وجبة الفطور .. تاريخ طويل يختلف من زمن إلى آخر
تغير مفهوم الوجبات اليومية الثلاث على مر العصور، إذ لم يكن الفطور موجودا في فترات طويلة من تاريخ الإنسانية، وحسب الدراسات التاريخية المتوفرة فقد كان الإنسان القديم يتناول الطعام عندما كان يتوفر ولم يكن هناك مواعيد محددة لذلك كما هو الحال هذه الأيام
كما تؤكد الدراسات الكثيرة أن عدد وجبات النهار ومواعيدها، كان يختلف من زمن إلى آخر ومن حضارة أو مجتمع إلى آخر ويعتمد على عدة طبقات اجتماعية خصوصا الطبقات العليا.
وتظهر الحفريات أن الناس مع بدء الزراعة في العصر الحجري الحديث، كانوا يعتمدون على الحبوب لصناعة العصيدة بعد غليها لتناول وجبة الصباح، كما تشير الحفريات إلى أن الناس في منطقة الهلال الخصيب لجأوا إلى الحنطة والشعير والقمح وشتى أنواع الحبوب لصناعة الفطور، ومن هناك ومن جبال الأناضول انتقلت الحنطة والحبوب إلى أوروبا.
وكان الفلاحون والفقراء أيام الفراعنة يتناولون وجبة واحدة قبل الذهاب إلى العمل تحوي الخبز والبصل.
وهناك تناقضات كثيرة بين الدراسات والمؤرخين حول وجود وجبة الفطور أيام الإمبراطورية الرومانية وفي زمان الإغريق القدماء، ففي كتاب خاص عن تاريخ الطعام عند الإغريق، لا يذكر آندرو دالبي الفطور، ويقول إن مواعيد وجبات الطعام عند أهل اليونان كانت متقلبة ومتبدلة، وكان الناس يطلقون على وجبة منتصف النهار أو الغداء «أريستون» - ariston ووجبة المساء التي كانت الوجبة الأساسية والأهم «ديابنون»- deipnon. وكان الكثير من الناس يعتمدون على هذه الوجبة دون غيرها.
وتقول المؤرخة كارولاين يالدهام من جامعة ليدز، إن الفطور لم يكن جزءا من التركيبة الغذائية عند الناس لفترات طويلة من الزمن وإن الرومان لم يتناولوا الفطور وكانوا يتناولون فقط وجبة واحدة في النهار عند الظهر.
وكان الرومان يؤمنون بأن يتناول وجبة واحدة أمر أساسي للصحة الجيدة، إذ كانوا مهووسين بمسألة الهضم، وكانوا يعتبرون تناول الكثير من الطعام هو الشره بحد ذاته، وقد تم اتباع هذا التقليد الروماني لفترة طويلة من الزمن.
إلا أن هذار أندرسون في كتابها المعروف «تاريخ الفطور»، تقول العكس من ذلك، وتشير إلى أن الرومان القدماء كانوا يتناولون ثلاث وجبات يوميا بالإضافة إلى وجبة صغيرة بعد الظهر (عصرونية)، وكان يشمل الفطور الزيتون والخبز والجبنة والزبيب والسلطة والمكسرات وما تبقى من طعام الليلة الفائتة وأحيانا البيض والعسل والحليب.
والأهم من ذلك أن أوقات الوجبات كانت تتغير من وقت إلى آخر.
كما يتحدث هومر مؤلف الإلياذة والأوديسة في الكثير من المرات عن الوجبة التي يتم تناولها رأسا بعد بزوغ الفجر التي تسمى أيضا الـ «أرستون» وأن تحضير وجبة الفطور من العادات والواجبات الضرورية والملحة لمعظم عامة الناس وخصوصا الفلاحين والبنائين وعمال المهن الشاقة كتقطيع الأشجار وغيره.
وتشير أندرسون إلى أن وقت تناول وجبة الـ«أرستون»، انتقل من الصباح إلى الظهر مع الوقت، وقد تم إدخال وجبة جديدة على الصباح أو بعد بزوغ الفجر بعد الفترة الإغريقية الهومرية الكلاسيكية، أطلق عليها اسم «اكراتيزما»- Akratisma، الأمر الذي يفسر تحليل اندرو دالبي.
وكانت وجبة الفطور الإغريقية تشمل خبز الحنطة والتين والزيتون وأحيانا العجة المصنوع من العسل والحليب والقمح وزيت الزيتون، وكانت هناك أيضا أنواع أخرى من العجة تضم العسل والسمسم والجبن.
في العصور الوسطى كانت الكنسية الكاثوليكية تقرر متى يأكل الناس وماذا يأكلون، وكان عدم تناول الطعام قبل قداس الصباح من أهم الشروط الكنسية، ولذا كان الناس يفطرون أو يكسرون ما يعتبر صياما بعد القداس أي بالإنجليزية بريك فاست - breakfast، ولم تدخل كلمة الفطور قاموس اللغة الإنجليزي إلا في هذه الفترة.
وبشكل عام كان الأغنياء في القرون الوسطى يحتقرون الفطور وأصحابه، وكانوا ينظرون بازدراء إلى الذين يتناولونه لأن معظمهم من الفقراء وأصحاب الأشغال الشاقة الذين يحتاجون إلى وجبة تساعدهم على القيام بوجباته الصعبة طوال النهار. ففي القرن الثالث عشر كان الفطور أن توفر يحتوي على خبز الردة - rye bread والجبن والجعة وأضيفت اللحمة إلى فطور الأغنياء لاحقا في القرن الخامس عشر.
وحسب ما يؤكد برنامج خاص عن تاريخ الفطور لكلاريسا ديكسون رايت على محطة «بي بي سي»، وما يؤكده المؤرخ الخاص بالطعام إيفان داي، ويعود الفضل في استخدام البيض ولحم البيكون على الفطور التقليدي في أوروبا إلى الكهنة وعن طريقة الصدفة إذا كان يحرم على أتباع الكنسية تناول اللحم نصف أيام السنة تقريبا (لارتباط رمز اللحم بالجنس والتناسل) وكانوا يستبدلونها بالسمك المملح مع الخردل والعسل أحيانا.
وكانت أطول فترات التحريم أيام الصوم الكبير التي تستمر إلى 55 يوما، وتشمل اللحوم والبيض، ولكن تم السماح بتناول واستخدام ما هو متوفر من قطع اللحم وشرائحه والبيض قبل حلول موعد الصوم. ومن هنا بدأت العادة باستخدام البيكون والبيض والفطور الإنجليزي التقليدي.
وفي الحقيقة لم يتم تثبيت الفطور كجزء من تركيبة النهار كما هو الحال الآن إلا في القرن السابع عشر، أي مع تثبيت البيكون مع البيض كفطور في إنجلترا بسبب الازدهار والاستقرار الذي شهدته البلاد آنذاك.
وقبل ذلك كان الفطور في بريطانيا في القرون الوسطى، يعتمد على الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد، فالطبقات العليا كان لديها الخيار على عكس الطبقات الفقيرة التي بالكاد كانت تأكل. وحسب بعض وثائق العائلات الغنية التي جاءت من منطقة نورثامبيرلاند في شمال شرقي البلاد، فإن الفطور كان يحتوي على الخبز الأبيض الممتاز والجعة ولحم البقر.
وقد نشر أول كتاب موسعي للطبخ في بريطانيا - ألف وصفة طبخ منها تعليمات البيض المقلي والبيض المخفوق و20 نوعا من عجة البيض المعروفة بالأومليت. قبل ذلك كان البريطانيون يشوون البيض.
وبعد نشر الكتاب انتشرت العجة التي تضم الجوز واللوز والقرفة في بريطانيا. وقد ساعد ذلك على انتشار المقلي وانتشار الفحم في المطابخ.
وبعد انتشارها في بدايات القرن السابع عشر استبدلت القهوة الجعة على الفطور، ثم تأسس الشاي في منتصف القرن الثامن عشر كجزء من الفطور رغم اعتراض الكثيرين.
ومن الظواهر الهامة والغريبة التي شهدتها بريطانيا وعالم الطبقات الغنية في القرن الثامن عشر، هو الحفلات التي تبدأ مع الفطور ولا تنتهي إلا بعد الظهر بسبب تقليد حفلات صيد الأغنياء في الريف. كما ساهمت عادات الطبقات الغنية في تأسيس الكثير من العادات الخاصة بالفطور، كتناوله في الفراش، بالإضافة إلى انتشار الكثير من الأدوات المطبخية التقليدية.
وكانت الثورة الصناعية العامل الأساسي الذي ساعد على تثبيت الفطور كأولى وجبات النهار في القرن التاسع عشر، مع انتشار المصانع والمعامل في جميع أنحاء بريطانيا وأوروبا وحاجة ملايين العمال والموظفين إلى وجبة تمدهم بالقوة قبل بدء العمل صباحا.
بدأ التحول من تناول اللحوم على الفطور إلى تناول الـ «كورنفليكس» (رقائق الذرة) أو ما يعرف بفطور الحبوب لاحقا في شمال انكلترا عن طريقة الصدفة على يد الأخوين كالوغز نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين.
الدكتور الأميركي جون هارلي كالوغ النباتي، بدأ تجاربه على الكثير من أنواع الحبوب، في محاولة لتحسين الصحة العامة وإنقاذ أميركا عبر تغيير حمية الفطور، وشملت تجاربه الأولى ما نعرفه الآن من خليط من الفاكهة المجففة ورقائق الحبوب والمكسرات لتحسين قدرة الناس على الهضم وتمكينهم من فطور بارد وسهل التحضير وسريع.
وفي العشرينات من القرن الماضي، بدأت الحكومات تروج للفطور على أنه أهم وجبات النهار وبعد الحرب العالمية الثانية انتشرت حمصات الخبز والتوست أو شرائح الخبز مع القهوة السريعة والحبوب (السيريالز - cereals).
بأي حال فإن الفطور هذه الأيام واحد من الوجبات السيومية الثلاث التي يتبعها معظم الناس في جميع القارات، وهي الوجبة التي يتم تناولها صباحا قبل الذهاب إلى العمل وقبل وجبة الغذاء الظهرية. وقد حافظت الكثير من الدولة والثقافات على نوعيات المآكل التي تنتجها وتتناولها لهذه الغاية.
إلا أن الكثير من دول العالم ومع انتشار قطاع السياحة الدولي وتطوره، قد بدأت توحد المواد التي يشكلها هذا الفطور مثل الزبدة والحليب والشاي والقهوة والخبز أو التوست والبيض المقلي والمربى وألبانكيك وشتى أنواع العصير وخصوصا عصير البرتقال والنقانق والكريم والكروسون الفرنسي والحلويات.
وكما هو معروف أن الناس في لبنان أكثر حظا من غيرهم على هذا الصعيد إذ بالإضافة إلى أنواع الفطور الدولية الكونتينانتالن لديهم الكثير من الطيبات مثل مناقيش الجبنة والزعتر والأوراما والكشكك والكروسون بالجبنة والزعتر وشتى أنواع الحلويات، مثل الكنافة بالجبن والسحلب والمهلبية والأرز بالحليب والقشتلية و«السودة النية» (الكبد) فضلا عن المآكل التقليدية كالجبنة العكاوية والزيت والزعتر واللبنة والشاي والكعك.
وقد أصبح للفطور أيضا مطاعمه حول العالم، ومن أشهر مطاعم لندن هي: بيسلرو يونيون (فطور بريطاني) وبالثازار في كافان غاردن (فطور فرنسي) وبلام سبليت ميلك (فطور فرنسي) وبولوستين (فطور فرنسي) واكوا شارد في برج الشارد (كونتينانتال) وهوي بولوي في فندق آس (فطور أوروبي) وون كندا سكوير وبيستروثيك (فطور أوروبي) وكريستوفر (فطور أميركي شمالي) وغرين ستور (فطور دولي) ذا بروفايدر (فطور دولي - خليط) وسموك هاوس (فطور بريطاني).
كما أصبحت شركات المطاعم الدولية مثل المكدونالدز وبرغر كينغ تقدم وجبات سريعة خاصة بالفطور وقامت المقاهي الحديثة بالتنافس معها بتقديم شتى أنواع السندويتشات والوجبات الصغيرة الساخنة لتغطية الطلب المتزايد من موظفي المدن الكبرى.
ويقول بعض المختصين الذين ينصحون بالتخلي عن الفطور، إن الدراسات السابقة أشارت إلى أن الفطور يفيد الصحة من عدة جوانب ويساعد إلى تخفيض الوزن: يحسن التمثيل الغذائي أو الاستقلاب ويساهم في التقليل من تناول الطعام ويحسن المزاج العام للفرد.
أما الدراسات الحديثة والأخيرة فتشير إلى أن التخلي عن الفطور يساهم في تناول كمية أقل من الطعام خلال النهار، وهو ما يؤدي إلى تخفيض الوزن، وبالأرقام خسارة ما يساوي 400 سعرة حرارية يوميا، أو 2800 سعرة حرارية أسبوعيا، أي 360 غراما من الدهون.