن يدفع المرء من أجلها مبالغ طائلة، فإن صناعها وجدوا أنفسهم أمام تحديات كبيرة للحفاظ على ولاء زبائنهم وإغرائهم بالمزيد من الشراء حتى تظل الحياة مستمرة، وفي الوقت ذ

الموضة ليست وحدها التي تتغير، فطريقة تعاملنا معها أيضا تخضع لتغير أمزجتنا وأسلوب حياتنا، بما في ذلك الحالة الاقتصادية والمادية التي نعيشها.


فكلما كانت هناك طفرة تصل ثمارها إلى الجيوب، تزيد الرغبة الشرائية بغض النظر إذا ما كان المنتج يستحق سعره أم لا، وكلما كان هناك كساد انقلب الوضع، وزاد البحث عن الفريد والمتميز مع الكثير من التأني.

الأزمة الاقتصادية الأخيرة سلطت الضوء على هذا الأمر أكثر، حين جعلت شريحة الأثرياء تحديدا يفكرون عشر مرات قبل تقديم بطاقات ائتمانهم للبائعين في المحلات.

فهم الآن يريدون منتجات استثمارية تبقى للأبد من جهة، وتتمتع بما يبرر أسعارها العالية من جهة ثانية.

ولأن ساعات اليد من المنتجات التي يمكن أن يدفع المرء من أجلها مبالغ طائلة، فإن صناعها وجدوا أنفسهم أمام تحديات كبيرة للحفاظ على ولاء زبائنهم وإغرائهم بالمزيد من الشراء حتى تظل الحياة مستمرة، وفي الوقت ذاته استقطاب زبائن جدد.

نظرة خاطفة على ما طرح في المعارض في الآونة الأخيرة يؤكد أنهم وجدوا الحل في الفن، مما يفسر تحول بعض الساعات إلى لوحات فنية مصغرة، تحكي قصصا وروايات متكاملة أحيانا.

فهناك على سبيل المثال ساعة «هيرميس» ذات الحصان الأزرق الذي يعدو على ميناء الساعة، وساعة «كارتييه» التي تجسد حيوانا مطليا بشكل لامع، أو ساعة «جيجر لوكولتر» المزخرفة، أو تحف «فان كليف آند اربلز» التي تحكي قصص حب ورومانسية حية من أجواء الطبيعة وألوانها، بالإضافة إلى ساعات «ديور» التي كشفت عنها الستار في معرض بازل الأخير.

ورغم اختلاف الماركات فإنها كلها التقت في حبها لفن زخرفة ميناء الساعات، واحتفالها بالمهارات اليدوية في هذا المجال.

في عدد محدود، مثلا، طرحت دار «ديور» ساعتها الفنية «ديور كريستال 8» (Dior Christal 8) المصنوعة من الذهب والورنيش.

عدد قطع هذه المجموعة لا يتعدى الثماني، واستهدفت منها الدار الاحتفاء بذكرى المؤسس، كريستيان ديور، وحبه للفن، في إشارة واضحة إلى رقم الحظ الذي كان يتفاءل به.

فأول تشكيلة قدمها في فبراير (شباط) عام 1947 كانت بعنوان «أون إيت» أي على ثمانية، لقيت نجاحا كبيرا أثلج صدره وجعله يتعلق بهذا الرقم.

لهذا عندما كشفت الدار الستار في مارس (آذار) الماضي عن مجموعة ساعات بوظائف معقدة أقلها أن تقرأ الوقت في ثماني مدن عالمية، كان الأمر مفهوما بأنها فعلا ستكون قدم السعد على الدار مرة أخرى.

فما يحسب لها، إلى جانب تعقيداتها وميكانيكياتها المتطورة، شكلها المستوحى من الآرت ديكو الذي يغلب عليه الذهب واللؤلؤ والورنيش إلى جانب موادها وخاماتها المترفة الأخرى.

جدير بالذكر أن الساعات المزخرفة بالورنيش والألوان أو المطعمة بالماس ليست بالأمر الجديد، فقدت ولدت فكرتها مع مولد الساعات ذاتها، ووصلت الزخارف على إطارات ساعات الجيب أوجها في القرن الثامن عشر لتنتقل فيما بعد إلى ميناء الساعة.

لكن ما نراه اليوم لا يعني بالضرورة التأثر بالماضي بشكل أعمى، فالوظائف والتعقيدات جد متطورة، كذلك الشكل الرفيع والنحيف، ويبقى الاستلهام من الماضي مقتصرا على الرسم وفنياته التي يقوم بها عادة فنان متمرس، وكأن البعد الفني أصبح هدفا مهما في تصنيع الساعات.

في جنيف وخلال صالون الساعة الفاخرة في شهر يناير الماضي، كان هناك شبه تسابق على عرض كل ما يحتفي بالطبيعة وفن الرسم والورنيش والإيناميل على الساعات.

فقد أتحفتنا الكثير من شركات الساعات السويسرية الفاخرة بأجمل اللوحات الفنية، بل احتفل الصالون بمعرض صغير لبعض هذه التحف التاريخية التي تم إصلاحها وإعادة الحياة إليها من قبل دار «بارميجياني فلوريه».

كانت كل تحفة في المعرض تأخذك إلى عالم من الجمال والحرفية، وتجعلك تقف مبهورا وأنت تتساءل كيف استطاع حرفيو القرن الثامن عشر وغيرهم أن يصوغوا لوحات فنية تجمع الفن وعلم الوقت وقصص الحب والغرام في علب صغيرة بهذا الحجم؟.

دار «فاشرون كوستنتان» بدورها قدمت للحضور درسا حيا عن تقنية الورنيش ضمن ما أصبح يعرف بـ«ميتييه دار» (métiers d›Art) وهي عبارة عن مجموعات محدودة لا تتعدى في الغالب العشرين ساعة كل عام.

في مجموعتها الأخيرة، «لاسامبوليك دي لاك» استضافت الدار حرفيا من اليابان احتفالا بالثقافة اليابانية وما تحمله من رموز وأساطير.

استعرض لنا الفنان فيها كيفية التلوين والحفر والدقة التي يتطلبها هذا الفن لتكتمل الصورة، مرة برش بودرة ذهبية أو فضية على أشكال محفورة تبرز بعد مسح البودرة بفرشاة ناعمة فتظهر وكأنها شجرة صنوبر، أو شجرة برقوق وبلبل، أو عصفور على غصن خيزران. تجسد مجموعة «لاسامبوليك دي لاك» الأصدقاء الثلاثة للشتاء، برموزها المحملة بطول العمر والسعادة والصبر.

واللافت أن هذه المجموعة جمعت الجمال والتقنية على حد سواء، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنها من أكثر الساعات رشاقة بعلبتها التي تقدر بـ40 مم فقط.

دار «فان كليف أند اربلز» بدورها قدمت مجموعات مميزة، تحكي قصصا وروايات على مينا ساعاتها. في إحداها كانت حديقة إنجليزية باللونين الأزرق والأخضر مصقولة بفراشات وطواويس وطيور أخرى وقاعة خشبية، وفي أخرى نقش وماسات ومشهد ياباني يسطع بألوان زاهية وكأنه لوحة موزاييك، تضج بألوان الطبيعة وكائناتها بكل ما ترمز له من حب وسعادة.

ساعة «Timeless Oiseaux de Paradis» تروي مثلا أسطورة طيور الجنة، التي تحلق في الهواء بلا نهاية. تتغذى من الندى في الجو، تستعرض براعتها برشاقة ودقة، متباهية بريشها المتوهج اللامع.

فيها يرقص الذكر، بقوس منقاره الحساس، رقصة حب لأنثاه، ويقدم لها حجر الإسبنيل بلونه الأحمر الناري، لون الحب.

بدورها قدمت شركة «جيجر لوكولتر» سلسلة من الساعات تجسد هذا الفن النادر، لكن من خلال توهج نار الأحجار الكريمة والمعادن النفيسة، مثل: Master Tourbillon Joaillerie، Master Grand Tourbillon وMaster - Twinkling.

بالدرجة الأولى كانت هذه الساعات تخاطب المرأة قبل أن يأتي دور الرجل في الحصول على ساعات مرصعة ومرسومة بفنية عالية، تحول فيها التوربيون إلى رسم مزين قائم بذاته، مع وجود ميناء ثانوية تظهر الـ24 ساعة، مع العلم أن التطعيم بعرق اللؤلؤ الأسود، الرمادي أو الأبيض على شكل الميناء، هو ما يشير إلى أنها ذكورية.

وبهدف التوجه مباشرة إلى قلب المرأة، تُرجمت الرسوم الزهرية بعرق اللؤلؤ والماس عبر تركيبات مستوحاة من حقول التيوليب أو زهور اللوتس.

وهناك تصاميم أخرى تميزت بإطار من الماس المتلألئ تقديرا لفن «الأسود والأبيض» أو للرسوم الملونة على عرق اللؤلؤ من خلال ابتكارات تستحضر بشكل لا يقاوم تقنيات الرسم بالماء.

وتعرض هذه اللمسات المثيرة للانطباع رسوما مزخرفة بدقةن وألوانا ذات ظلال رقيقة مبرزة بحيوية الإنجاز الساعي المذهل المتمثل بمنظم التوربيون.

معرض «بارميجياني فلوريه» .. لقاء الماضي والمستقبل
إنه لشيء رائع أن تكون هناك ورشة إصلاح لتحف الماضي في قلب مشغل للساعات الفاخرة العصرية.

هذا ما سلط عليه الضوء في صالون جنيف للساعات الفاخرة الأخير، من خلال معرض جانبي تم فيه عرض ساعات قديمة أشرفت دار «بارميجياني فلوريه» على إصلاحها بطريقة تحترم الماضي والمستقبل في الوقت ذاته.

فحتى يتم ذلك، يقوم الحرفي بدور مفتش التحري شيرلوك هولمز، للكشف عن آثار أو بصمات متروكة على أحد التروس، وقبل فك القطعة، يقضي الكثير من الوقت في فك الطلاسم للعين المجردة، حتى يعيد إصدارها بأمانة ودقة.

وهي عملية لا يمكن لأي كان أن يقوم بها، بل يجب أن يكون متمكنا من كل فروع هذه الصناعة، بدءا من صياغة الحلي أو فن الطلاء بالمينا أو الحفر إلى الترصيع وطرق التذهيب أو صناعة الزجاج.

بخصوص الساعة التحفة «Œuf au Paon de Fabergé»، مثال، فقد انتهى بارميجياني من إجراء إصلاح دقيق ورهيف عليها يسمح اليوم للآلية بالعمل من جديد بشكل متناغم، يسمح بتحرك الطاووس على قدميه في خيلاء باسطا ريشه، مع العلم بأنه تم تقويم الريش واحدة واحدة برقة، فضلا عن الرتوش الظاهرة التي أدخلت على المينا.

تقنيات ترصيع المجوهرات
في الترصيع التقليدي، على عكس الميكانيكي، يقتصر عمل المرصع على تثبيت المجوهرات في مقاعد تعدها ماكينة ومن ثم يرد المادة على الأحجار ليثبتها في مكانها.

ويحدد الحرفي الخبير الذي يمارس الترصيع التقليدي شخصيا عدد الأحجار وموقعها قبل القيام بعمليتي حفر منفصلتين: عملية في غاية الدقة تهدف حصريا لتحديد الموضع الصحيح للجوهرة، وأخرى لتوسيعه لتتلاءم وحجم هذه الجوهرة. يقتضي هذا الإجراء البطيء قدرا كبيرا من الجهد والأناة، يتضمن نحت المادة وتقطيعها بشكل متكرر ثم إعادة تقطيعها بهدف تحرير الحبة تدريجيا من المعدن الثمين الذي يمسك بالأحجار.

تلي ذلك عملية دقيقة تقتضي براعة يدوية كبيرة لتركيز الجوهرة بدقة في مقعدها. وعليه، تضفي هذه الاحترافية اليدوية الماهرة على كل تصميم هالة من الاستثنائية حتى في حال إنتاج عدة تصاميم من النوع نفسه، لأن كل تصميم سيأتي متميزا عن الآخر.

دار «جيجر لوكولتر» مثلا عملت على تطوير تقنيتين مبتكرتين: «الترصيع الثلجي» و«الترصيع الصخري» .. في ما يتعلق بالترصيع الثلجي، تعتبر القطعة بحد ذاتها أو الرسم المتكرر المطلوب وضعه المرجع الوحيد لصانع المجوهرات الذي يجسد الرسم مباشرة على المادة بتوجيه من مصدرَي وحي نابعين من التأمل والإبداع، مع أن أقل زلة يدوية يمكن أن تؤدي إلى عواقب وخيمة في إطار هذا الفن الدقيق.

توضع أحجار الماس الواحد تلو الآخر، جنبا إلى جنب، مع التلاعب بقطرها المتغير من ماسة إلى أخرى بهدف تغطية المعدن الثمين كليا، فيظهر عمل المرصع تدريجيا بينما تغطي الأحجار التي تستكين مقابل بعضها البعض بشكل وثيق سطح المعدن بأكمله.

بالإضافة إلى أن التعقيد الذي يتسم به هذا العمل والوقت المطلوب لإنجازه، واختيار الماسات نفسها، يتطلب خبرة كبيرة مراعاة لشرط دمج أصغر ماسة في أكثر التصاميم جرأة دون تلحيم.

تقنية الترصيع الصخري
وهي من أحدث التقنيات التي ولدت من رحم خيال مرصعي المجوهرات في الدار، التي تتميز بتنسيق استثنائي يكشف عن بريق أنقى أحجار الماس.

تمنح الحجارة الثمينة هنا مكانتها مع تقطيعها بشكل باغيت لتأمين تجاور صقيل أملس. من الناحية العملية، تختفي القاعدة أو الخلفية، أي المادة الموجودة بين الأحجار، تحت هذه «السجادة» النفيسة، مخلفة توهجا مشعا.

تشكل هذه الطريقة في الترصيع بصورة طبيعية عملا يهدف إلى إكساء علب الساعات التي تزين المعاصم جمالا وحرفية عاليين.