عودة رشيدة داتي للعمل بعد وضعها مولودتها بخمسة أيام يثير الدهشة
ليس غريبا أن تغادر وزيرة العدل الفرنسية منصبها، سواء لأن الرئيس نيكولا ساركوزي أراد ذلك أو لأن طموحاتها أكبر، فهذه هي السياسة، وليس غريبا أن تتهم بالقسوة في تعاملها مع العاملين معها وأفراد طاقمها الخاص، فهذا أيضا أمر عادي، لكن أن تختصر فترة الاحتضان الطبيعية التي قررتها الدولة للأم العاملة بعد ولادة طفلها، من ستة عشر أسبوعا حسبما يقر القانون، إلى خمسة أيام فقط، فهو أمر مثير للدهشة والاستغراب فعلا.
والسبب ليس ضيق الوقت غير الكافي لاعتناء الأم بوليدها، واستعادة قدرتها الجسدية والنفسية على مواجهة أعباء الحياة فحسب، وإنما الأكثر إلحاحا هو عدم وجود عامل الاحتياج الذي يكون في الغالب ماديا لدى كل أم تترك وليدها وتتجه إلى مهام عملها، خوفا من فقده، كحالة رشيدة داتي، التي قامت بترك وليدتها زهرة بعد خمسة أيام فقط من الوضع بعملية قيصرية.
وهذا ما أثار لغطا كبيرا في فرنسا لم يهدأ حتى الآن، لدرجة مطالبة العديد من الجمعيات النسائية والعاملات في مجال حقوق المرأة بأن تترك رشيدة مهام عملها وفاء لحق الأمومة عليها، بينما التمست أخريات لها هذه التضحية الكبيرة مقابل المكاسب الاجتماعية الكبيرة التي وصلت إليها رشيدة، كامرأة ذات أصول عربية في منصب سياسي هام.
وأظهر استطلاع للرأي أجراه المعهد الفرنسي للرأي العام (اي.اف.او.بي)، ونشرته صحيفة (جورنال دو ديمانش)، أن 56 % يرين أن داتي عادت مبكرا جدا إلى العمل.
كما يرى بعضهن أن قرارها هذا قد يؤثر على حق المرأة في الاستمتاع بأمومتها، على أساس أنه إذا كان بإمكان رشيدة أن تقوم بهذا فلم لا تقوم به باقي النساء؟
في المجتــمعات الشرقية عموما، نادرا ما تعود الأم إلى مزاولة عملها بعد أيام معدودة من ولادتها، وهو الأمر الذي يعزى في الغالب إلى التعلق العاطفي الشديد بين الأم ووليدها، وإلى نظرة المجتمع التي تقدس دور الأم أكثر من دور المرأة العاملة.
إلا أن المتغيرات الاجتماعية كسرت هذا المنظور نوعا ما، وكشفت أن سيدات عاملات يعُدن إلى أعمالهن بعد أيام قليلة من الولادة، ولكل منهن وجهة نظرها الخاصة وطريقة تعاملها مع الوضع.
تشرح سيدة الأعمال مضاوي الحسون، وهي أيضا عضو مجلس إدارة الغرفة التجارية والصناعية بجدة، وأم لولدين، قائلة إن سيدات الأعمال أكثر الشرائح العاملة التي تقرر العودة سريعا إلى عملها بعد الولادة، وإن كن لا يفضلن التصريح بهذه المعلومة، فالعديدات منهن يباشرن أعمالهن بعد أسبوع على الأكثر من الولادة، والسبب رغبتهن الملحة في ملاحقة أعمالهن وخوفهن من الخسارة أو من أي مستجدات قد تطرأ في غيابهن.
وربما عدم وجود قوانين تحمي حقوق المرأة في أماكن العمل أيضا يدفع بعضهن إلى هذا التصرف.
وتعتقد مضاوي أن إجازة الأمومة هي من حق الطفل، لأنه يحتاج إلى وجود والدته إلى جانبه لساعات طويلة، ولا يقتصر احتياجه على الفترة التي تقوم فيها بإرضاعه، لأن حاجاته النفسية أكبر في هذه المرحلة، في حين أن المرأة يمكنها معاودة العمل بعد يومين أو ثلاثة على الأكثر من الولادة، دون أضرار تذكر.
من جهتها أكدت سيدة الأعمال مضاوي بأنها زاولت عملها التجاري بعد الولادة بأسبوع تقريبا، لكن من بعيد، حيث كانت تشرف على كل كبيرة وصغيرة بالمشغل الذي تملكه، من خلال تقارير يومية تأتى إليها لتطلع على كل صغيرة وكبيرة هناك.
وقالت السيدة مضاوي إنها أنجبت ابنها الأصغر مشهور (23سنة) بعملية قيصرية، ورغم المعاناة الصحية التي عاشتها فترة الولادة فإنها كانت تتابع كل صغيرة وكبيرة في المشغل.
وذكرت أنها أوكلت أمر متابعة الأمور الصغيرة إلى إحدى العاملات لديها، وكانت تتسلم يوميا تقريرا كاملا عن كل صغيرة وكبيرة تحدث في المشغل، وكأنها بينهم.
كما كانت توقع الأوراق الخاصة بأمور العاملات، من تجديد إقامة، واستمارات السفر، ومراجعات المستشفيات، ولذلك كانت تشعر بأنها لم تبتعد عن عملها حتى وهي في فترة الولادة.
وأكملت السيدة مضاوي أن سيدة الأعمال متى رتبت وقتها ونظمت عملها فهي تتلافى مشكلات عملها الصغيرة، حتى وهى بعيدة عن عملها.
وأشارت إلى أن هذا ما لمسته بعد عودتها إلى العمل، فكل شيء كان يسير وفق ما رسمته، إلى جانب أنها كانت لا تذهب إلى المشغل إلا بعد أن ترتب وضع رضيعها في المنزل، ابتداء من وجبته إلى الإشراف عليه وكيفية الاتصال بها في حالة طلب المساعدة، ورغم عدم وجود جوالات في ذاك الوقت فإنها كانت تترك جميع أرقامها الثابتة في المنزل للاتصال بها.
وفى حالة رجوعها إلى المنزل تكون على اتصال وتنسيق بعملها الخاص.
أما سيدة الأعمال، الجوهرة إبراهيم، التي تمتلك مركزا لرعاية الطفولة، فقالت إنها عانت ما بين متابعة عملها التجاري في أثناء ولادة ابنتها، وقالت إنها وضعت ابنتها (9 سنوات) بعد أن بدأت عملها التجاري بقليل، وكانت تذهب إلى العمل وهي في بداية وضعها لطفلتها، مشيرة إلى أن أسباب معاناتها تمثلت فقط في الجهد المضاعف الذي يتطلبه عملها، فضلا عن احتياجات ابنتها الصغيرة إلى الرعاية.
وتضيف الجوهرة إبراهيم أنها تجاوزت هذه الظروف باصطحاب ابنتها معها وهى في الشهر الأول، إلى مقر نشاطها التجاري، لتتمكن من متابعة عملها والعناية بابنتها الرضيعة في الوقت نفسه.
هذه بعض الشهادات الحية لسيدات عشن نفس تجربة رشيدة داتي، تقريبا، مع اختلاف الجغرافيا والبيئة والظروف، لكن يبقى للطب النسائي والنفسي وطب الأطفال رأيه في أن نموذج داتي لا يجب الاحتذاء به رغبة في النجاح والتميز في مجال العمل، في أكثر الأوقات حساسية ودقة، وتحديدا حينما تشرق الحياة بوجه جديد يحتاج إلى الأم لا غيرها، ليشعر بالأمان قبل الغذاء.
يوافق الدكتور ماهر عبد الوهاب، استشاري النساء والولادة بمستشفى قصر العيني في القاهرة، على أن حالة داتي ليست الحالة الأولى التي يشهدها المجتمع من تسرع بعض السيدات للعودة إلى العمل، وأنها أثارت الانتباه فقط لأنها وجه اجتماعي سياسي معروف. وأضاف أن العديد من السيدات اليوم، تحت ضغط إثبات الذات والخوف من فقدان المكانة الاجتماعية التي وصلن إليها، يقدمن على مثل هذه الأمور بلا إدراك حقيقي لخطورة هذا الأمر، على الأم والوليد على حد سواء.
وتابع أن الولادة القيصرية في حد ذاتها لها مخاطرها، فهي تعد مثل أي عملية جراحية، قد يكون لها مضاعفات وتستدعي المكوث لفترة أطول في المستشفى، قياسا بالولادة الطبيعية، للعناية بالأم ومراقبة حالتها بعد الولادة.
فالعديد من الأمهات اللاتي يلدن ولادة قيصرية لا يستطعن الحركة بشكل طبيعي قبل أول 10 أيام، وذلك لصعوبة الحركة مع وجود جرح، حيث إنه من المعروف علميا أن الولادة القيصرية هي عملية إخراج الجنين من خلال شقوق جراحية في البطن والرحم، وفي الغالب يحتاج الجرح إلى ما لا يقل عن أسبوعين حتى يلتئم تماما، مع ضرورة الانتباه إلى عدم حصول تلوث أو التهاب.
وأشار الدكتور عبد الوهاب إلى أن الأم عليها اتباع العديد من الإرشادات الهامة، خاصة فيما يتعلق بمجهودها البدني والعصبي، مثل احتياجها إلى أخذ قسط واف من النوم، وعدم ممارسة الرياضة لمدة ثلاثة أشهر، أو حمل أشياء ثقيلة في الفترة الأولى مما بعد الولادة؛ خوفا من أن يتأثر جرح الولادة بالسلب.
وقال أيضا إن فترة النفاس لا بد أن تكون مدتها بين 6 أسابيع إلى 8 أسابيع، لأنه خطر على المرأة أن تتحمل في هذه المدة أي مجهود، سواء كان ذهنيا أو عضليا.
أما من الناحية الصحية للمواليد الذين تتخلى أمهاتهم عنهم لأسباب يراها البعض قهرية، فأشار الدكتور أيمن الحريري، استشاري أمراض الأطفال في القاهرة، أن ترك الأم لطفلها حديث الولادة يعرضه لمتاعب صحية، قد تؤثر على صحته في المستقبل، مشددا على الفوائد العديدة لحليب الأم للوليد الأول، لأنه حماية ووقاية ويزيد من مناعة الطفل.
وقال إن «اللبأ» الذي يفرز لبن الأم في أيام الولادة الأولى هو أهمها على الإطلاق، يليه في الأهمية الحليب العابر الذي يبدأ في الإفراز من اليوم السادس إلى اليوم الواحد والعشرين من الولادة، وبعده يأتي الحليب الناضج الذي يتم إفرازه بشكل متواصل طوال فترة الإرضاع التي قد تمتد إلى عامين.
وأضاف قائلا: «في الأسبوع الأول من عمر الرضيع يحتوي لبن الأم على كميات أعلى من البروتينات، ومن كريات الدم البيضاء والفيتامينات، خاصة فيتامين أ، ومادة اللاكتوفرين المثبتة لعنصر الحديد، وعلى كميات أقل من الدهون والمواد الكربوهيدراتية عن اللبن في الأسابيع التالية».
وقال الدكتور محمد الرخاوي، استشاري الطب النفسي، إنه من الشائع أن تصاب الأم حديثة الولادة ببعض الاضطرابات في نحو اليوم الثالث إلى الخامس من ولادة الطفل، وتختفي تلقائيا بعد مرور أسبوعين دون أن تترك آثارا ضارة على الأم أو الوليد، لكن من المفيد الاهتمام الطبي هنا إذا ما لوحظ أن هذا الاضطراب المزاجي يستمر أكثر من أسبوعين، حيث يتطور لاحقا ليصير اكتئابا.
واستغرب الدكتور الرخاوي كون المرأة تضحي بكل هذه العوامل النفسية الطارئة التي لا سيطرة لها عليها، والمجازفة بالخروج إلى العمل، مشيرا إلى أن المرأة في هذه الأوقات الدقيقة أحوج ما تكون إلى المساندة والمساعدة من المقربين إليها، فضلا عن حاجتها الماسة لأخذ قسط وافر من النوم والراحة وتجنب التعب والإرهاق.
وأضاف الرخاوي: «من المهم معرفة أن الاكتئاب الذي يصيب النساء بعد الولادة يعد مشكلة خطيرة، خاصة إذا أُهمل دون علاج، كما أنه يشكل خطرا على الأم والطفل كليهما، فتضعف العلاقة الطبيعية بينهما.
فالوليد يكون في أشد حالات احتياجاته العاطفية والنفسية لأمه في مراحله الأولى في الحياة، وتحديدا الأسابيع الأولى بعد الولادة».