العطور المقلدة تغزو سوريا رغم السماح باستيراد المنتجات الأصلية
مع بداية تسعينات القرن الماضي بدأت تنتشر في أسواق دمشق الشعبية كالحميدية، والراقية كالصالحية والحمرا، عشرات المحلات التي تخصص أصحابها في تحضير وبيع العطورات. ومع أن هذه المهن يعرفها الدمشقيون منذ مئات السنين من خلال عائلات امتهنت تحضير المسك والعنبر وأخذت أماكن لها في سوق البزورية المتخصص بالعطارة وفي أسواق دمشقية قديمة أخرى فإن هؤلاء ظلوا أوفياء لتحضير العطور من الورود الدمشقية التقليدية والمعروفة مثل الياسمين والوردة الشامية (الجوري) والفل وغيرها. في حين انطلق محضرو العطور في التسعينات في عالم أوسع وأرحب ولم يكتفوا بعطور الورود المحلية بل اعتمدوا على تحضير العطور من خلال أسنسات لأنواع عطور أجنبية وعالمية معروفة ومشهورة.
ويبرر عصام الملا أحد العاملين في تحضير العطور ولديه محل لتحضيرها في سوق القصاع الدمشقي قائلا «السبب في اعتمادنا على تحضير العطور من نماذج (أسانسات) مركزة ومن ماركات عالمية هو كما يقول المثل (الحاجة أم الاختراع)، فالأجيال الجديدة من الشباب والصبايا لم يعودوا يتقبلون رش العطور التقليدية القديمة، ويرغبون باقتناء ماركات عالمية، وكما هو معروف فإن استيراد العطور بالماركات العالمية كان محصورا قبل عدة سنوات بالدولة فقط من خلال مؤسسة غوته وهذه كانت تبيع العطور العالمية بالدولار».
أسعار العطور العالمية مرتفع جدا، لذلك قام الملا بافتتاح محلات تحضير العطور بالاعتماد على النماذج الأجنبية لمراعاة أذواق الجيل الجديد ولتقديمه له بأسعار رخيصة نسبيا وبجودة عالية. ولكن وقبل حوالي السنتين ومع قيام الحكومة السورية بتحرير استيراد المواد من الخارج سمح للقطاع الخاص باستيراد كل أنواع العطور العالمية ولكل الماركات المشهورة، وبالفعل لوحظ في الأشهر الأخيرة افتتاح العديد من المحلات وسط العاصمة دمشق وفي المولات التجارية الحديثة والكبيرة التي انتشرت في الأحياء الراقية بدمشق، لوحظ تخصص هذه المحلات ببيع العطور المستوردة بماركاتها الشهيرة ولكن بأسعار مرتفعة.
وأعود لعصام لأساله عن تأثير السماح باستيراد العطور المشهورة من قبل القطاع الخاص على تجارتهم وتحضيرهم العطورات بأسنسات مع وجود الزجاجات الأصلية من الماركات الشهيرة. ويجيب عصام ضاحكا: «اطمئن لم نتأثر مطلقا بل بالعكس زادت مبيعاتنا من العطور المحضرة محليا وإذا ما جلت الآن في شوارع وأسواق دمشق ستلاحظ أن عدد محلات تحضير العطور ازداد وستلاحظ أن هناك إقبالا كبيرا من الناس عليها»، والسبب ببساطة، يقول عصام «هو أننا نبيع بأسعار رخيصة جدا إذا ما قورنت بأسعار المستورد، ولذلك فوجئ الكثير ممن كانوا ينتظرون استيراد العطور الأجنبية بأسعارها. فنحن مثلا نحضر زجاجة العطر من سعة 100 مم ولماركات شهيرة بسعر 300 ليرة سورية (حوالي 6 دولارات أميركية) في حين أن سعرها مستوردةً بـ4000 ليرة سورية (حوالي 80 دولارا أميركيا) ولذلك لم نخسر زبائننا مطلقا، بل بالعكس زادوا، خاصة أننا حافظنا على جودة النوع والمحتوى ويبقى لكل نوع زبائنه.
الزجاجة المستوردة بأناقة عبوتها وتغليفها المميز، لها زبائنها من الأثرياء والميسورين ولزجاجاتنا الشعبية زبائنها من الموظفين وأصحاب الدخل المحدود». وبالفعل، وفي جولة على محلات بيع العطور الدمشقيين وتحضيرها لاحظنا أن أعداد العاملين فيها بازدياد، واشتهر بها عائلات ظهرت في دمشق مثل الغبرة والمصري وغيرهم، والبعض منهم لم يوفر زاوية صغيرة في بناء أو جزء من محل حتى وظفه لتحضير وبيع العطور رغم صغر المساحة، والسبب كما يقول أحد أصحاب هذه المحلات الصغيرة ويدعى كنان سعود أن تحضير العطور وبالرغم من أنواعها التي تصل لأكثر من مائتي نوع نسائي ورجالي، إلا أنها لا تحتاج لمساحة واسعة، فأدوات التحضير هي عبارة عن مثبت للعطر من أجل تثبيت ذرات العطر بعضها ببعض وبالكحول، والأساس الأصلي (الأسانس) والكحول.
وهنا تكمن مهارة وأخلاقيات بائع العطر، يقول كنان. «حيث يجب أن تكون المقادير متعادلة ما بين الأسانس والمثبت والكحول، وإذا ما زاد الكحول يكون هناك غش في العطر، مع أن بعض الأشخاص يطلبون شراء زجاجة العطر بسعر أقل من المعتاد. ولذلك نضطر لزيادة الكحول على حساب الأساس حتى نحقق رغبة الزبون بالسعر الأرخص، ولكي لا نخسر نحن بالسعر، فلكل مقدار وتركيب سعره الخاص في حين أن الأسعار متقاربة لكل أنواع العطور ولكل الماركات».
وإذا كان عصام وكنان والآخرون اعتمدوا على الأساسات الأجنبية لتحضير العطر بدمشق فإن العديد من الدمشقيين ما زالوا يصرون على شراء العطر المحلي المحضر من الورد السوري والدمشقي بشكل خاص، وهؤلاء سيجدون ضالتهم بالتأكيد في عدد من الأسواق القديمة مثل «سوق الحرير» و«اتفضلي يا ست» و«المسكية» و«العمارة» بدمشق القديمة، حيث يوجد عدد ممن ورثوا مهنة تحضير العطور عن آبائهم وأجدادهم يعملون بها وباستخدام خبرتهم في التقطير والتحضير.
ويقول أحد هؤلاء، ويلقب أبو شهاب، ولديه محل قديم في المسكية قرب الجامع الأموي، إن الناس وخاصة كبار السن يفضلون العطور المحلية العربية والعنبر وكولونيا ما بعد الحلاقة المحضرة محليا، «ولذلك أقوم عادة بشراء الزهور وهي من أنواع الزنبق والياسمين والفل وزهرة النارنج والجوري والبنفسج وغيرها ونتركه حوالي 40 يوما ثم نضعه بالماء تحت نار هادئة ونقوم بتصفيته وتعبئته بزجاجات ليختار الزبون ما يرغب من الأساس الطبيعي، فنمده بالكحول وبنسب معينة ليأخذ الرائحة المرغوبة بشكل جيد.
وهناك من يقطف الأزهار ويضعها في وعاء ويوجه عليها البخار حيث يخرج من الجانب الثاني من الوعاء على شكل ذرات ونقط ليتجمع بعدها بشكله السائل وليعبأ بزجاجات».