المعماري الهولندي العالمي ريم كولهاس يصمم نظاما لـ«غسيل» البيئة
إسفلت كاتم للصوت ونظام هيدروليكي لتنظيف الشوارع من السخام وثاني أكسيد الكربون
وفق إحصاءات وزارة البيئة الاتحادية الألمانية، يودي التعرض لضجيج وسائل المواصلات والمصانع بحياة 2000 ألماني سنويا.
وتمتد مضاعفات الضجيج بين السمع الثقيل والطرش واختلال التوازن وبين العصبية الزائدة واضطراب النوم وأمراض القلب والدورة الدموية.
وتشير دراسات جديدة إلى أن التعرض للضجيج بصورة مستمرة، كما يحدث عموما لعمال المصانع، على سبيل المثال، يزيد مخاطر الإصابة بجلطة القلب ويضعف المناعة الجسدية أيضا.
لهذا أقدم المهندس المعماري الهولندي العالمي الشهير ريم كولهاس، أحد رواد الحداثة المعمارية، بتصميم نظام خاص للحفاظ على نقاء البيئة، وخصوصا ضد ضجيج الشوارع والسيارات والمواد الضارة الناجمة عن ذلك.
ويعتمد كولهاس في ابتكاره على إسفلت «هامس» لكبت الضجيج الناجم عن احتكاك إطارات السيارات به، واستخدام ماء المطر لغسل البيئة الملاصقة للشوارع من جزيئات السخام ومن ذرّات غاز ثاني أكسيد الكربون، أهم الغازات الدفيئة المسبّبة لظاهرة الاحتباس الحراري.
وجرى في الوقت الحاضر تبليط مسافة 100 متر من الطريق السريع قرب مدينة روتردام، ثاني كبرى مدن هولندا، بغية تجربة النظام الجديد.
واختيرت المنطقة بالقرب من منعطف البحر الغربي الذي يشهد حركة سيارات كبيرة يوميا بسبب رغبة الزوار في الوصول إلى الساحل. ويقول المهندس المنفذ ريتشارد ويتنبيك إنهم أطلقوا على هذه القطعة من الشارع اسم «شارع الغسيل»، وهي قطعة فريدة من نوعها في العالم.
يفترض بالإسفلت، حسب تصريح ويتنبيك، أن يخفّض معدل ضجيج السيارات إلى أقل من 70 ديسيبل (وحدة قياس الضجيج) وأن يقلل جزيئات السخام الضارة وذرّات الغبار الملوثة إلى مستوى 8% فقط. وتحقق هاتان النسبتان، في حال تحقيقهما، أوصاف البناء الحديث التي يعتمدها الاتحاد الأوروبي في مجال «المدن الرؤوفة بالبيئة».
كولهاس عمل على تصميم خزان ماء طبيعي تحت قطعة «شارع الغسيل» التجريبية تتولى تجميع مياه المطر الساقطة على الشارع والمياه المتسربة من البيوت، وتوزيعها في شبكة من الأقنية الدقيقة التي تنتشر بين مسامات الأسفلت.
ويجري ضخ المياه عبر ثقوب الإسفلت إلى الأعلى بواسطة مضخات مصغرة، ويتحد الماء النافذ بارتفاع بسيط فوق الشارع مع ذرات الغبار والسخام المتصاعدة من أرض الشارع بفعل حركة السيارات ويحيدها. ومن ثم، يسيل الماء المحمل بالذرات المتسخة بعد ذلك على جانبي الشارع، ويتجمع في خزان آخر تجري فيه تصفيته مجددا وإعادة ضخ الماء المترشح إلى خزان الغسيل.
عدا عن ذلك، فإن الإسفلت الجديد يحتوي على مسامّ أكبر من المعتاد وتعمل هذه المسام على «ابتلاع» موجات الضجيج الناجمة عن احتكاك إطارات السيارات بالشارع.
ويتوقع المهندس ويتنبيك أن يقلل هذا الإسفلت الضجيج بمقدار 3 ديسيبل.
ولكن هذا ليس كل شيء، لأن الإسفلت الجديد لا يحتاج إلى طبقة من الإسمنت تحته، وهذا يعني أن الاستعاضة عن الإسمنت ستقلل انبعاث ثاني أكسيد الكربون بمقدار 3.5 كيلوغرام لكل طن من الإسمنت.
غير أن ويتنبيك أوضح أن نظام «شارع الغسيل» غير مناسب لبناء المنعطفات في الطرقات السريعة، ولذا يعمل كولهاس حاليا على تجاوز هذه العقبة.
مع العلم أن «العمر الافتراضي» للإسفلت الصامت لا تقل كثيرا عن عمر الإسفلت التقليدي (20 سنة) إذ تبلغ نحو 15 سنة قبل أن تستجد الحاجة لترميمه أو استبداله.
ومع أن ويتنبيك لم يشر إلى مصدر الإسفلت الجديد، فمن المعتقد أنه يشير إلى ما لقب بـ«الإسفلت الهامس» الذي سبقت تجربته في ألمانيا قبل سنة بمعرفة دائرة بناء الطرق الألمانية على «الطريق السريع 3» (الأوتوبان 3) بالقرب من مدينة كولون (غرب ألمانيا).
ويعتبر «الاوتوبان 3» من أكثر الطرق ازدحاما بالسيارات في ألمانيا إذ تمر عليه يوميا نحو 165 ألف سيارة.
في حينه، ذكر اوفه ديفيس، رئيس دائرة بناء الطرق، أن سر قابلية «الإسفلت الهامس» أو الـ«أوباOPA»، لكتم الصوت تكمن في أن المسام الهوائية تشكل 25% من بنيته.
وتتولى هذه المسام ابتلاع الصوت الصادر عن احتكاك العجلات بالطريق على عكس الإسفلت التقليدي الذي لا تشكل المسام من بنيته أكثر من 6%.
ويمكن للإسفلت «أوبا»، إلى جانب حواجز الصوت التي ستقام على جانبي الطريق، خفض معدل الضجيج إلى الحد الذي قرره الاتحاد الأوروبي أي أقل من 70 ديسيبل.
لكن المهم في «الإسفلت الهامس» أن المسام التي تتخلله تسرّب ماء المطر أيضا دون أن تؤثر على فاعليته في كتم الصوت.
وتتحول المسام الهوائية إلى أقنية تسرّب الماء من منتصف الشارع إلى جانبي الطريق.
كما يعمل الإسفلت على امتصاص مياه المطر خلال ثوان فيمنع انزلاق السيارات أو تحوّل ماء المطر إلى جليد خطر في الشتاء.
وأجرى ديفيس وزملاؤه عدة تجارب على «أوبا» الذي استطاع أن يمتص 1000 لتر من الماء خلال ثوان.
ويبدو أن خطر تقلص عدد المسام أو انسداد بعضها، بفعل الغبار والأوساخ، قليل لأن مياه المطر تجرف الأوساخ عبرها إلى جانبي الطريق. كما يمكن، بين فترة وأخرى، رش أملاح خاصة على الطريق بهدف إعادة فتح هذه المسام بمساعدة مياه الأمطار.
هذا، ويبلغ سمك طبقة «الإسفلت الهامس» 5.5 سم، وهذا يزيد عن سمك إسفلت الشوارع العادي الذي يتراوح بين 3.5 ـ 4 سم. وترتفع كلفة التعبيد أو التبليط بـ«أوبا» إلى 200 يورو لكل متر مربع، ويمكن أن ترتفع أكثر لأن فعالية الإسفلت على كتم الصوت تزداد كلما ازداد سمكه.
عودة إلى ريم كولهاس. فإنه يعد من أهم المهندسين المعماريين العالميين المعاصرين. وهو من مواليد هولندا 1944 بيد أنه عاش طفولته في إندونيسيا. وبعدها درس في كل من هولندا والولايات المتحدة. ونال عدة جوائز عالمية ونجح كمؤلف وصحافي يهتم بالنشر عن الأبنية في مطلع شبابه.
وكمعماري بين أبرز الأبنية التي وضع تصاميمها: مسرح الرقص الهولندي، وقاعة الفن في روتردام (هولندا)، ومركز ماك كورميك تبيرون كامبوس سنتر في شيكاغو (الولايات المتحدة)، والمتحف الوطني في سيول (كوريا الجنوبية) و«كازا دي لا موزكا» في بورتو (البرتغال).
على صعيد آخر، أعلنت دائرة البيئة الاتحادية في ألمانيا، حسب دراسة جديدة شملت 4115 مريضا من 32 عيادة ومستشفى، أن الضجيج يزيد مخاطر التعرض لجلطة القلب عند الرجال العاملين في أماكن الضوضاء بنسبة 30%. وتنخفض هذه المخاطر بشكل ملحوظ بين الرجال الذين يعملون في ظروف ضجيج متوسط من تردد 65 ديسيبل.
وأكد البروفسور كريستيان ماشكه، من معهد روبرت كوخ في برلين، أن التعرض للموسيقى العالية يضعف نظام المناعة الجسدي حسب نتائج دراسة أخرى شملت 4000 رجل وامرأة من مختلف المهن والمناطق السكنية والأعمار.
وهذا بجانب وجود مؤشرات على دور الضجيج في الإصابة بأحد أنواع الصداع النصفي وببعض الأورام السرطانية أيضا.
ولقد رصد الأطباء انخفاض عدد كريات الدم البيضاء والجسيمات المضادة بشكل ملحوظ لدى المقيمين قرب شوارع يتراوح معدل الضجيج فيها بين 65 ـ 70 ديسيبل، وذلك بالمقارنة مع سكان الشوارع الهادئة.
وترافق ضعف جهاز المناعة ككل مع ارتفاع ظاهر في نسب الغلوكوز والكوليسترين والترايغليسريد في دماء المعرضين لضجيج دائم.