عدد أثرياء العالم يزيد ومعه يزيد غلاء المنتجات المترفة
12:18 م - الجمعة 26 يونيو 2015
كما تحتاج الورود إلى العناية لكي تتفتح وتعيش، كذلك عالم المنتجات المترفة يحتاج إلى استراتيجيات وأساليب متجددة وقادرة على الحفاظ على جذوة الحب مشتعلة في قلوب الزبائن، حتى تحفزهم على الشراء. استراتيجيات تتطلب الابتكار والإبداع، وليس فقط الاعتماد على الأرقام والحسابات، خصوصا أن شراء منتجات تفوق أسعارها مئات الآلاف من الدولارات تحركه المشاعر والعاطفة أولا قبل أي أشياء أخرى.
لهذا ليس غريبا أن دار «جوتشي» غيرت كل فريق عملها في بداية العام الحالي، من رؤساء تنفيذيين إلى مصممين فنيين، بعد أن بدأت نواقيس الخطر تدق في أرجائها، مشيرة إلى تراجع مبيعاتها وخفوت بريقها القديم.
وربما لو كانت الحالة مشتركة بين كل بيوت الأزياء، ومن دون استثناءات، لما كان الأمر مؤلما بالنسبة لها، إذ يمكنها في هذه الحالة أن تعيد السبب إلى تذبذبات السوق وتباين قيمة العملات العالمية وما شابه، لكن بيوت أزياء أخرى لا تزال تحقق الأرباح، وتخاطب، مثلها، شريحة الأثرياء الذين لم تمسهم الأزمة بل العكس، جعلتهم يقبلون على كل ما هو نادر ومتميز على أنه استثمار. أكبر مثال على هذا دار «هيرميس» وحقيبتها الأيقونية، الـ«بيركين» التي يمكن أن تصل لائحة الانتظار على واحدة منها إلى سنوات.
منذ بضعة أسابيع حطمت حقيبة «بيركين» الرقم القياسي وكل التقديرات في مزاد هونغ كونغ الأخير، حيث بيعت بـ221.844 دولارا أميركيا. والمثير في الأمر أن الحقيبة ليست «فينتاج»، بل صنعت في عام 2014 بطلب زبونة مقتدرة أرادتها أن تكون بلون الفوشيا وجلد التمساح، والأهم من هذا أن تكون مرصعة بالماس وبحواش من الذهب. فالمعروف أن هذه الحقائب، التي تتراوح أسعارها ما بين 120 ألفا و300 ألف دولار أميركي، لا تطرح في السوق عادة، بل تكون طلبا خاصا من زبون معين.
أهمية المزاد العلني الأخير، والسعر الذي بيعت به الحقيبة، أن أغلى حقيبة من الماركة والنوع نفسيهما كانت قد بيعت في مزاد علني بنيويورك في عام 2011. وكانت الحقيبة ملكا للنجمة الراحلة إليزابيث تايلور، ورغم أنها بيعت ضمن مجموعتها الخاصة بالمجوهرات، فقد حققت 218.500 دولار أميركي، وهو ما اعتقد البعض حينها أنه رقم قياسي ومجنون.
مزاد هونغ كونغ الأخير نتائجه تؤكد أن عالم المنتجات المترفة لا يخضع لأي قواعد أو حسابات. فمهما مست الأزمة الاقتصادية مجالات معينة، فإن بعضها الآخر يبقى بمنأى عنها، لأن زبائنها يعتبرونها استثمارات بعيد المدى خصوصا إذا كانت من بيوت أزياء يشهد لها بالكلاسيكية والحرفية. وبالطبع ليس هناك أفضل من «هيرميس» التي تسوق نفسها منذ زمن على هذا الأساس وتحقق الكثير من النجاحات، بالكيف وليس بالكم.
بيوت أزياء كثيرة اقتدت بها في السنوات الأخيرة، وتحاول تسويق منتجاتها المترفة على هذا الأساس، ومخاطبة شرائح نخبوية من الزبائن، وهم كثر حسب التقارير الحديثة، ويتكاثرون بسرعة في كل أنحاء العالم.
فحسب تقرير صدر من منظمة الأبحاث الخاصة بالأثرياء، «ويلث إكس» مثلا، فإن هناك ما لا يقل عن 211.275 عائلة في العالم تقدر ثروتها بـ30 مليون دولار أميركي على الأقل، نسبة كبيرة منهم عصاميون ووصلوا إلى ما وصلوا إليه من الصفر. ويعود لهم الفضل في تحريك السوق، حيث صرفوا في عام 2014 وحده أكثر من 234 مليار دولار على منتجات مترفة، سواء كانت لوحات فنية أو سيارات فارهة أو طائرات خاصة أو أزياء وإكسسوارات. وشكل مجموع ما صرفه أثرياء الصين نحو 30 في المائة من هذا المبلغ.
المطمئن في التقارير التي تنشر حول هؤلاء، ومنها تقرير صدر من «كريديت سويس»، أن عددهم يزيد في كل عام. فهناك الآن أكثر من 128 ألف شخص تفوق ثرواتهم الـ50 مليون دولار، مقارنة بـ41 ألفا في عام 2000، و45 ألفا منهم تقدر ثرواتهم بأكثر من 100 مليون دولار، مقارنة بـ14 ألفا في عام 2000، بينما 4.300 تصل ثرواتهم إلى أكثر من 500 مليون دولار، مقارنة بـ1.200 في العام نفسه، أي 2000.
ورغم أن الولايات المتحدة لا تزال تتصدر القائمة كأرض اقتناص الفرص وتحقيق الثروة بالنسبة للعصاميين والشباب، فإن عددا لا يستهان به من الأثرياء يعيشون حاليا في آسيا، وتحديدا الصين والهند.
هذه الأرقام شجعت بيوت الأزياء على التوجه إلى هذه الأسواق والشرائح برفع أسعارها بشكل صاروخي منذ بداية الأزمة العالمية الأخيرة في عام 2008. استراتيجياتها تركزت على الاهتمام بكل ما يصنع باليد، بغض النظر عن الساعات أو الأيام التي يستغرقها صنع قطعة واحدة، فضلا عن البحث المستمر على الخامات النادرة لأنها تعرف أن «ثمنها فيها».
المحلات الكبيرة أيضا بدأت تستعمل لغة الترف والفخامة لجذبهم، وفي كل عام تزيد العيار خصوصا بعد أن تأكدت من أنه لا خوف على باقي الشرائح. فهؤلاء أيضا لهم جزء من الكعكة لكن بأسعار أقل ومنتجات قد لا تستغرق أسابيع وأشهرا لتنفيذها على المقاس والذوق، لكنها تحاكيها جودة وجمالا.
محلات «هارودز»، مثلا، افتتحت الأسبوع الماضي قسما أطلقت عليه «سوبر براند» (Superbrand) على مساحة 45 ألف متر مربع، يضم كل ما غلا ثمنه وصنع باليد أو من خامات نادرة وغريبة، بتوقيعات بيوت كبيرة مثل «لويس فويتون»، و«لورو بيانا»، و«سيلين»، و«شانيل»، و«فندي»، و«رالف آند روسو»، و«ديور». بعض هذه المنتجات حصرية وبأعداد محدودة تتوجه إلى زبون لا يقبل إلا بالمتميز ولا يريد قطعا يراها على كل من هب ودب.
والمقصود هنا أزياء تحاكي «الهوت كوتير» أو أحذية وحقائب يد مصنوعة من جلود ومواد مترفة مثل الذهب والماس وغيرهما. ولأن هذه المواد والخامات لا تتوافر بكثرة أو يتم الوصول إليها بسهولة حتى بالنسبة لأكبر بيوت الأزياء، فإن الطلب يكون دائما أكبر من العرض، مما يؤجج الأسعار.
من ضمن الاستراتيجيات التي انتهجتها العديد من بيوت الأزياء والمجوهرات والساعات لكي تلبي الطلب الحرص على امتلاك ورشات خاصة بها، سواء تعلق الأمر بمعامل الدباغة والعناية وتقطيع الجلود، أو بورشات لصنع حركات الساعات وترصيع المجوهرات.
الهدف هو التحكم في الجودة والصورة النهاية، لكن أيضا هو أن يؤخذوا محمل الجد كبيوت متخصصة في مجالاتها، وألا يقعوا تحت رحمة مصنعين آخرين، أو لا يستطيعون التحكم في الأسعار أو أوقات التسليم وما شابه من أمور مهمة في عملية الإنتاج. وحتى بعد التأكد من كل هذا، فإن العملية تحتاج إلى تسويق هائل ومختلف تماما عما كان عليه في السابق.
صحيح أن أغلب الزبائن الأثرياء يقدرون قيمة وفنية المنتجات التي يشترونها بغض النظر عن أسعارها، إلا أن منهم «حديثي النعمة»، الذين ليس لهم باع طويل في عالم الموضة.
هؤلاء يتطلبون لغة ترفيهية أقوى للوصول إليهم واستقطابهم. وربما هذا ما يفسر كيف تزيد عروض الأزياء إبهارا، بما في ذلك عروض «الكروز» التي ترحل إلى وجهات مختلفة من العالم، وتعتمد على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لكي تبث الحماس في النفوس، ومن ثم يتم الترويج لها، أو بالأحرى لتلك الصورة البراقة التي يريد منظموها عكسها للآخر.
فالهدف الأول والأخير لهذه الدور هو التفاعل مع زبائنها الأوفياء واستقطاب زبائن جدد، مما يجعلها تصرف مبالغ طائلة، لدعوتهم لحضور هذه العروض.
فهي تتكفل بكل مصاريفهم من تذاكر السفر إلى الإقامة في الفنادق الفخمة وتوفير سيارات تنقلهم من مكان إلى آخر حتى يعيشوا الحياة المترفة من وجهة نظر الدار المضيفة .. فعلى المستوى التجاري، تعرف جيدا أن هذه المصاريف نقطة في بحر إذا انتهت بالاستحواذ على قلب الضيف وإقناعه بأنه فرد من العائلة، حتى يبادلها الحب ويصبح زبونا دائما، لا سيما أنه ضيف يتمتع بثروة هائلة ولا يحتاج لمن يدفع مصاريفه، ومع ذلك فإنها لن تبخل عليه بشيء حتى «تعمل بقيمتها» ظاهريا، بينما الحقيقة، أو من الناحية السيكولوجية، فهي لا تبيع له أزياء وإكسسوارات فحسب، بل تبيع له أسلوب حياة تريده أن يقع في حبه حتى يدمن عليه إلى الأبد.