كارل لاجرفيلد .. يأخذ شانيل الى الصين ليحتفل باليد العاملة والحرفيين الفنيين
الصين كالهند وروسيا وغيرهما، كانت دائما منبعا زاخرا يغرف منه المصممون العالميون كلما هفت أنفسهم إلى لمسة من السحر أو الغموض، إلا أن التاريخ لم يسجل أن الآنسة كوكو شانيل كانت واحدة منهم.
فهي لم تسافر يوما إلى الصين، لا في الحقيقة ولا في الخيال.
صحيح أنها كانت تعشق جمع الأنتيكات الصينية، وهو ما يبدو واضحا في ديكورات بيتها، إلا أن هذا البلد الغني بثقافته وحضارته المتنوعة وألوانه الملتهبة لم يكن حاضرا في تشكيلاتها، كما هو الحال بالنسبة لغيرها، الراحل إيف سان لوران، على سبيل المثال.
وهذا ما صححه خليفتها كارل لاجرفيلد مؤخرا، فهذا الأخير يعرف أن الوقت غير الوقت، وبالإضافة إلى أنه يبدو أكثر انفتاحا على الثقافات الأخرى فهو يعرف جيدا أن سوق الصين مهمة جدا للمنتجات المترفة والموضة عموما.
لهذا ليس غريبا أن نراه يأخذ الآنسة كوكو في الثالث من شهر ديسمبر الحالي في رحلة خيالية إلى الشرق وبالذات إلى شانغهاي.
المناسبة كانت عرض ثامن تشكيلة يحتفل فيها بـ«ميتييه دي زار»، أو باليد العاملة والحرفيين الفنيين.
تقليد أصبح يتبعه بشكل سنوي، ويأخذ فيه «شانيل» في كل مرة إلى عاصمة تتميز بالحيوية ولها تأثير خاص على الموضة، ومع الوقت أكد هذا التقليد مدى نجاحه وأن مصمم الدار عبقري على كل المستويات.
فهو لا يكتفي في هذه التشكيلات بالاستقاء من الإيحاءات من بعيد، بل يأخذ «شانيل» إليها ليتنفس هواءها عن قرب، فتكون العلاقة أكثر متانة.
هذه المرة شد الرحال إلى شانغهاي مصحوبا بثلاثين عارضة أزياء من جنسيات مختلفة، ليجسد فانتازيا لقاء فتاة باريسية بثقافة ساحرة مليئة بالغموض والأساطير، وترجم هذه الفانتازيا بلغة عصرية ناعمة في مركب راسٍ على نهر هوانغبو يبلغ طوله 85 مترا وعلى خلفية مثيرة لبنايات تكاد تناطح السحاب بعلوها.
وجاءت التشكيلة مزيجا بين أسلوب الدار الذي تعشقه كل أنيقة، والجينات الصينية التي تمثل جنود التراكوتا تارة، ورومانسية الأفلام السينمائية تارة أخرى، من دون أن ينسى الغرف من الترف الذي عاشته شانغهاي في الثلاثينات من القرن الماضي وانعكس على الكثير من مناحي الحياة، بما فيها معمار القصور والأزياء.
كيف انعكس هذا على تشكيلة «باريس شانغهاي»؟
الجواب بسيط، من خلال قطع تغلب عليها الألوان المستوحاة من الجواهر النفيسة والتطريزات الغنية كما ظهرت في عهد سلالة مانشو، وأيضا في الرسومات التي استقاها من التحف المصنوعة من البورسلين، لا سيما في الإكسسوارات.
بالنسبة للفساتين، تميزت بأكتافها الهندسية وخصورها النحيلة المستوحاة من فساتين «التشيباو» بياقاتها العالية وتصميمها الطويل المحدد على الجسم بفتحات جانبية تتيح الحركة.
الإكسسوارات بدورها كانت تحية لثقافة شانغهاي وبذخها، حيث شملت أقراط أذن طويلة تتدلى وكأنها شراشيب.
كذلك الأمر بالنسبة للقلادات، فيما تميزت القبعات بشكلها المثلث الذي كان بمثابة إطار أنيق لوجوه العارضات ولفتة للمزارعين والعاملين في حقول الشاي في الوقت ذاته.
كما شملت أحذية عالية الرقبة تستحضر تلك التي كان يلبسها الجنود الصينيون، إلا أنها هنا تعبق بسحر «شانيل» وفي غاية الأنوثة بألوانها والتفاصيل التي أبدعتها دار «ماسارو» المتخصصة في الأحذية.
هذه التحية التي يقدمها كارل لاجرفيلد من خلال دار «شانيل» سنويا للجنود المجهولين في ورشات الموضة، أو الحرفيين الذين ينفذون تصور المصمم ورسوماته، بدأت منذ عام 2002 عندما أصبح معظمهم ينضوي تحت راية الدار الفرنسية العريقة.
ففي تلك الفترة كانوا يمرون بظروف اقتصادية صعبة، كادت أن تؤدي ببعضهم إلى غياهب النسيان لولا وساطة لاجرفيلد وتدخل الدار لاحتوائهم ومدهم بطوق نجاة، انطلاقا من قناعة راسخة في نفس كل عاشق ومهتم بالموضة في باريس، بأن هؤلاء هم من يصنع الموضة، ومن دونهم لا تكتمل بالصورة التي بتنا نعرفها بها.
فكل ما نراه على منصات العروض من تطريزات وريش وجلود وغيرها من التفاصيل يعود الفضل فيها إلى ست ورشات مهمة، وهي «لوساج» المتخصصة في التطريز، «ماسارو» للأحذية، «ليماري» المتخصصة في تصميم الزهور والريش وما شابهها، «ميشيل» للقبعات، «ديسرو» لصناعة الأزرار المبتكرة، «جوسن» لصناعة الذهب والفضة.
«لوساج» مثلا هي أهم دار تطريز في باريس منذ بداية القرن الماضي إلى يومنا هذا، إلى حد أنها والـ«هوت كوتير» أصبحتا وجهين لعملة واحدة.
وفي العقود الأخيرة لم يبقَ دور تطريزات الدار محصورا في موسم الـ«هوت كوتير»، بعد أن أدخل الإيطاليون والأميركيون التطريزات إلى عالم الملابس الجاهزة وأزياء النهار، وحتى أزياء الإجازات (كروز). ففي العقد الأخير بالذات أصبح كل ما في الموضة يميل إلى الترف والاهتمام بأدق التفاصيل والتطريزات، وهذا ما توفره هذه الورشات الست لعالم الموضة.
لاجرفيلد، وحتى يرد إليهم الجميل ويبرز فنونهم، قرر أن يطرح كل عام تشكيلة تقوم بهذه المهمة، وتسهب في التفاصيل التي يتفننون فيها، سواء كانت عقودا وأساور أو أزرارا بارزة أو أطواقا للشعر وما شابه ذلك.
وأثبت هذا الأمر أهميته بالنسبة لهم وللموضة في الوقت ذاته، خصوصا في هذا الوقت حيث يمر هذا القطاع بعاصفة عاتية على الكل اجتيازها بحذر.
وليس هناك أكثر من هذه الورشات تعرف مدى هذه الأهمية، فمنذ سنوات مرت بعواصف مماثلة كانت سببا في اختفاء الكثير منهم، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن باريس في بداية القرن الماضي كانت تحتضن المئات من الورش المماثلة، لكن بعد الأربعينات والخمسينات بدأت تتقلص بشكل مرعب.
دار «ليساج» مثلا اضطرت إلى تقليص عدد العاملين بها من 120 إلى نحو خمسين فقط، ولم تسلم تجاريا، كذلك باقي الورش التي لولا تدخل المصمم كارل لاجرفيلد لاحتوائها تحت جناحي دار «شانيل» لما استطاعت النجاة.
ولا شك أن هذا أمر يحسب له، ويؤكد نظرته المستقبلية للأمور.
فالخياطة الرفيعة شكل من الأشكال الفنية، وبما أن الفن يحتاج إلى أدوات فإن هذه الورش والعاملين فيها يقومون بهذه المهمة على أحسن وجه، ومن دونهم لا تكتمل اللوحات الفنية التي تطل علينا في كل موسم، كما أنه من دونهم لا تستطيع بيوت الأزياء طرح منتجات مترفة بأسعار ملتهبة.
فسعر تايور أو قميص من مجموعات الـ«هوت كوتير» مثلا قد يكلف ما بين 15 ألفا و25 ألف دولار، وسعر فستان مطرز من قبل دار «ليساج» يقدر بمئات الآلاف، كما لا تستغربي إن كلفك حذاء من دار «ماسارو» نحو ثلاثة آلاف دولار، لأنك ستسمعين تبريرا يسكتك وهو أن تنفيذه بكل بساطة استغرق نحو 40 ساعة.
الأمر نفسه ينطبق على باقي الإكسسوارات، وهذا ما يفرق بين منتج وآخر، وهذا ما يجعل منتجات «شانيل» دائما مرغوبا فيها.
فعلى الرغم من توفر هؤلاء الورشات على مساحة من الاستقلالية والحرية في التعامل مع كل بيوت الأزياء العالمية، فإنه لا بد أن تكون هناك أولوية للدار الأم «شانيل» وكذلك ولاء.