11:10 م - الأحد 29 يوليو 2012
إنه حوت كبير آخر يلتهم سمكة، ففي صفقة لم تدهش أحدا اشترت المجموعة الاستثمارية الفرنسية التي يمتلكها الملياردير الفرنسي برنار آرنو دار «آرني» الشهيرة للخياطة الرجالية في باريس. ومعروف أن آرنو يستثمر أمواله في شركات الموضة الراقية ويمتلك دار «كريستيان ديور» والعشرات غيرها.
وطوال عقود نجح خياط المشاهير والباحثين عن أناقة كلاسيكية لا تخطئها العين في أن يحفر عنوانه في ذاكرة نجوم وأمراء وسياسيين ورجال أعمال. من فيلسوف الوجودية جان بول سارتر والأديب الفنان جان كوكتو، وصولا إلى الرئيس الأسبق فرنسوا ميتران.
وقد كان هذا الأخير ذا قيافة متواضعة، على طريقة مناضلي اليسار التاريخيين، لكنّ اهتداءه إلى محل «آرني» الواقع في شارع «سيفر» قلبه على البطانة، كما يقولون، وساهم إلى حد كبير في تحسين صورته أمام الناخبين، بل إن المصمم إيف سان لوران، وهو من هو في عالم الأناقة، لم يكن يرتدي الثياب التي يصممها بنفسه، بل يذهب إلى خياطي «آرني» لكي يفصل له بدلات تضيق عند الخصر وتبرز انسيابية القامة.
إن للتصميم سحرا قادرا على إخفاء العيوب والتمويه على الكروش وإضفاء لمحة مترفة على من يستسلم له. وليس من المبالغة القول إن سترات «آرني» تلبس الرجل في اللحظة التي يلبسها.
تقدر صفقة شراء العلامة التجارية الفرنسية الشهيرة التي ينطقها الإنجليز «آرنيز» بقرابة 10 ملايين يورو، وهي ستجعل من محل الخياطة فرعا تابعا لشركة «بيرلوتي» لصناعة الأحذية الفاخرة، إحدى شركات مجموعة «LVMH» العائدة لبرنار آرنو.
وقد أوكل الأب مسؤولية إدارة «بيرلوتي» إلى ولده أنطوان آرنو، مع كل الإرث المعنوي للإسكافي الإيطالي الأصل الذي يحتفظ بقوالب خشبية لأقدام المئات من كبار القرن العشرين الذين يفتخر، بل يفتخرون، بأنهم من زبائنه.
بعد ميتران صار «آرني» محبوب كبار سياسيي اليسار الذين يودون استلهام تجربته في الحكم والسير على خطاه. لذلك فإن من زبائن محل الخياطة الراقي وزير الخارجية الفرنسي الجديد لوران فابيوس.
كما كان رئيس الوزراء السابق فرنسوا فيون من زبائنه، حيث صمم له ستراته المحزمة التي اشتهر بها. لكن «آرني» لا يكرس كل اهتمامه للبدلات الكلاسيكية، بل يجنح نحو الثياب التي يرتديها الرجال في أوقات التريض والراحة. إنها أناقة شبابية تلفت النظر بألوان الأقمشة وجرأة الخطوط.
يتذكر دومينيك لولي، أحد أبرز مصممي «آرني» الذي عمل في الدار لأكثر من ربع قرن، أنه بعد تخرجه من مدرسة معروفة للخياطة والتصميم ذهب للعمل لدى الدار بعد أن قرأ في إحدى المجلات تحقيقا عن خزانة ثياب الممثل المعروف فيليب نواريه.
وكانت أغلب بدلات نواريه وستراته مفصلة لدى «آرني» الذي كان لولي يسمع باسمه للمرة الأولى. وقد استقبله جان غرامبير، صاحب الدار، وطلب منه أن يرسم له نقوشا لقماش رجالي، وبناء على تلك النقوش المرتجلة تم التعاقد معه.
منحت الدار عناية خاصة للثياب التي يخرج بها الرجال للصيد. ومن المعروف أن الفروسية والصيد من هوايات الأكابر، لكن هذا الخط التصميمي راح يتراجع مع تقلص زبائنه، فقد بدأت الدار تماشي العصر وتتوجه إلى زبون جديد ينتمي إلى وسط باذخ رفيع ومتحرر ويمتلك من الثقافة ما يتيح له أن يفهم الإشارات المتبادلة في محيطه.
لذلك يمكن اعتبار «آرني» آخر حصون الأناقة الرجالية الفرنسية لأن مصمميها يقترحون أنماطا لا يجدها الزبون الذواقة في مكان آخر.
بالإضافة إلى الثياب والبدلات الكلاسيكية والقمصان المصنوعة من أجود الأقطان، تقدم الدار خطوطا للثياب الرياضية «السبورت»، وقد دخلت ميدان الصناعات الجلدية أيضا.
وكانت تعتمد على مصمميها، والمسيو غرامبير بالذات في رسم خطوط أزيائها ونقوش أقمشتها التي يجري تنفيذها في المعامل.
وقد عرفت الدار متى تتطور لكي لا يتجاوزها العصر، ذلك أن الإبداع ليس ابتكار أي شيء وكيفما اتفق، بل لا بد من نظرة شفافة للعالم وللمجتمع، بالإضافة إلى ثقافة واسعة ترتفع إلى مستوى احتياجات الزبون المتطلب.
وهذا الزبون هو اليوم من الشباب ومن الذين نجحوا في جمع ثروة بفضل التكنولوجيا الحديثة أو المضاربات.
تحتفظ الدار بقطع صارت علامة في تاريخها، مثل السترة «الفوريستييه» التي صممت عام 1947 لمهندس فرنسي شهير ولاقت شهرة عالمية وما زالت مطلوبة لأناقتها وعمليتها والراحة التي توفرها لمرتديها.
لقد كان مصممو أواسط القرن الماضي يستلهمون الموضة الرجالية الإنجليزية التي رأت النور في العشرينات والثلاثينات.
إنها صورة الرجل «الداندي» الذي يلفت الأنظار ببدلاته المعتنى بها وبتفاصيلها عناية بالغة.
إنها تلك الثياب التي نراها في أفلام المخرج جيمس إيفوري والتي تتنفس الزمن الماضي. وليس خافيا، على حد قول لولي، أن ولي العهد البريطاني الأمير تشارلز هو من أتباع تلك النظرة. أما الملك إدوارد السابع فكان أول من ابتكر حركة ترك الزر الأخير في السترة أو الصديري حرا.
وقد قلده معاصروه في تلك الحركة دون أن يعرفوا أنها بدرت منه بعد عشاء دسم لم يعد ينفع معه تزرير كل الأزرار الواقعة فوق المعدة.
وطوال مسيرة الدار كان الهاجس رفض الفكرة التي تؤكد أن الرجل يعيش في ثيابه لصالح فكرة أن «الثوب يجب أن يكون مريحا بحيث ينسى صاحبه أنه يرتديه». وطبعا فإن الفرنسيين باعة كلام ويمكن لهم أن يحتالوا على الأجانب بعبارات وأفكار من هذا القبيل. لكن «آرني» عرف كيف يقرن القول بالفعل.
ماذا سيحصل للمسيو غرامبير بعد بيع داره الشهيرة التي بناها بعرقه ونبوغه؟ المعلومات تشير إلى أنه سيبقى شريكا في نشاط علامته التجارية في حين سينتسب كل خياطيه ومصمميه العاملين في ورشته إلى الشركة الجديدة.