«حمى الضنك» .. أنواعها وطرق التشخيص والعلاج
ما زالت معدلات وقوع حمى الضنك تشهد زيادة هائلة في شتى ربوع العالم، وأصبح المرض متوطنا في أكثر من 100 بلد، يقصد معظمها عشرات الآلاف من السياح في هذا الصيف، وقد أصبح 2.5 مليار نسمة ـ خمسا سكان العالم تقريبا ـ معرضين لمخاطر الإصابة بهذا المرض.
وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية، حاليا، إلى احتمال وقوع 50 مليونا من إصابات حمى الضنك كل عام في جميع أنحاء العالم.
وهناك دلائل دامغة على أن التعرض لعدوى حمى الضنك بشكل متكرر يزيد من خطر الإصابة بحمى الضنك النزفية المميتة، وهذا يحتم علينا تذكير القراء، خاصة المسافرين منهم إلى بلدان موبوءة بالمرض، بالمعلومات الأساسية عن المرض وطرق الوقاية منه.
حمى الضنك Dengue fever هي مرض فيروسي، تسببه مجموعة من الفيروسات تسمى «فيروسات الضنك» التي تنتمي لجنس «الفلافي فيروس»، الذي يشتمل على كثير من العناصر التنظيمية في مناطق الجينوم للفيروس، وبها تتميز أربعة أنواع مختلفة مصليا antigenic serotypes، الأمر الذي يزيد العملية تعقيدا في إنتاج اللقاحات.
ينتقل الفيروس عن طريق أنثى البعوض المسمى «Aedes Aegypti»، التي تتكاثر في المياه المخزونة لأغراض الشرب أو السباحة، أو مياه الأمطار المحجوزة للزراعة، أو المتجمعة في الشوارع والطرقات أو الراكدة والمتبقية في الصفائح الفارغة والبراميل والإطارات، وعند مكيفات الهواء وحول المسابح.
لحمى الضنك شكلان سريريان، وهما:
1- الشكل الأول «البسيط»: وهو الغالب، حيث يشبه الزكام الفيروسية إلى حد كبير في بداياته، ثم تشتد الحمى حتى تصل إلى 40 درجة مئوية، وقد تسبب الاختلاجات أو التشنجات في الأطفال، وتكون غالبا مترافقة مع الصداع، خاصة في منطقة الجبهة، أو خلف محجر العينين، ثم تظهر الأعراض الأخرى في ما بعد: مثل آلام الظهر والمفاصل والعضلات، وفقدان الشهية، وفقدان التذوق، والغثيان والقيء والكسل العام، والطفح الجلدي، وهنا يمكن أن تنخفض الحرارة.
ولكن، بعد مرور يوم أو يومين يظهر طفح جلدي جديد، وينتشر في جميع أرجاء الجسم ما عدا الكفين والقدمين، وفي اللحظة التي يظهر فيها هذا الطفح الثاني ترتفع الحمى من جديد لتعطي ما يسمى بـ«الحمى ثنائية الأطوار» biphasic fever، التي تستمر عدة أيام ثم تنخفض من جديد ليدخل المريض في مرحلة من الوهن العام asthenia أو الكآبة Depression.
لو فحصنا المريض المصاب بهذا النوع البسيط من حمى الضنك لما وجدنا عنده كثيرا من العلامات المميزة، اللهم إلا الحمى والطفح الجلدي والتضخم في العقد اللمفاوية، وبطء ضربات القلب، ولو أجرينا له فحوصات مختبرية لوجدنا:
ـ انخفاضا عامّا في كريات الدم Pancytopenia بما فيها الكريات البيضاء والصفائح الدموية.
ـ زيادة كثافة الدم Hemoconcentration.
ـ تكون الأجسام المضادة (IgM) إيجابية.
ولو أجرينا تخطيطا للقلب لوجدنا بطئا في ضربات القلب Bradycardia (وقد شوهدت هذه الملاحظة في عدة حالات أدخلت إلى المستشفى، وقد سجل الأطباء درجة من البطء بحيث وصل عدد دقات القلب إلى 40 دقة قلب في الدقيقة، ومن الغريب أنها لم تكن مترافقة مع أي عرض أو شكوى لدى المريض)، ثم خوارج انقباض بطينية Ventricular Extracardia.
كيف نشخص المرض ونميزه عن غيره من الأمراض ذات الأعراض المشابهة؟
تشخيص المرض في المناطق الموبوءة يعتمد على الأعراض والعلامات السريرية بالدرجة الأولى ثم الاختبارات المختبرية، فإذا جاءت حالات مرضية بأعراض وعلامات مشابهة لما ذكرنا أعلاه، وكانت من مناطق سكنية موبوءة بحمى الضنك، ودعمتها بعض الإشارات المختبرية مثل غياب الملاريا (وهذا مهم)، وانخفاض عام في الكريات الدموية Pancytopenia، أو على الأقل انخفاض واضح في الصفائح الدموية Thrombocytopenia فالحالة مشتبه في كونها إيجابية لحمى الضنك، فتُجرى لها الفحوصات التالية:
1ـ اختبار الأجسام المضادة IgM.
2ـ PCR لتأكيد وجود الفيروس.
3ـ Real time PCR لمعرفة مرحلة التقدم في المرضية وأن الفيروس متشكل لدى المريض عند أي مرحلة، لمعرفة سلالة الفيروس، وهذا مهم في تحديد نوع الطراز الجيني Sequencing، وبالتالي تفادي الإصابة الثانية.
وهناك اختبارات بحثية لمحاولة السيطرة على الفيروس، ومنها الاستنساج (دراسة الأنسجة) والاستنقال والتعريف المعلوماتي البروتيني، وجميعها اختبارات حديثة ومتطورة جدا يمكن العمل بها والاستفادة من ذوي الخبرات في هذا المجال.
أما إذا أردنا تشخيص ودراسة المرض بصورة دقيقة، فهذا يتطلب عزل الفيروس وزرعه Tissue Culture على أوساط خاصة، واستخدام فحوص أكثر تطورا وتميزا.
2- الشكل الثاني «الشكل النزفي»: وهو مرض خطير وربما قاتل، وتسببه فيروسات الضنك نفسها أيضا، إلا أنه لا يحصل في الإصابة الأولى للفيروس، بل يغلب أن يكون في الإصابات الثانية للفيروس نفسه، أو بعد إصابة جديدة لفيروس ضنكي آخر غير الأول، لذلك من المهم تعريف سلالة الفيروس وطرازه الجيني.
وهنا يجب أن نتنبه للموجات الوبائية القادمة، بعد مرور الموجة الوبائية الأولى بسلام، التي تكون أكثر خطورة من الموجة الأولى، وتكثر فيها عادة حالات النزف المميت، فلقد سجلت لنا الذاكرة الطبية التاريخية حصول موجة وبائية لحمى الضنك النزفية في كوبا عام 1981، راح ضحيتها مئات المرضى، ولما دقق الأطباء في الأمر، تبين لهم أن وباء 1981 القاتل الذي سببه فيروس الضنك نوع «2 dengue»، كان قد سبقه وباء خفيف لفيروس «dengue 1»، عام 1977.
تتميز بدايات الشكل النزفي من حمى الضنك بأعراض وعلامات مشابهة للشكل «البسيط»، أما الطور الثاني الخطير للمرض فيبدأ بعد مرور عدة أيام (2 إلى 5)، حيث تتطور لدى المريض صدمة ونزف بشكل سريع ومفاجئ.
ولو فحصنا المريض في هذه المرحلة لوجدنا لديه واحدة أو أكثر من العلامات التالية:
ـ الأطراف باردة ورطبة، بينما وسط المريض حار.
ـ الوجه متورد.
ـ تعرق.
ـ ألم في منطقة المعدة.
ـ علامات عصبية: تهيج، وقلق، وعدم ارتياح.
ـ والأهم والأخطر من ذلك كله علامات النزف على المريض، سواء كان على شكل بقع نزفية تحت الجلد، أو سهولة النزف لدى تركيب الجهاز الوريدي ـ كانيولا Canula ـ أو نزف هضمي أو بولي.. إلخ.
يستمر الطور الثاني الخطير للمرض فترة بين 24 إلى 36 ساعة بعد حدوثه، وينتهي بأحد شكلين: إما التدهور المفضي إلى الموت، وذلك حتمي إذا حدث نزف دماغي خطير. أو التحسن والشفاء.
إن دور الطبيب مهم للتدخل في الوقت المناسب، وذلك بوضع المريض تحت المراقبة الطبية في المستشفى، وأن توضع له كانيولا، وتنقل له السوائل المناسبة وبالكمية المناسبة (حسب وزنه)، أو تنقل له البلازما fresh frozen plasma، أو الصفائح الدموية عند الحاجة، فإن تعذر فيعطى كمية من الدم تناسب وزنه وحالته.
ويتم خفض الحرارة العالية بكمادات الماء، والباراسيتامول، ويمنع إعطاء الأسبرين والبروفين وغيرها من مميعات الدم لمنع مزيد من النزف.
أما المضادات الفيروسية والمضادات الحيوية فتترك لحاجة كل مريض، والحاجة يقدرها الطبيب، على أن الأهم من ذلك كله هو تضافر جهود كل مؤسسات الدولة للعمل الجاد على منع حصول المرض أصلا، وذلك من خلال تخطيط مستمر، ليتم القضاء التام على مسببات المرض وناقلاته.
أما اللقاح فلا يزال تحت الاختبار لجميع السلالات الأربع من الفيروس.
الوقاية
ـ إزالة أماكن توالد البعوض الناقل، من خلال التغطية المحكمة لخزانات المياه، وعدم تخزين المياه في أوعية مكشوفة، وإزالة بؤر تراكم المياه مثل أواني الزهور وإطارات السيارات القديمة وأوعية تخزين المياه.
ـ وضع شبكات ضيقة المسام على الأبواب والنوافذ للحماية من لدغات البعوض نهارا.
ـ استخدام الناموسيات في حالة النوم خارج المنزل.
ـ استخدام طارد الحشرات.
ـ إبلاغ السلطات المحلية عن أي حالة فورا، والتعاون معها لإعطاء معلومات صحيحة عن سابقة المرض والعنوان، وتسهيل عمل فريق المكافحة لعمل الاستقصاء الوبائي ورش المنزل المصاب والمنازل المجاورة.
ـ تكوين فريق عمل مكون من مختصين في المجال الطبي والوقائي والمخبري والمجلس البلدي لوضع آلية تنفيذ البرامج الوقائية والتشخيصية للوباء بشكل خاص لتلافي حدوثه.