الكشف عن سر فيروس «الإيبولا» القاتل بعد ثلث قرن من ظهوره
بعد مرور نحو 33 عاما على ظهور موجته الوبائية الأولى في زائير (الكونغو الديمقراطية حاليا)، ونحو 15 عاما على موجته الوبائية الرابعة التي ظهرت في كوت ديفوار، التي أثارت الذعر في مختلف أرجاء العالم، تمكن العلماء مؤخرا من تحديد السبب الحقيقي الذي جعل من فيروس «الإيبولا» مرضا قاتلا بلا علاج معروف حتى الآن.
وحسب دراسة أجراها علماء جامعة أيوا الأميركية، ونشرتها دورية «علم تكوين وجزيئات الأحياء» في عدد يناير 2010، فإن أحد البروتينات الغامضة المكونة لفيروس «الإيبولا» يتيح له خداع الجهاز المناعي للخلايا المصابة عن طريق إقناعه أن كل شيء على ما يرام.
ويوضح المشرف على البحث، أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة أيوا، البروفسور جايا أمراسينغي، أن معظم الفيروسات تقوم بتسخير الخلايا الحية لخدمتها عند حدوث العدوى، حيث تقوم نواة الخلية بإنتاج ملايين النسخ من المادة الوراثية (RNA) لمصلحة الفيروس الذي غزاها، الأمر الذي يعني تكاثر الفيروس وتحوله إلى عدد لا نهائي يحكمه فقط قدرة الخلية الحية على الصمود قبل أن تنفجر في نهاية الأمر.
وما إن تبدأ هذه العملية، حتى يستشعر الجهاز المناعي وجود المادة الوراثية الغريبة ليبدأ في التحرك الدفاعي ومهاجمة الخلية المصابة والفيروس الموجود بها، بغض النظر عن مدى قوة أو تأثير هذه القدرات الدفاعية.
تعمية استراتيجية
إلا أن البروتين المعروف باسم «VP35»، والموجود داخل فيروس «الإيبولا»، يقوم بعملية «تعمية استراتيجية» على إنتاج رموزه الوراثية، ما يجعل الخلية تقوم بإنتاج الـ«RNA» دون شعور الجهاز المناعي بوجود أي نشاط غير طبيعي داخلها، وبالتالي لا يقوم بأي خطوات دفاعية.
وهذه الحقيقة العلمية هي التي أدت إلى فشل كل المحاولات السابقة في إيجاد علاج ضد فيروس «الإيبولا»، إذ إن معظم العقاقير المعروفة لمقاومة الفيروسات تقوم بالأساس على تنشيط تفاعلات الجهاز المناعي تجاه فيروس ما، وهو الأمر الغائب من الأصل في حالة الإصابة بـ«الإيبولا» التي لا يشعر فيها الجهاز المناعي بوجود شيء غير معتاد.
وتعود أهمية هذا الكشف العلمي إلى أنه يعيد توجيه أنظار العلماء إلى ضرورة البحث عن مسار آخر، بدلا من العقاقير التي تعتمد على التنشيط المناعي، في إطار بحثهم الدءوب عن علاج ضد فيروس «الإيبولا»، بدلا من إضاعة الوقت، الذي قد يكون ثمينا للغاية، قبل أن ينشط الفيروس القاتل مرة أخرى.
وفيروس «الإيبولا»، رغم كونه قاتلا في حال انتقاله للإنسان، فإنه يصنف ضمن الفيروسات قليلة الانتقال بين الأجناس الحيوانية.
ويعتبر العلماء أن الخفافيش هي «المستودع الحيواني الرئيسي» للفيروس، وهو لا يصيبها بأي نوع من المرض.
ولكن الفيروس قد ينتقل عبر لعاب الخفاش إلى حيوان آخر، كالقردة والشمبانزي، أو حتى الإنسان، سواء بطريقة مباشرة (عن طريق العقر، وهي حالة شحيحة، إذ إن معظم الخفافيش نباتية)، أو غير مباشرة عن طريق الفاكهة الملوثة من لعاب أو براز الخفاش.
وقد ينتقل الفيروس بين البشر من خلال الإفرازات الملوثة، سواء الناتجة عن النزف أو من القيء أو خلافه، في المراحل المتقدمة من المرض.
غزو «الإيبولا»
ويقوم فيروس «الإيبولا» في الأساس بغزو الخلايا المبطنة لجدران الأوعية الدموية، والخلايا المناعية الملتهمة (التي تقوم بالتهام الأجسام الغريبة السيارة في مجرى الدم أو في سوائل الجسم)، والخلايا الكبدية.
وأثناء وجوده داخل الخلايا الحية، ترسل مادته الوراثية أمرا يسخر الخلية من أجل إنتاج ملايين النسخ منه، على حساب دورها الحيوي، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تدمير إجهادي للخلية وانفجارها الحتمي.
كما يقوم الفيروس بإفراز مادة بروتينيـة لتمكنه من الالتصاق بجدران الخلايا التي يغزوها، وهذه المادة تحتوي جزيئاتها على بروتين «VP35» أيضا، وتخل بعمل الخلايا الدموية البيضاء والصفائح الدموية.
ونتيجة لانفجار الخلايا الجدارية للأوعية الدموية يحدث النزيف، الذي قد يكون داخليا أو خارجيا.
ونظرا لفقدان هذه الخلايا الجدارية لقدرتها الطبيعية على الالتئام، واختلال وظيفة الصفائح الدموية، فإن هذا النزيف يصبح نزيفا مستمرا دون أي قدرة للجسم على مجابهته.
الأمر الذي يؤدي إلى حدوث ما يعرف بـ«صدمة فقدان حجم الدم» (Hypovolemic shock)، التي يصعب - بل من المحال - علاجها في مثل هذه الحالة بالطرق المعتادة من نقل الدم أو ضخ السوائل الوريديـة، نظرا لانثقاب الأوعية الدموية في غير محل داخل الجسد البشري، والدخول في حلقة مفرغة من ضخ السوائل وفقدانها من مواضع النزف حتى الوفاة في غضون ثلاثة أسابيع على أقصى تقدير.
ومن أشهر أعراض المرض: الحمى، والصداع، والقيء والإسهال الدموي، والنزف تحت الجلد، وآلام المفاصل والعضلات والعظام، بالإضافة إلى فشل عملية التجلط الدموي عند حدوث النزف.
وقد تختلط الأمور على الأطباء في تشخيص المرض قبيل إطلاق إنذارات الصحة العالمية الوبائية، إذ تتشابه بعض الأعراض مع أمراض أخرى كالملاريا أو التيفويد، خصوصا أن هذه الأمراض جميعها تعتبر من الأمراض المتوطنة في نفس أماكن ظهور «الإيبولا».
ولكن التحاليل المخبرية لعينات من سوائل الجسم، كاللعاب أو البلازما، تستطيع بدقة تحديد الإصابة بالمرض.
ويسعى العلماء حثيثا لإيجاد علاج فعال للمرض القاتل، حيث إن معظم العقاقير المضادة للفيروسات قد أثبتت فشلها في معالجة المصابين بالفيروس، ويعتمد العلاج الحالي بالأساس على سرعة تشخيص المريض وعلاجات تحفظية للتخفيف من شدة الأعراض، على أمل أن تنقضي الإصابة قبل أن تقضي على المريض.