كعك العيد .. عادة خاصة جذورها في تاريخ المصريين

كعك العيد ظاهرة اجتماعية لها جذور تاريخية .. ويتحول إعداده إلى مباراة في الشطارة بين المصريات
كعك العيد ظاهرة اجتماعية لها جذور تاريخية .. ويتحول إعداده إلى مباراة في الشطارة بين المصريات

«بعد العيد ما يتفتلش كحك» .. مثل شعبي مصري يعبر عن حال الأسر المصرية قبيل انتهاء شهر رمضان الكريم وبالتحديد في العشر الأواخر منه، استعدادا لاستقبال عيد الفطر المبارك، حيث يصبح مشهد صاجات وصواني الكعك وهي تجوب الشوارع نهارا وليلا أمرا حتميا.


وتسود حالة من الاستنفار في البيوت والمخابز والحلوانية والأفران، وتبدأ ربات البيوت سباقا مع الزمن لإعداد أطنان من «كحك العيد»، حتى تتمكن كل منهن من مباهاة ومفاخرة أقربائها وصديقاتها وجيرانها بصنعتها في أيام العيد، وما إن تعود كل منهن إلى عملها حتى تتبادل مع زميلاتها في العمل أصناف الكعك الشهية ترويجا لمهارتها في إعداده.

ومثلما أصبح الياميش عادة غذائية رمضانية، فإن كحك العيد أبرز مظاهر الاحتفال بعيد الفطر المبارك، فقد أصبح رمزا للسعادة والبهجة لدى الأطفال والكبار، كما يهادي به العريس عروسه عند زيارته لها في بيت أهلها كوسيلة من وسائل إدخال الفرحة والسرور إلى قلبها.

وعلى الرغم من ضيق ذات اليد والأزمات المالية والاقتصادية التي تلقي بظلالها، فإن تلك الأزمات لم تفلح في منع المصريين من الاهتمام بالكعك، فهم ينفقون أموالا طائلة على مستلزمات صنعه وشرائه.

ويذكر المؤرخون أن مصر كان بها أكثر من 53 نوعا من الحلويات في العصور الوسطى، ويقال إن الفراعنة هم أول من عرف الكعك؛ حيث كان الخبازون في البلاط الفرعوني يحسنون صنعه بأشكال مختلفة مثل: اللولبي والمخروطي والمستطيل والمستدير، وكانوا يصنعونه بالعسل الأبيض ووصلت أشكاله إلى 100 شكل نُقشت بأشكال متعددة على مقبرة الوزير «خميرع» في الأسرة الثامنة عشرة بطيبة وكان يُسمى (القرص).

وتعد الاحتفالات بالعيد في عهد الدولة الفاطمية ذات طقوس خاصة ما زالت آثارها في مصر وبلاد الشام.

وقد سبقت الدولة الإخشيدية الدولة الفاطمية في العناية بكعك العيد، حتى إن أحد الوزراء الإخشيديين أمر بعمل كعك حشاه بالدنانير الذهبية، وأطلق عليه اسم «افطن له» وتم تحريف الاسم إلى «أنطونلة» .. وتعد كعكة «أنطونلة» أشهر كعكة ظهرت في عهد الدولة الإخشيدية، وكانت تقدم في دار الفقراء على مائدة طولها 200 متر وعرضها 7 أمتار.

ووصل اهتمام الفاطميين بالكعك إلى الحد الذي جعلهم يخصصون ديوانا حكوميا خاصا عرف بـ«دار الفطرة»، كان يختص بتجهيز الكميات اللازمة من الكعك والحلوى وكعب الغزال، وكان العمل في هذه الكميات يبدأ من شهر رجب وحتى منتصف رمضان استعدادا للاحتفال الكبير الذي يحضره الخليفة.

وكانت تُرصد لهذه الكمية ميزانية ضخمة تصل إلى 16 ألف دينار ذهبي (زنة الواحد 4.25 غرام)، وكانت مائدة الخليفة العزيز الفاطمي يبلغ طولها 1350 مترا وتحمل 60 صنفا من الكعك والغريبة، وكان الخبازون يتفننون في صناعة الكعك مستخدمين أطنانا من الدقيق وقناطير من السكر واللوز والجوز والفستق والسيرج والسمسم والعسل وماء الورد والمسك والكافور.

وكان إنتاج دار الفطرة من الكعك يرص في هيئة جبل عظيم أمام شباك القصر الفاطمي، حيث يجلس الخليفة بعد صلاة العيد يشاهد ليرى الناس يأكلون الكعك أو يبيعونه أو يتهادون به في أرجاء القاهرة.

وعلى الرغم من كل محاولات صلاح الدين الأيوبي للقضاء على كل ما يمت بصلة للخلافة الفاطمية، إلا أنه فشل في القضاء على ظاهرة كعك العيد التي لا تزال أحد مظاهر العيد.

ويقال إن الكثير من الأمراء الأيوبيين احتفظوا بأمهر الطباخات اللاتي تخصصن في عمل أصناف الكعك في القصور الفاطمية، وكانت أشهرهن «حافظة» التي عرف إنتاجها باسم «كعك حافظة».

ولما جاء المماليك اهتموا بالكعك، واهتموا بتوزيعه على الفقراء والمتصوفة بالخوانق، واعتبروه من الصدقات، وكان سكان مصر المحروسة وما زالوا يتهادون به.

ونظرا لرواج الكعك في عيد الفطر كانت سوق الحلاويين بالقاهرة، داخل باب زويلة بالقاهرة الفاطمية، تتيه فخرا خلال العشر الأواخر من رمضان بما يعرض في متاجرها من أصناف الكعك التي تخرج عن كل حصر.

وانعكست الفنون الإسلامية على أشكال الكعك، فصنعت له القوالب المنقوشة بشتى أنواع الزخارف الإسلامية لا سيما الهندسية والنباتية منها وكانت بعض هذه القوالب على هيئة أشكال الحيوانات والطيور.

وفي متحف الفن الإسلامي بالقاهرة توجد قوالب الكعك وعليها عبارات «كل هنيئا واشكر» و«كل واشكر مولاك» وعبارات أخرى لها نفس المعنى.

وتقول الحاجة نعمات إبراهيم (80 سنة): «الكعك هيفضل طول عمره أهم حاجة في العيد، وزمان كنا نتلم كل بنات وستات الحارة ونقعد نعمل في الكعك ليل نهار وبكميات كبير، وكان ذلك قبل ما يظهر التلفزيون والكلام ده، كانت حاجات نسلي نفسنا بها».

وأضافت «كنا نعمل بالكعك والبسكويت أشكالا كثيرة علشان الأولاد ونوزعه عليهم قبل حتى ما رمضان يخلص، وكنا بنهادي جيراننا المسيحيين واليهود وهمّا كانوا بيستنوا العيد علشان الكعك، وكمان همّا في أعيادهم كانوا بيعملوا أنواع تانية من الكعك وبرده لازم يهادونا، وكانت الفرحة بتعم على الكل، وكانت حياتنا كلها أعياد».

أما رشا سعد (24 عاما) فتقول «لا أتصور عيد الفطر دون الكعك، دي أول حاجة بافطر عليها بعد صلاة العيد وهي في حد ذاتها فرحة كبيرة أوي بالنسبة لي، بعد عناء الصيام».

ويقول أحمد عصمت، محرر مجلة «أليكس أجندا»: «العيد دلوقتي مش زى العيد بتاع زمان لما كنا صغيرين لأن لما العيد يقرب كان الكل بيتلم عشان يعمل الكعك والبسكويت والغريبة والقرص بس دلوقتي بقى كله جاهز، عشان مفيش وقت، والجيل الجديد من البنات ماعندهوش فكرة الكعك بيتعمل إزاي، وده قد يؤدى إلى اندثار الفكرة في البيوت واقتصارها على الحلواني».

وعلى الرغم من غلاء أسعار الكعك الجاهز والتي تصل إلى 70 جنيها (الدولار يساوي 5.5 جنيه) لكيلو الكعك بالفستق.. إلا أن منى الشيمي، سكرتيرة بأحد مصانع النسيج بالإسكندرية، تقول «الغاوي ينقط بطاقيته .. يعني أنا لا أملك الوقت للعجن والخبز واحتمالات انه يطلع كويس أو انه يطلع زي الحجر، وبالتالي أسمع ما لا يرضيني من زوجي العزيز ولا من جاراتي، فأنا باريح دماغي وأروح اشتري كام كيلو كده وأبقى سيدة زماني وكمان ما أضيعش فرحتي وفرحة الأولاد بالعيد».

في حين يرى محمد السيد، موظف بإحدى الهيئات الحكومية، أن الكعك يشكل عبئا على ميزانية الأسرة خاصة أن الميزانية قد تم تدميرها خلال شهر رمضان، وبالإضافة إلى غلاء المعيشة وأسعار المأكولات والمشروبات بشكل عام، فإن دخول الموسم الدراسي أباد كل ما تبقى لديه من مدخرات، ويقول: «أعتمد على ما تهديه لي أمي وحماتي وبعض الأقارب وهذا يكفي لإضفاء أجواء عيد الفطر في المنزل».

بينما يرى نصر الحلواني، صاحب مخبر وحلواني بالإسكندرية، أن المعروض من الكعك أمام الناس يثير لديهم الشعور بفرحة العيد، ويقول «لا شك أن كل الناس تشعر بالفرحة عندما ترى تلال الكعك في محلات الحلوانية، وإن معظم الناس بتشتري الكعك في آخر رمضان علشان تحس ان العيد هيهل عليها».

ويرى الدكتور علي جلبي، أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب، جامعة الإسكندرية، أن وجود الكعك في العيد في بيوت المصريين ظاهرة اجتماعية لها جذور تاريخية، ويعد وجوده ضروريا لإدخال البهجة والسعادة على قلوب الكبار والصغار، كما أنه أصبح واحدا من مظاهر التراث المصري والفولكلور الشعبي.

وقال «لقد ورثنا عن أسرنا أن الاحتفال بالعيد لا يكتمل إلا بالكعك، وقد تداخلت مع هذه الظاهرة عادات تتلخص في طقوس إعداده قبل حلول العيد بعدة أيام.

وقد تعتبرها بعض الأسر طقوسا لجمع شمل أفراد العائلة ومن هنا تعتبر طقوس إعداد الكعك أحد الأنماط الذهنية والوجدانية والسلوكية التي تم تثبيتها خلال الزمن للاحتفال والشعور بالسعادة، فصارت إلى حد ما مطلقة.. وكلما كانت تلك الأنماط ذات جذور ثقافية، كانت عصية علي التغيير أو التغير أو الإلغاء، ولهذا يمكن للمرء أن يغير ملابسه أو أدوات منزله، ولكن من الصعب عليه أن يغير نمطا ذهنيا ارتبط به وأصبح جزء من ثقافته».