زراعة الأعضاء .. هل تحولت الى سياحة تثير المخاوف؟
تتنامى المخاوف العالمية يوما بعد آخر مما أصبح يسمى «سياحة زراعة الأعضاء»، وهي فرع مستجد للسياحة العلاجية، وإن كانت مثيرة للجدل حول مدى مشروعيتها وخضوعها لمواثيق الشرف والأعراف الطبية.
وتشير التقارير والأبحاث العلمية المتواترة حاليا بأصابع الاتهام إلى هذا النوع من السياحة، الذي راج أخيرا، خاصة في دول جنوب شرق آسيا، بل صارت له مؤسسات كاملة تنظم رحلاتها التي تشتمل على السفر والإقامة بالمستشفيات وإجراء عمليات زراعة الأعضاء، بعد توفير المطلوب منها لـ«السائح».
وآخر هذه الدراسات ستنشر بالتفصيل في عدد فبراير (شباط) المقبل من دورية «زراعة الكبد»Liver Transplantation، وقد قامت بها مجموعة من الأطباء في مستشفى «ملونت سيناي»، بولاية نيويورك الأميركية، بقيادة أستاذ الجراحة البروفسور توماس شيانو.
ولقد أدانت الدراسة القيام برحلات «سياحة زراعة الأعضاء»، التي تخصصت فيها دول بجنوب شرق آسيا، وتأتي على رأسها الصين والهند والفلبين.
والمحاذير الطبية حاولت التركيز على إثارة مخاوف المرضى من التعرض لإجراءات «غير قياسية»، أثناء العملية، وقبلها أو بعدها، ومن ذلك: عدم إجراء تحاليل التطابق النسيجي بصورة جيدة، مما يؤدي إلى رفض الجسم للعضو لاحقا، أو إجراء الجراحات في أماكن لا تشتمل على المعايير الطبية العالمية، أو إصابة المتبرع (أو بالأحرى بائع العضو) بأمراض قد تخفى على المريض.
كما طالبت الدراسة السلطات الصحية الأميركية برفض علاج المتلقين للأعضاء في حال حدوث مضاعفات لهم، في محاولة لإثناء المرضى عن هذا التوجه.
ويضرب البروفسور شيانو مثلا حيا على ما ورد بالدراسة، قائلا: «حضر إلينا مريض من أصل صيني، عمره 46 عاما، يعاني من فشل كبدي في مرحلة متوسطة، فتم وضعه على لائحة الانتظار، طبقا لخطورة حالته، وأخبرناه أن الأمر قد يستغرق عاما واحدا في المتوسط حتى نصل إلى دوره، ولكن الرجل لم يستطع الصبر، فسافر إلى الصين، حيث أجريت له جراحة زراعة كبد في خلال أسبوعين، ثم عاد إلى أميركا طالبا المتابعة الطبية، فاكتشفنا أنه يعاني من تلوث شديد داخل البطن، الأمر الذي يحتاج إلى حجز بالمستشفي، وجراحة إعادة زرع عاجلة، مما يعني تحول الحالة من حالة مستقرة إلى أخرى عاجلة وخطيرة للغاية».
ويؤكد شيانو أنه وفريقه قد أجروا الجراحة من منطلق إنساني، رغم خلافهم حول أحقيته في إعادة الزرع وتخطي الدور.
وفي ذات السياق، يؤكد البروفسور علي حسيب، أستاذ الجراحة بجامعة القاهرة، تزايد أعداد المرضى المحتاجين لعمليات زراعة الأعضاء، يوما بعد يوم، في مختلف أرجاء العالم، نظرا لاستفحال الأمراض المزمنة، كأمراض الكبد والكلى، التي تتسبب في تدهور حالة المرضي، إلى جانب قوانين زراعة الأعضاء «شبه المعطلة» في معظم الدول العربية، مخافة الاتجار بالبشر، أو للخلاف على مفهوم الوفاة، وهل هي وفاة جزع المخ، أو توقف الأعضاء الكامل عن العمل، وكل هذه الأمور تجعل المرضى أمام خيار وحيد؛ وهو السفر للخارج لإجراء العمليات».
ويضيف حسيب أن «سر انتشار الظاهرة في جنوب شرق آسيا هو التعداد السكاني الهائل، مع وجود قوانين تسمح بانتزاع أعضاء الموتى، خاصة الذين حكم عليهم بالإعدام، أو لوجود ثقافة التبرع بالأعضاء عقب الوفاة، ناهيك عن الأساليب غير القانونية، مثل انتشار عصابات القتل لسرقة الأعضاء، مما يسمح بتوافر كميات كبيرة من الأعضاء تفي بأغراض المرضى».
من جهته، علق الحقوقي المصري حافظ أبو سعدة على ذلك بقوله إن «مصر ومعظم الدول العربية واقعة بين شقي الرحى؛ فإما إغلاق الباب ومنع زراعة الأعضاء من الأساس، مع التضحية بحياة ملايين الأبرياء، أو السماح بها، مع تحمل العواقب التي قد تنجم عن ذلك، من انفلات طبي وأخلاقي وارد، فالقانون المنظور حاليا يحاول التشدد حتى لا يتحول فقراء المصريين إلى (قطع غيار بشرية)، ويحاول المشرع أن يضع الضوابط الصارمة لمنع ذلك، كما أن مسألة تحديد الوفاة مسألة خلافية عالمية، فمفهوم الوفاة (المحققة) بالنسبة للقانونيين لا يتناسب مع الوفاة (الحكمية) التي ينشدها الأطباء حتى تكون الأعضاء في حالة صالحة للنقل؛ وهي نقطة لا تزال في حاجة للحسم».
وعلى صعيد متصل، يواجه الكثير من دول العالم الغربي، على رأسها أميركا وبريطانيا وفرنسا، نقصا حادا في كمية الأعضاء المتاحة لزراعتها، مع طابور متزايد من المرضى المحتاجين إلى إجراء عمليات زراعة الأعضاء، كما أن دولا أخرى تواجه معوقات تشريعية وقانونية تعرقل إجراء الجراحات، في حين تواجه معظم دول العالم الثالث مشكلات فنية وتقنية ومادية تحول دون القيام بمثل هذه العمليات.
ولهذا السبب، وجد مثل هذا النوع من السياحة دورا في الساحة العالمية، كما نشطت مافيا الاتجار المجرم بالأعضاء في الكثير من الدول لتوفير مزيد من التمويل اللازم من «قطع الغيار البشرية».
وتوجه اتهامات لدول من جنوب شرق آسيا، ودول شرق أوروبا، وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، بأنها من أكثر أسواق العالم نشاطا في مثل هذه التجارة المحرمة، كما توجه اتهامات دائمة لإسرائيل من قبل منظمات دولية حقوقية بسرقة الأعضاء من القتلى والأطفال الفلسطينيين، وكذلك تواجه دول في الشرق الأوسط، من بينها مصر، اتهامات حقوقية، وإن حاولت السلطات نفيها، بشأن عصابات تجارة أعضاء أطفال الشوارع.
كما وجهت لأميركا أخيرا اتهامات باستغلال مأساة ضحايا هايتي، وإرسال متخصصين بين قوات الإغاثة لسرقة ونهب الأعضاء، وإرسالها إلى أميركا من أجل محاولة تقصير لائحة المنتظرين قدر الإمكان.
ولكن هذه الدراسات لم تحل المشكلة الخاصة بالمرضى الذين لا يجدون أمامهم حلولا أخرى سوى اللجوء لمثل هذه الرحلات، حتى إن حملت مخاطر صحية أو أخلاقية جسيمة، فالمرضى، خاصة أولئك الذين يكونون في مراحل متأخرة، لا يتمتعون بترف الانتظار أو الاختيار.
وتؤكد على ذلك السيدة عايدة (53 عاما)، وهي سيدة أعمال أجرت جراحة زرع كبد بالصين منذ 3 سنوات، قائلة: «وجدت كل الطرق مسدودة أمامي في مصر، ولائحة انتظار طويلة في بريطانيا وأميركا، مع تكلفة خرافية بالنسبة لي، ولم أجد سبيلا أمامي سوى الصين، وهناك وجدت آلافا مثلي من شتى بقاع الأرض، منهم كثير من العرب»، وتابعت: «لا يلومني أحد، ليس على المريض من حرج ولا ملامة، فعندما يستبد بك الألم، يصمت العقل، وأنا في النهاية سعيت كما أمرنا الله ورسوله، وطلبت العلاج ولو في الصين».
ويعلق الدكتور شريف (44 عاما)، الذي تعرض شخصيا لنفس المحنة والتجربة منذ عامين في الهند، قائلا: «الحمد لله، أنا الآن بخير، ولم تحدث لي مضاعفات، وبالفعل أقر قانون تنظيم زراعة الأعضاء في مصر أخيرا، ولكني أرى أن الأمر يتطلب تشكيل لجنة من الدول العربية والإسلامية، تضم علماء دين وأطباء وفقهاء قانونيين، وأن تقتدي هذه اللجنة بمجمع الكرادلة الذي يختار بابا الفاتيكان، فتجتمع ولا تنحل حتى تتفق على أسس وقوانين موحدة، حيث يشرح الأطباء وجهة نظرهم الفنية، ويفتي رجال الدين بمشروعية القرار، ثم يضع القانونيون القواعد المنظمة للعملية برمتها».