معرض «شانيل N°5» .. يكشف حياة المصممة كوكو شانيل من خلال عطر
10:48 ص - الأربعاء 22 مايو 2013
لم يكن أحد يتوقع حجم النجاح الذي سيحققه عطر «شانيل نمبر 5»، فأقصى ما يطمح إليه أي أنف أو مبتكر أن يحقق النجاح لبضع سنوات تتبخر بعدها رائحته في الهواء ليأتي الدور على غيره. لكن هذا العطر كسر كل القواعد والتوقعات، تماما مثل مبتكرته غابرييل شانيل، التي كتب عنها جون كوكتو: «نجحت بما يشبه المعجزة، أن تعمل في عالم الموضة، واتبعت قواعد تبدو أنها كانت خاصة بالرسامين والموسيقيين والشعراء فقط. لقد فرضت نبل الصمت على ضجيج المجتمع».
ما يحسب لها أنها لم تولد وفي فمها ملعقة من ذهب، بل العكس تماما، ومع ذلك غيرت مفهوم الموضة بعد أن حررت المرأة من كل القيود من دون أن تجعلها تتنازل عن أنوثتها ونعومتها.
والعطر بدوره ما هو إلا انعكاسا لرؤية صاحبته، بل يمكن القول: إنه مرآة تعكس الكثير من الجوانب الخاصة في شخصيتها وحياتها، لهذا كان من حقه أن يكتسب هو الآخر صفة أيقونية، لا سيما أنه لا يزال يحقق أعلى المبيعات رغم مرور أكثر من 92 عاما على صدوره.
هذه الصفة الأيقونية فتحت له أبواب «باليه دي طوكيو» المعروف باحتضانه أعمال الفن المعاصر، لكي يتعرف الناس على خلفياته الثقافية والفنية والنفسية والاجتماعية. ففي الرابع من شهر مايو (أيار) الحالي، احتفل أكثر من 400 ضيف مع دار «شانيل» بافتتاح معرض «نمبر 5 كالتشار شانيل» N°5 CULTURE CHANEL في بادرة يمكن أن تكون الأولى، بحكم أننا، ولحد الآن، لم نسمع عن معرض خاص بعطر أيا كان.
ورغم بريق نجمات «شانيل نمبر 5» اللواتي ظهرن في إعلانات تروج له في فترة من الفترات، مثل كارولين بوكيه، فانيسا بارادي، أودري توتو، أنا موغلاليس وغيرهن، فإن الذي سرق البريق كان أمين المعرض، جون لوي فرومونت، وهو أيضا مؤسس متحف بوردو للفن المعاصر الرئيس الفني لمنظمة الأمير بيير دو موناكو، الذي أخذ الحضور في رحلة تغوص في أعماق العطر، أو بالأحرى أعماق صاحبته، غابرييل شانيل والتأثيرات التي كانت وراء ولادته، بدءا من علاقاتها الخاصة إلى علاقتها مع فنانين معاصرين من أمثال جون كوكتو، بابلو بيكاسو، سالفادور دالي وغيرهم ممن أثروا حياتها، مرورا بتراجيديتها وإحساسها بالفراغ العاطفي بعد مصرع الرجل الوحيد الذي أحبته بصدق، لاعب البولو الإنجليزي، إيل كابيلو، الملقب بـ«بوي».
فقد كان أول رجل يؤمن بقدراتها وإمكانياتها ويمنحها ليس الحب والإحساس بالانتماء اللذين كانت تفتقدهما بسبب يتمها وطفولتها القاسية في ميتم فحسب، بل أيضا الإمكانيات المادية لكي تطلق العنان لهذه الإمكانيات الدفينة.
يشرح فرومونت «أن نمبر 5 ليس مجرد عطر، إنه حالة ثقافية ترتكز كليا على حس المغامرة الفنية والتاريخية»، لأنه ظهر للنور على خلفية فنية بدأت مع الحركة التكعيبية التي أطلقها بابلو بيكاسو في عام 1907 في لوحته الشهيرة «لي دموازيل دافنيون» واستمر مع فنانين آخرين ينتمون لمدارس مختلفة لكن القاسم المشترك بينهم دائما هو تكسير التابوهات والمألوف.
لهذا عندما كلفت شانيل خبير العطور أرنست بو بابتكار عطر جديد، ركزت على أن يكون تجريديا بحيث لا يمكن تمييز مكوناته، وأن يكون أيضا مترفا وفريدا يصعب تقليده. كذلك ألحت أن يكون اصطناعيا، قائلة: «أؤكد على كلمة اصطناعي.. فأنا أريده مثل فستان.. أن يكون مصنوعا».
وبالفعل منحها الخبير أرنست بو ما أرادته من خلال مزيج من الياسمين واليولانغ والسوسن ومكونات أخرى بلغ مجموعها الـ80 لكن لحد الآن يصعب تحديد أيها الغالب. كانت تستهدف منه أن يكون بداية لعطور عصرية بسيطة، مما يفسر أيضا بساطة شكل القارورة بالإضافة إلى اسمه الذي لا يرتبط بزمن أو مكان.
بيد أن العنصر الأقوى الذي يركز عليه المعرض هو الناحية النفسية ورمزية العطر بالنسبة للمصممة. وحسبما يؤكد فرومونت فإن «غابرييل شانيل أعطت للحب الغائب شكلا ملموسا في هذا العطر»، لأنه كان فرصتها للخروج من حالتها النفسية السيئة ومن خلاله حاولت تجسيد الغائب آرثر بوي كابيل، الحبيب الذي فقدته للأبد وأرادت أن تحتفظ بذكراه في قارورة تختزل كل مشاعر السعادة والحب التي كانت تكنها له، حتى تعوض الفراغ الذي تركه بداخلها.
بعبارة أخرى، فإنها كانت، كما قال بروست، تبحث على تجسيد «ذكرى». فآرثر كابيل لم يكن الحب الكبير في حياتها فحسب، بل الرجل الذي تدين له بالكثير على الكثير من المستويات. فهو الذي ساعدها على تطوير نفسها وذوقها في مجالات الفن والأدب وعلوم الباطن.
بعد تعرفها عليه، أصبحت نهمة قراءة، وعندما فقدته ظلت تبحث عنه في الكتب، خصوصا تلك التي شجعها على قراءتها، بالإضافة إلى غوصها في علوم الفلك والأرقام التي كان مسحورا بها.
كما حاولت نسيانه بأي شكل، فسافرت إلى البندقية، التي كانت في ذلك الوقت بوابة الشرق والغرب، وهناك تعرفت على ثقافات أخرى حفرت لها مكانا في ذاكرتها لتجد طريقها في تصاميمها البيزنطية مثلا.
ويعود فرومونت للقول بأنها، بمعانقتها حزنها واستعمالها له كلغة إبداعية، أهدت نفسها أجمل عطر يختزل كل معاني الحياة والحب والذكريات السعيدة ليكون منقذها إلى حد ما.
تبدأ الجولة في المعرض بحديقة من تصميم بييت أودولف، مصمم الحدائق الهولندي المعروف بمشاريعه التي يحاول من خلالها دائما بسط الخارج إلى الداخل وجعله امتدادا له، ومنها ندلف إلى القاعة الفسيحة المقسمة إلى أقسام متنوعة بعضها يستعرض أعمال موديغلياني وبيكاسو، بما فيها رسائل كتبها هذا الأخير للآنسة شانيل، وبعضها الآخر صور فوتوغرافية التقطها مان راي أو سلفادور دالي بالإضافة إلى رسائل من كوكتو وهلم جرا. فقد كان لكل هؤلاء تأثيرهم على غابرييل شانيل، الأمر الذي تجسد في تصاميمها عبر المواسم، من دون أن ننسى أنها هي الأخرى أثرت عليهم وعلى أعمالهم.
عطر «شانيل نمبر 5» .. حقائق
1 - في عام 1921. كلفت غابرييل شانيل خبير العطور أرنست بو بابتكار عطر خاص بها. ويقال: إنها كانت تريده بشذى يذكرها بآرثر كابيل، لاعب البولو الإنجليزي والرجل الوحيد الذي أحبته لكن فقدته في حادث في عام 1919. حينها شعرت بأنها خسرت كل شيء، لكنها بمساعدة أصدقائها وتشجيعهم، وجدت القوة أن توظف حزنها في التصميم وابتكار هذا العطر.
2 - هناك عدة روايات عن سبب اختيارها لاسمه، إحدى هذه الروايات أن مبتكره أرنست بو، قدم لها أربع وصفات لم ترق لها، وكانت تطلب منه المزيد من التجويد والتغيير. وعندما قدم لها المحاولة الخامسة، اختارتها من دون تردد، حتى عندما تابع محاولاتها بوصفات أخرى.
من الروايات الأخرى أن كوكو شانيل كانت تريد تجنب ربطه بأي صورة أو وصف أو بفترة معينة حتى يبقى للأبد. طبعا هنا نظرية أخرى تفيد بأن رقم 5 كان رقم الحظ الذي تتفاءل به.
لا يمكن تجاهل الدلالات الفنية والرمزية لرقم 5 في تلك الحقبة، بدليل الكثير من القطع الفنية التي جاد بها الفنانون وتلعب على هذا الرقم مثل تحفة الموسيقار إيغور سترافينسكي «الأصابع الخمسة» وغيرها.
3 - لم يكن الاسم هو الوحيد الذي كان تحديا للتقاليد المألوفة في تسمية العطور في تلك الفترة، فحتى خلاصاته كانت غريبة وجديدة، من حيث احتوائه على الورد والياسمين والليلك من دون التركيز على أي من المكونات الـ80 المعهودة.
4 - يمكن اعتبار العطر انعكاسا للحركات الفنية التي عاصرتها المصممة مثل التكعيبية والدادية والسريالية وأثرت عليها وعلى أسلوبها في التصميم عموما، وهو ما يتجلى في شكل القارورة المحدد.
5 - ظهرت الكثير من نجمات السينما العالمية كوجه للعطر، مثل نيكول كيدمان، كاثرين دونوف، فانيسا بارادي وهلم جرا، لكن كوكو شانيل كانت الوجه الأول له. فقد ظهرت في أول حملة ترويجية للعطر في عام 1937 من تصوير فرنسوا كولار. ظهرت الحملة في الولايات المتحدة الأميركية فقط، لأن العطر لم يروج له في فرنسا إلا في عام 1940.
6 - وكما تأثرت بالفنانين المعاصرين، فقد تأثروا بها، وجعلوا من العطر مادة مهمة تناولها بعضهم في أعمالهم وعلى رأسهم سالفادور دالي وأندي وورهول.
7 - لم يطرأ أي تغيير جذري على شكل القارورة والعلبة الموشاة بالأبيض والأسود التي أبدعت في 1921 إلى الآن. في ذلك الوقت وضعت أيضا الحرف الأول من اسمها C على عنق الزجاجة لتحوله فيما بعد إلى مونوغراف يعرف بمنتجات الدار بإضافة C أخرى.
وفيما يقول البعض إن الحرفين يرمزان إلى اسم كوكو بالفرنسية إلا أن البعض الآخر يقول: إنها استلهمتهما من النوافذ الزجاجية المعشقة في كنيسة أوبازين، التي قضت فيها طفولتها، بينما هناك من يقول بأنها أخذت شكل اللوغو من كاثرين دي ميديتشي، ملكة فرنسا، التي كانت شانيل معجبة بها واستلهمت منها أيضا الكثير من تصاميمها.
8 - رغم تميز العطر ونجاحه، فإن الفضل الكبير في تسويقه عالميا يعود إلى النجمة الراحلة مارلين مونرو التي تبرعت في أحد اللقاءات التلفزيونية في عام 1954 بالقول: إنها لا تستغني عنه قبل النوم.
9 - في السبعينات والثمانينات، أخرج المخرج البريطاني ريدلي سكوت حملة تلفزيونية للترويج له، لقيت نجاحا كبيرا، وقد تكون بداية الأفلام القصيرة التي تبنتها الشركات الإعلانية فيما بعد.
10 - في عام 2004. استعانت الدار بالمخرج الأسترالي باز لوهرمان لتصوير حملة ترويجية كانت النجمة نيكول كيدمان بطلتها.
11 - في عام 2012 أثارت «شانيل» جدلا عالميا وضجة إعلامية بعد اختيارها النجم براد بيت ليكون أول رجل يروج لعطر نسائي.
كل شيء كلاسيكي في عصره ثوري
شمل المعرض أكثر من 200 عمل فني، من صور فوتوغرافية إلى كتب قديمة تتناول مواضيع مختلفة ألهمت المصممة في فترة من الفترات وشحذت خيالها. والحقيقة أنك تدخل المعرض بفكرة مسبقة عن غابرييل شانيل وعالمها المترف، وتخرج منه بفكرة أوسع بعد أن تكتشف جوانب خفية لم يتم الحديث عنها من قبل إلا في أوساط المثقفين والمقربين منها.
وربما هذا ما يعطي معرضا خاصا بعطر بعده الثقافي وأهميته الفنية المعززة بصداقاتها مع فنانين من أمثال جون كوكتو، ماكس أرنست، إيغور سترافنسكي، أبولينير، سترافينسكي، بيكابيا، موديغلياني، تريستان تزارا، مان راي، دالي.
فمعظم هؤلاء عانقوا مدارس جديدة متمردة على المتعارف عليه في بداية القرن العشرين وواجهوا مقاومة من الأجنحة الكلاسيكية، تماما مثل المصممة، التي كانت ثورية سابقة لأوانها، كما تؤكد السنوات.
مثلهم كانت تريد أن تبدع لغة جديدة تتواصل بها مع المستقبل ونجحت بعد أن وجدت أداة خاصة بها. لم تكن الأداة التي ركزت عليها هي الموضة بل الأناقة وذلك الأسلوب الخاص الذي لا يعترف بزمن محدد.
- يمتد المعرض من 5 مايو إلى 5 يونيو (حزيران) وهو جزء من المعارض التي يشرف عليها جون لوي فرومونت، مؤسس متحف بوردو للفن المعاصر والرئيس الفني لمنظمة الأمير بيير دو موناكو.