الأحوال الأقتصادية في العالم تخيم علي صالون جنيف للساعات الفاخرة لعام 2016
رغم روح التفاؤل التي يحاول صناع الساعات السويسرية بثها في نفوس ضيوف الدورة الـ 26 من صالون جنيف للساعات الفاخرة SIHH، لم ينجحوا هذه المرة في إنكار مخاوفهم وحقيقة صعوبة التغلب على السحابة التي تخيم على عالم المنتجات الفاخرة، وعلى رأسها الساعات، منذ عامين تقريبا.
فبعد تباطؤ النمو الاقتصادي الصيني ثم ارتفاع قيمة الفرنك السويسري في العام الماضي وما ترتب عنه من ارتفاع أسعار المنتجات السويسرية بما فيها مكونات الساعات وغيرها، ثم أزمة اليونان ومنطقة اليورو، صدموا مؤخرا بانخفاض أسعار النفط وعدم استقرار الأحوال في الشرق الأوسط، الذي كانت تعقد عليه الآمال بعد الصين إلى جانب روسيا.
لهذا فإن عام 2016 لن يكون أحسن من 2014 أو 2015، بل تشير توقعات بعض المتشائمين بأنه قد يكون الأسوأ منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008.
لكن لحسن الحظ أن هذه المخاوف لم تؤثر على الإبداع والابتكار الذي استعرضه المشاركون الـ 24.
فالتجارب علمتهم أن «الحاجة أم الاختراع» بمعنى أنه في أوقات الأزمات عليهم أن يزيدوا من جرعة الإبداع لكي يتصدوا للأزمة من جهة، ويستقطبوا زبائن مهمين لم تؤثر عليهم الأزمة، ولا يبالون بتبعاتها ما داموا سيحصلون على ساعات لا مثيل لها، من جهة ثانية.
غني عن القول إن هؤلاء الزبائن ينتمون إلى فئة فاحشة الثراء أشارت إليها قمة «دافوس» الأخيرة، بقولها إن أغنياء العالم يزدادون غنى، وفقراءه يزيدون فقرا.
هذه الشريحة يُعول عليها صناع الساعات ويخاطبونها بشتى الوسائل، من شركة «ريتشارد ميل» التي تعاونت مع شركة «إيه سي جي» ACJ الصانعة للطائرات الخاصة بإطلاقها ساعة تدغدغ خيال هواة الاقتناء الذين يحبون الطائرات وكل ما يتعلق بالجو والفخامة على حد سواء، إلى «مونبلان» و«آي دبليو سي شافهاوزن»، «كارتييه» التي أهدت المرأة ساعة «هيبنوز» يمكن أن تقع كل واحدة، أيا كان ذوقها وأسلوبها وبيئتها، تحت سحرها المغناطيسي، وهلم جرا من الابتكارات التي تقارب الاختراعات في الكثير من الأحيان.
بيد أن هذا لا يعني أن الصالون سيسجل أن دورته الـ 26 خصصت للأثرياء فحسب، فهناك ماركات كثيرة، تحاول منذ فترة مخاطبة شريحة الطبقات المتوسطة والمتطلعة لساعات سويسرية الصنع، بكل ما تعنيه من دقة وجمالية حتى توسع خريطة زبائنها، وكسب جماهير شابة تحديدًا، الطريقة التي اعتمدتها هي تخفيض أسعارها من دون التنازل عن قيمها.
ومع ذلك يبقى السؤال هو كيف لكل هذه الماركات أن تصمد أمام الأزمة الاقتصادية الحالية؟، خصوصا الشركات المستقلة التي لا تتمتع بإمكانيات شركات مثل «كارتييه» أو «آي دبليو سي شافهاوزن» أو «بياجيه» أو «فان كليف أند أربلز» أو «أوديمار بيغيه» وما شابهها.
مما يجعل هذا السؤال يقفز إلى الذهن مشاركة تسعة ماركات جديدة في الصالون لأول مرة، كلهم مستقلون ورائدون في الوقت ذاته.
فقد خصص لهم ركن أطلق عليه «كاريه ديز أورلوجي» أي «ساحة صناع الساعات» ليستعرضوا فيه فنيتهم وخبراتهم أمام زبائن وضيوف ليس لديهم الوقت لحضور معرض «بازل»، حيث يعرضون عادة.
وعلى ما يبدو أن صالون جنيف جذبهم هذه المرة لما يتمتع به من سمعة ورقي وحسن الضيافة، عدا عن زبائنه المميزين، مقارنة بمعرض «بازل»، الذي يشتكي الكثير من المهتمين بأن برنامجه مكثف بشكل كبير لا يمنحهم الفرصة للتنفس والاستمتاع بما يقدمه بشكل مريح.
فانيسا مونيستيل، مديرة «لوران فيرييه»، إحدى الأسماء التي التحقت بالصالون هذا العام، علقت على الأمر بقولها إن الفرق بين صالون جنيف ومعرض بازل أن الأول «صالون»، وهذا يعني أنه يقدم مساحة محسوبة من كل النواحي تُدار وفق قواعد معينة ومقننة، بينما الثاني «معرض» الأمر الذي يعني أنه يقدم للمشاركين مساحة لا أكثر ولا أقل.
وهذا لا ينعكس سلبا على معرض بازل، الذي يضم 1500 عارض تقريبا، مقارنة بصالون جنيف الذي لا يحتضن لحد الآن سوى 24 عارضًا، مما يمنحه حميميته. دخول هذه الأسماء الجديدة منح صالون جنيف قوة أكبر تعيدنا إلى بدايته، إذ لو رجعنا إلى الوراء، لوجدنا أنه عندما انطلق أول مرة في عام 1991، كان يضم شركات مستقلة مثل «جيرالد جنتا» و«دانيل روث» وغيرها، لكنها بعد أن هجرته إلى بازل بقي حكرا على الشركات التي تنضوي تحت راية مجموعة «ريشمون».
لكن الكثير من صناع المنتجات المترفة لم يعودوا يكتفون بطريقة واحدة للتسويق والتعريف بمنتجاتهم، واكتشفوا أنه من مصلحتهم التوسع، وبأن صالون جنيف له جمهور خاص وذواق، سواء تعلق الأمر بالمقتنين أو التجار، وهكذا بدأ يجذب ماركات أخرى، تدخله وتخرج منه بشكل غير رسمي أحيانا، مثل «رالف لوران» التي قررت عدم المشاركة فيه هذه السنة، ضمن استراتيجيتها الجديدة التي تستهدف السوق الأميركية والتركيز عليها.
لم يؤثر خروج «رالف لوران» على الصالون، خصوصًا وأن العدد زاد بعد أن تم فتح الباب للتسع ماركات.
صحيح أنها قد لا تتمتع باسم عالمي رنان، لكنها تتمتع بالخبرات السويسرية اللازمة، ورغبة محمومة في الابتكار والنجاح.
يذكر أن هؤلاء، وبحكم أنهم لا ينضوون تحت راية مجموعة «ريتشمون» سيعرضون أيضًا في «بازل».
ففي الوقت الراهن، ليس لديهم خيارات كثيرة، والسحابة التي تخيم على صناعة الساعات ككل تحتم عليهم الاحتماء منها بأي شكل، سواء في جنيف أو في بازل. في إحدى لقاءاته الصحافية، أكد جون دانييل باش، رئيس فيدرالية صناعة الساعات السويسرية أن أكثر المتضررين من الأزمة هم الصناع المستقلين.
ففي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي مثلا، تم الاستغناء عن 60 موظفًا من بين 207 موظفين يعملون في معمل «جيلبير بوتي جون أو برينيه» في نوشاتيل، وللأسف فإن الكثير من المتشائمين يؤكدون بأن عدد الضحايا قد يزيد.
فالصناع المستقلون والصغار لا يملكون إمكانيات إنتاج ضخمة تسمح لهم بطرح عدد كبير من الساعات، وفي الوقت ذاته، عليهم أن ينتجوا ما لا يقل عن ثلاثة ابتكارات في السنة حتى يبقوا في الواجهة.
«كارتييه» مثلا تصرف الملايين على حملاتها الدعائية وتنتج عدة موديلات في السنة، لا تفتقد للابتكار والأناقة والجمال، مما يجعل المنافسة معها صعبة بالنسبة للماركات الصغيرة.
مثل غيرهم من الأسماء التي تعودنا عليها في المعرض والتي ينضوي أغلبها تحت أجنحة مجموعة «ريتشمون» فإن الأسماء الجديدة التي التحقت بهم هذه السنة، لا تقل رغبة أو جموحا في تقديم الجديد والابتكار.
وربما هي تحتاج أكثر منهم إلى شحذ كل قواها الفنية والجبرية والصناعية والعلمية، لكي تحصل على الانتباه ومن ثم على جزء من الكعكة التي يقدمها الصالون.
لوران فيرييه، مثلا واحد من هؤلاء الصناع المستقلين التسعة، يتمتع بخبرة طويلة استمدها من عمله لأربعة عقود في دار باتيك فيليب قبل أن يطلق داره الخاصة في عام 2012. قدم في الأسبوع الماضي ساعة «ترافلر غلوب نايت بلو» من مجموعة «جاليت» التي تظهر على جانب من مينائها كرة أرضية صغيرة، بينما قدمت شركة HYT ساعة في غاية الابتكار تعتمد على السوائل لعرض الوقت، وهو أمر غير مسبوق وهكذا.
إلى جانب افتخار الصناع المستقلين بقدراتهم الإبداعية وخبرتهم التي لا يُشكك فيها أحد، يرددون أيضًا بأنهم لا يصنعون أكثر من عدد محدود ضمن استراتيجية بعيدة المدى، تتوجه إلى رجل يعشق الساعات ولا يريد إلا الفريد من نوعه.
كريستوف كلاريت مثلا لا يصنع أكثر من 120 ساعة في العام، مما يعطيها خصوصيتها.
الملاحظ في هذه الدورة عمومًا أن مجموعة «ريتشمون» الراعية للمعرض ذكرتنا بأن القوة تكمن في العدد، باستضافتها لكل من «هوتلانس» Hautlance، أورورك Urwerk، «أيتش. موزر أند سي» H.Moser & Cie، «كريستوف كلاريت» Christophe Claret، «ذي بيذون» De Bethune، «إم بي أند إف» MB&F، «لوران فيرييه» Laurent Ferrier، «كاري فوتيلينن» Kari Voutilainen، و«أيتش واي تي» HYT، تزايد العدد أدى أيضًا إلى تزايد المنافسة بين الكل على تقديم الجديد بأي شكل، فضلا على زيادة عنصر الإبهار بالاعتماد على الموضة ودخول عالمها المثير تارة، والاستعانة بنجوم عالميين من عيار كلايف أوين، وهيو جاكمان، وهيلاري سوانك وهلم جرا، تارة أخرى.
لحسن الحظ أنها لم تنس أن هذا كله مجرد بهارات تعزز اختراعاتها التي تعرف أن المقتنين والأثرياء لن يقبلوا عليها إذا لم تتوفر على كل عناصر الدقة والابتكار.
ففي أوقات الأزمات، حتى الأثرياء يترددون في شراء أي شيء فقط لأنه يلمع أو يتمتع بالأناقة، وينتقون فقط الأفضل والفريد الذي يمكن أن يبقى معهم للعمر، أي أنه استثمار، أو يتضمن قصة يفخرون بروايتها في كل مرة يلبسون فيها الساعة، أو يستعرضونها أمام أصدقائهم.
في هذه الأوقات أيضًا، يعودون إلى ما يعرفونه جيدًا، أي العلامات المعروفة والمضمونة مثل «أوديمار بيجيه» أو «ريتشارد ميل» أو «فاشرون كونستانتين»، «آي دبليو سي»، «كارتييه»، «فان كليف أند أربلز» وغيرها.
وما يزيد الأمر سوءا بالنسبة للكل، أن الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وانخفاض أسعار النفط أثرت على سوقين مهمين بالنسبة لصناع الساعات السويسرية، ألا وهما الشرق الأوسط وروسيا.
فقد كانا يبشران بالخير بعد تراجع سوق الصين منذ نحو ثلاث سنوات تقريبا، بسبب الحملة التي شنتها الحكومة ضد تقديم الهدايا على أساس أنها رشى، مما كان له تأثير مباشر على الساعات الفاخرة. فقد كانت هدايا مثالية تقدم للشخصيات المهمة.
الآن بات الأمر ملحًا على توسيع الدائرة والبحث عن أسواق جديدة مع المحافظة على الزبائن القدامى والاعتماد على ولائهم.