بسبب السياسة "مواسم العز".. تهجر الموضة في لبنان
العلاقة بين الحرب والجمال، أشبه بطرفي نقيض من الصعب أن يجتمعا تحت سقف واحد مثلهما في ذلك مثل الحب والفقر، هذا ما حدث في دولة الجمال – لبنان – ساحرة الشرق وموطن كل فنونه، منذ أن عرفت طريق النيران والفوضى بعد اغتيال الرئيس الحريري في 14 فبراير (شباط) 2005، وما اعقبه من اغتيالات سياسية ثم حرب الصيف الماضي، واخيراً احداث "نهر البارد" والمشاكل السياسية الداخلية، كلها أحداث كانت مثل طعنات قاتلة في جسد اشهر صناعة تشتهر بها دولة الجمال، ألا وهي صناعة الموضة، التي يقع على عرشها المتوج عالم الأزياء.
فبعد "مواسم العز" التي عاشها مصممو الأزياء اللبنانيون لسنوات طويلة، وبعدما جعلوا لبنان بفضل نجاحاتهم عربيا وعالميا، عاصمة للموضة ومركزا يقصده عشاقها من العرب والأجانب، ها هم اليوم يطلقون "صرخة ألم" تعبر عن المعاناة التي يمرون بها منذ أكثر من عام نتيجة شلل شبه كامل أصاب سوق الأزياء الراقية بسبب الأوضاع الأمنية والسياسية المتردية التي يعيشها لبنان، وهو الأمر الذي اثر بطبيعة الحال مما أثر على حركة السياحة إلى لبنان، فهجرها الجميع إلى عواصم أخرى أكثر امناً وأماناً، وبقي لبنان وحيدا.
هذا الواقع جعل المصممين اللبنانيين يبحثون عن وسائل بديلة للتغلب على كارثة تهدد صناعتهم بعد أن انتقلوا في شهور قليلة من الازدهار الى الركود والخسارة. وبعضهم لا يزال يناضل في قلب الأزمة متحديا الصعاب على أمل استعادة أيام المجد، وبعضهم لم يستطع الانتظار الى أجل غير مسمى، فاتخذ قرار الرحيل ولو جزئيا الى حيث يجد سوقا لإنتاجه، حتى لو كانت الأرباح المادية والمعنوية أقل مقارنة بما كان يحصل عليه في بلده. من جهة اخرى، يجب ان لا نغفل تأثير هذه الأوضاع على مركزية العروض الموسمية التي كانت بيروت مقرها بالنسبة الى المصممين اللبنانيين والعرب، فإذا بها تنتقل هي ايضاً الى روما وباريس وفي بعض الأحيان إلى دبي.
وكل هذه الخسائر تنسحب أيضا مباشرة على الدورة الاقتصادية التي تضم في حنايا سوق المصممين، قطاع المنتفعين المباشرين وغير المباشرين كمصففي الشعر ومتخصصي التجميل، اضافة الى المنتجعات السياحية والفنادق التي تعاني بدورها أوضاعا اقتصادية صعبة.
يقول مصمم الأزياء عبد محفوظ "كان تأثير الأوضاع الأمنية والسياسية المتردية علينا مدويا وكبيرا، اذ تجاوز التراجع 70 في المائة، خصوصا بعد حرب يوليو (تموز) الماضي، وقبل اندلاع الحرب بأيام قليلة كنت قد غادرت الى روما لعرض مجموعة جديدة، وبعدما عدت اضطررت لإلغاء كل المشاريع وأهمها كان افتتاح دار أزياء جديدة، ومنذ ذلك الحين توالت الخسائر. فموسم خريف وشتاء 2006 ضرب بشكل كامل، وكنا على أمل استعادة الحركة في ربيع وصيف 2007 فإذا بالاعتصام يغزو بيروت، وتنخفض المبيعات إلى 20 و30 في المائة. ويأتي موسم صيف هذا العام بحرب نهر البارد، وتتوقف كل المشاريع ويهرب الزبائن للعام الثاني على التوالي".
ويحاول محفوظ وفريق عمله الموجود في لبنان إيجاد وسائل بديلة كي يبقى على تواصل مع زبائنه في الدول العربية، اذ ينظم رحلات دورية الى عدد من البلدان. لكنه يقول "كنت أبيع حوالي 15 أو 20 فستانا في الأسبوع الواحد، عندما كنت في لبنان حيث يقصدني زبائني ويعرفون مكان وجودي، والآن لا تزيد نسبة البيع في كل رحلة عن أكثر من 4 أو 5 فساتين". ويتطرق محفوظ الى عامل الوقت الذي يلعب دورا معاكسا بالنسبة الى المصممين، خصوصا في فصل الصيف، اذ إن زيارة دول الخليج والدول العربية في هذه الفترة من السنة لا تجدي نفعا بسبب مغادرة المواطنين وطنهم لتمضية العطلة.
نتيجة هذا الوضع، اضطر محفوظ الى اتباع أسلوب التسويق المباشر من خلال مندوبات يوجدن في معظم الدول العربية تقع على عاتقهن مهمة الاتصال بالزبائن وزيارتهن ليعرضن عليهن كتيّبات عن أحدث تصميماته، ليتم بعد ذلك تأمينها لهن من لبنان. لكن هذه الوسيلة لا تحل المشكلة.
ويقول محفوظ: "يبقى نجاح هذه الوسيلة محدودا ومقيدا بسبب صعوبة اجراء التعديلات التي تطلبها الزبونة او حتى انتاج تصميمات خاصة لها وتنفيذها بحسب ذوقها والمعايير التي تحددها، نظرا لبعد المركز الرئيسي عنها".
اما المصمم داني الأطرش فيقول: "في السابق كنا نستضيف زبائننا العرب والأجانب في لبنان، أما اليوم فها نحن نجول الشرق الأوسط ونذهب اليهم". هذه الجملة تشير الى حال المصممين اللبنانيين نتيجة الظروف الراهنة، فهم وان حاولوا اللحاق بزبائنهم في أوطانهم لن ينجحوا في الحصول على ما كانوا يحصدونه في لبنان، حيث مقراتهم وفرق عملهم. ولا ننسى احتساب المصاريف الاضافية التي يتكبدونها خلال رحلاتهم رغم أنهم لا يستطيعون نقل كل المعدات التي يحتاجونها في كل مرة ينتقلون من بلد الى آخر، ويضطرون كذلك في بعض الأحيان الى زيادة سعر القطع. ويضيف الأطرش: "عمدت الى الغاء كل المشاريع التي كنت أنوي القيام بها كافتتاح بوتيك لعرض تصاميمي وبيعها، وقررت افتتاح مكتب خاص في باريس".
ويشير محفوظ الى أن مصممي الأزياء اللبنانيين العالميين عقدوا اجتماعا مؤخرا في بيروت، واتخذوا قرارا بمحاولة استعادة موقع لبنان في مجال تصميم الأزياء، من خلال العمل على التحضير لتنظيم "أسبوع الموضة العالمي" في لبنان لإعادة لم شمل هذا القطاع في نشاط راق يحمل صفة العالمية في بلد اعتاد أبناؤه دائما التغلب على الصعاب، لذلك يؤكد محفوظ أنه مصر على البقاء في لبنان، "لا أطمح الى الربح انما في الوقت عينه أعمل جاهدا كي لا أقع في الخسارة".
ورغم عدم تراجع نسبة اقدام اللبنانيين المقيمين على شراء تصميمات، يشير الاطرش الى أن الخسارة تكمن من جهة أخرى في عدم قدوم المغتربين الذين كانوا يقصدون لبنان في فصل الصيف لتنظيم الحفلات الضخمة وإقامة الأعراس، فهم اختاروا التوجه الى بلد أكثر أمنا وبالتالي حرم المصمم اللبناني من فرصة تسويق انتاجه.
ولا يختلف الأطرش عن زملائه في المهنة لجهة الانتقال بعروضهم الى الخارج، اذ قال "منذ فبراير (شباط) 2005 لم أنظم أي عرض في لبنان بل فضلت التوجه الى باريس، رغم أن كلفة العرض هناك تساوي ثلاث مرات كلفة العرض في بيروت".
وتقول مصممة الأزياء ميراي داغر "نحاول أن نبقى على تواصل دائم مع زبائننا فنكثف الاعلانات في الأسواق العربية وفي المجلات وعبر شبكة الانترنت لنرسل طلبات الزبائن عبر البريد السريع، لكن بالطبع نتيجة هذه الوسائل تبقى محدودة، خصوصا أن الزبونة تفضل دائما أن ترى بعينها".
وفي حين لا تنفي داغر امكانية افتتاح مكاتب في الخارج اذا استمرت الأوضاع على حالها، تقول: "لكن هذا الأمر يتطلب في الوقت ذاته جهدا مضاعفا لجهة المراقبة والإشراف الدائمين كي نحافظ على جودة النوعية التي نقدمها".
منذ حرب يوليو (تموز) 2006، لم يقدم المصمم زياد نكد على عرض مجموعاته في لبنان نظرا لسوء الأوضاع وترديها بشكل مستمر، وانتقلت عروضه الى ميلانو وعدد من العواصم الأوروبية والعربية، خصوصا دبي حيث يوجد مكتب خاص لنكد يعوض نوعا ما النقص الحاصل في السوق اللبناني، بعدما كان يحضر الى لبنان عارضات عالميات لعرض مجموعاته. ويقول "عملنا يعتمد بشكل اساسي على السياح وهذا ما نفتقده في الوقت الحالي رغم أننا بدأنا نلاحظ تحسنا بسيطا في الأسبوعين الأخيرين على أمل أن يتزايد في الايام المقبلة".
وكغيره من المصممين اللبنانيين يحاول نكد الانفتاح أكثر على الخارج، اضافة الى المندوبين المنتشرين في عدد كبير من الدول والتواصل مع الزبائن عبر شبكة الانترنت، وهو يستعد لافتتاح مكاتب في روما والسعودية مع بداية عام 2008، ويقول "ليس لدينا أي خيار آخر كي نحافظ على عملنا وكي لا نخسر زبائنا". بينما يعلق المصمم حنا توما على هذا الأمر فيقول "من المستحيل تنظيم عروض أزياء في لبنان في ظل الأوضاع السيئة، خصوصا أن الأحوال تتغير بين ليلة وضحاها، اضافة الى أن الزبائن العرب الذين نعتمد عليهم في هذا القطاع غائبون عن الساحة اللبنانية اليوم وكذلك الاعلام الأجنبي الذي اعتاد مواكبة أعمالنا. لذا نضطر لإقامة العروض في الخارج".
يبدو ان صناع الموضة لم يعد أمامهم إلا الهروب، فالموقف يزداد سوءا، والخسارة يبدو أنها ممتدة، لقد دمرت السياسة دولة الجمال، وسقطت عاصمتها اسيرة لجراحها، وضاعت كل ألوان البهجة، وبقي فقط اللون الأسود ينعي تاريخا ليس ببعيد يحكي عن عاصمة الموضة والأزياء.