آفاق علاج واعدة لعلاج ورم الغدد الصماء العصبية
12:00 ص - الخميس 29 مارس 2012
يعد سرطان البنكرياس أحد أنواع السرطان المخيفة التي تسبب الوفاة. ومن المتوقع أن يصاب به 44000 أميركي في العام الحالي، مما يشكل نسبة 3% من إجمالي حالات الإصابة بالسرطان. وإن لم يحدث تقدم كبير في وسائل العلاج له فلن يبقى على قيد الحياة من هؤلاء سوى عدد أقل من 3000 مريض في غضون خمسة أعوام.
كانت حالة ستيف جوبز (المسؤول الأول في شركة «أبل» الذي يعزى الفضل إليه في إنجازاتها الشهيرة مثل هواتف «آي فون» وكومبيوترات «آي باد» اللوحية - المحرر) أفضل كثيرا من الكثير من المصابين بسرطان البنكرياس.
وقد توفي مؤسس شركة «أبل» صاحب الكاريزما في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2011، بعد ثماني سنوات تقريبا من اكتشاف إصابته بالسرطان بالصدفة لدى إجراء أشعة مقطعية على الكلى (يقع البنكرياس بجوار الكلية اليسرى).
ووفقا لأكثر الكتب التي تروي قصة حياة ستيف جوبز مبيعا الذي صدر بعد فترة وجيزة من وفاته، طلب منه طبيب المسالك البولية إجراء الأشعة بسبب حصوات الكلى التي كان يعاني منها قبل ذلك بعدة أعوام.
ورم الغدد الصماء العصبية
ولكن بعض أطباء السرطان سيقولون إن جوبز لم يكن مصابا بسرطان البنكرياس على الإطلاق، على الأقل ليس بالطريقة التي كان يوصف بها، بل إنه كان يعاني من نوع نادر من السرطان يسمى ورم الغدد الصماء العصبية (neuroendocrine tumor)، وهو يصيب البنكرياس، ولكنّ ثلثي أورام الغدد الصماء العصبية تتكون في أماكن أخرى في جسم الإنسان.
تنشأ أورام الغدد الصماء العصبية وأنواع السرطان التي غالبا ما تصيب البنكرياس من أنواع مختلفة من الخلايا، ولها أعراض مختلفة كذلك، كما أنها تتطلب علاجا مختلفا.
يمكن أن يمارس المرضى المصابون بأورام الغدد الصماء العصبية في البنكرياس حياتهم بصورة عادية نسبيا لعدة أعوام، حتى وإن انتشرت تلك الأورام خارج البنكرياس. ويتم تشخيص عدة آلاف من حالات الإصابة فقط سنويا في الولايات المتحدة على الرغم من أن العدد في ازدياد.
وقد أقرت إدارة الغذاء والدواء الأميركية نوعين من العقاقير لعلاج أورام الغدد الصماء العصبية في البنكرياس في عام 2011، وهما سونيتينيب sunitinib (ساتنت Sutent) وإفيروليموس everolimus (افينيتور Afinitor)، اللذان يحدثان خللا على المستوى الجزيئي للخلايا السرطانية ويعملان بهدف أكثر تحديدا من العلاج الكيميائي التقليدي.
ويعتبر المتخصصون في علاج السرطان أن سونيتينيب وإفيروليموس والعقاقير المشابهة، موجة جديدة في أساليب علاج السرطان. وبينما لم يذكر أي من سونيتينيب أو إفيروليموس في الكتاب الذي يروي قصة حياة جوبز، فقد ذكر خضوعه للعلاج الذي يستهدف الجزيئات، لذلك فمن المعقول توقع أنه ربما تناول أحد هذين العقارين قبل وفاته.
البنكرياس
يدفع البنكرياس ذو الشكل المستطيل والمدبب إلى تشبيهه بأحد المخلوقات: حبار صغير بلا عيون، ربما أيضا لا تكون له أيضا مجسات طويلة في المقدمة أو زعانف في المؤخرة. ويرجع مثل هذا التشبيه إلى التقسيم التشريحي للبنكرياس حيث يتكون من رأس وجسد وذيل.
ويعود بعض من أسباب خطورة سرطان البنكرياس إلى أنه عضو قريب للغاية ومتصل مع الكثير من مكونات الجسم الأخرى، حيث تتصل به فروع من الشرايين والأوردة الرئيسية.
ويبدو رأس البنكرياس وكأنه مدفوع إلى الأمعاء الدقيقة، وتمر من خلاله القناة الصفراوية التي تربط بين الكبد والأمعاء الدقيقة. ويقع جسم البنكرياس في مواجهة الشريان الأورطي، بينما يبدو الذيل وكأنه مخترق للطحال والكلى اليسرى.
من الناحية الوظيفية، يعتبر البنكرياس غدة في الجسم تنتج إفرازات، ولكنه غدة غير عادية تؤدي وظيفة مزدوجة حيث تنتج سوائل وإنزيمات هضمية تفرز في الأمعاء الدقيقة، وأنسولين وهرمونات أخرى يفرزها في الدم مباشرة.
ويوضح الدكتور ماثيو كولك، الطبيب في معهد دانا - فرابر للسرطان التابع لجامعة هارفارد في بوسطن المتخصص في أورام الغدد الصماء العصبية في البنكرياس، في حوار أجري معه، أن سرطان البنكرياس كان عادة ما يظهر في هذا السياق: حيث النوع المنتشر الذي يصيب الخلايا المنتجة للعصارة الهضمية، وأورام الغدد الصماء العصبية التي تصيب خلايا الجزر المسؤولة عن إفراز الأنسولين والهرمونات الأخرى. ولكن ما زال هذا هو السائد، على الرغم من أن الدكتور كولك يقول إن هناك أدلة على تغير ذلك، حيث ربما ينشأ النوعان من الخلايا الجذعية.
عوامل غير معروفة
يعتبر التدخين ومرض السكري والتهاب البنكرياس من العوامل التي ربما يحتمل أن تقود إلى الإصابة بالنوع الأكثر انتشارا من سرطان البنكرياس.
ولكن لم يتم التوصل إلى شيء مشابه في حالة أورام الغدد الصماء العصبية في البنكرياس، إذ ربما حدثت بعض حالات الإصابة بهذا النوع الثاني بسبب جينات وراثية، وتحديدا تشوهات جين «مينين» (menin) المثبط للورم. ولكن تشير الأدلة الحالية إلى أن الوراثة الجينية تسبب نسبة ضئيلة للغاية من عدد حالات الإصابة (ربما تصل إلى 5%).
كما أنه من الصعب تحديد أسباب تزايد عدد حالات الإصابة بسرطان الغدد الصماء العصبية. ويتطلب التشخيص النهائي فحص جزء من النسيج. وفي الماضي لم تكن مثل تلك الفحوصات تجرى كما هي اليوم، لذلك ربما اعتبرت بعض حالات الإصابة بهذا النوع من الأورام إصابة بسرطان البنكرياس من الأنواع الأخرى.
من جانب آخر، يزداد انتشار الاكتشاف العرضي من خلال الأشعة المقطعية (لجميع أنواع السرطان، وليس فقط أورام الغدد الصماء العصبية)، كما في حالة جوبز، لذلك ربما تكون قدرة رصد المرض في عصر الصورة الطبية ذات الكفاءة العالية سببا لزيادة أعداد الحالات المعلنة. ولكن لا يمكن استبعاد إمكانية أن تكون الزيادة حقيقية.
استئصال الورم
من الممكن أن تجرى عملية جراحية لاستئصال ورم الغدد الصماء العصبية في البنكرياس. وفي الغالب يترك ما يكفي من خلايا الجزر التي تفرز الأنسولين حتى لا يصاب المريض بمرض السكري.
وربما تشير الأورام كبيرة الحجم إلى أن السرطان انتشر إلى خارج البنكرياس، ولكن الوضع ليس على هذا النحو دائما. ويقول الدكتور كولك عن إحدى الحالات: «نصحنا باستئصال ورم كبير حجمه 10 سنتيمترات، ولم يكن منتشرا في الجسم، وتحسنت حالة المريض».
وفي العموم لا تجرى عملية الاستئصال إذا كان السرطان قد تفشى بالفعل خارج البنكرياس، لأن العملية قد لا تحقق سوى القليل من أجل تحويل مسار المرض.
تردد الكثير عن تأجيل جوبز إجراء الجراحة لمدة تسعة أشهر حيث كان يتلقى علاجا بديلا ويطبق نظاما غذائيا نباتيا صارما (كان جوبز يطبق بين حين وآخر أنظمة نباتية قائمة على تناول الخضراوات والفاكهة). ولكن يتطلب الحكم على ما إذا كان هذا التأخير له أثر كبير معرفة مزيد من التفاصيل عن حالته.
ويمكن أن يكون السرطان قد انتشر بالفعل إلى خارج البنكرياس في الوقت الذي تم فيه تشخيص حالته، حينها لم يكن توقيت إجراء العملية سيحقق نتيجة كبيرة.
ترويض الهرمونات
يولد ما بين 10 إلى 30% من أورام الغدد الصماء العصبية زيادة في إفراز الأنسولين أو الهرمونات الأخرى وفقا لنوع خلايا الجزر البنكرياسية المتسببة في الزيادة، فإذا تم إفراز كمية أكبر بكثير من الأنسولين من الممكن أن ينخفض مستوى السكر في الدم.
ومن الممكن أن تؤدي زيادة هرمون غاسترين (gastrin)، الذي يعمل على تحفيز المعدة، إلى قرحة في المعدة. ويمكن أن تؤدي زيادة هرمون غلوكاغون (glucagons) إلى ارتفاع مستوى السكر في الدم.
وفي الماضي كان المرضى الذين يعانون من أورام الغدد الصماء العصبية يتوفون بسبب زيادة إفرازات تلك الهرمونات، وليس بسبب الورم في حد ذاته. ولكن ظهرت الآن فئة من العقاقير التي تسمى «نظائر سوماتوستاتين» (somatostatin analogs) التي يمكن استخدامها من أجل التحكم بفاعلية في إفراز الهرمونات. وربما تساعد أيضا تلك العقاقير على إبطاء نمو الأورام ذاتها.
أورام الغدد في البنكرياس
عندما تنتشر أورام الغدد الصماء العصبية في البنكرياس فإن أول عضو تذهب إليه هو الكبد. وبناء على موقع وحجم الورم يصبح من الممكن استئصاله جراحيا. وإذا لم تكن الجراحة ممكنة يخضع المرضى لتدخل غير جراحي يتم فيه سد أحد الشرايين الرئيسية المغذية للكبد. ولكن الورم لا يذهب، بل سيضمر نتيجة لتوقف ضخ الدم إليه.
بعد أن انتشر السرطان إلى الكبد خضع جوبز لعملية زراعة كبد في عام 2009. ويصف الدكتور كولك عمليات زراعة الكبد التي تجرى لمرضى أورام الغدد الصماء العصبية بأنها ما زالت «استكشافية».
ويشير إلى أن زراعة الكبد لا تمنع الورم من التكون مرة أخرى، سواء في الكبد الجديد أو في أي مكان آخر في الجسم. وبالطبع، ومن المؤسف أن السرطان عاد من جديد ليصيب جوبز.
ووفقا لقصة حياته، كان كبد جوبز أصيب بالسرطان بالكامل عندما تم استئصاله، مما يعني أنه ربما انتشر بالفعل خارج البنكرياس وخارج الكبد أيضا. ويذكر الكتاب أيضا أن الأطباء شاهدوا بقعا في غشائه البريتوني، الذي يبطن تجويف البطن.
تفكير علاجي «مختلف»
من الممكن أن يستخدم العلاج الكيميائي التقليدي، الذي يهاجم الورم عن طريق إحداث خلل في الخلايا المتكاثرة والقضاء عليها، في علاج ورم الغدد الصماء العصبية في البنكرياس بعد انتشاره.
ويستمر هذا العلاج مع المرضى طوال حياتهم، ولكنه لا يقضي على السرطان، وربما تكون الأعراض الجانبية للعلاج الكيميائي (مثل الغثيان وسقوط الشعر وإمكانية حدوث مشكلات في الكلى) الناتجة عن تلقي «استربتوزوسين» (streptozocin)، أحد تلك الأدوية المستخدمة لعلاج سرطان الغدد الصماء العصبية في البنكرياس قاسية بصورة خاصة.
وكان الدكتور كولك، الذي قاد فريق الأبحاث التي أجريت في السابق على سونيتينيب، قد صرح بأن هذا العقار ومعه إفيروليموس يثيران الاهتمام كبديلين للعلاج الكيميائي الذي يعد الوسيلة الرئيسية منذ بداية التسعينات.
ومثل إيماتينيب imatinib (غليفيك Gleevec)، أول عقار في هذه الموجة الجديدة من الأدوية ذات الهدف المحدد، يثبط سونيتينيب إنزيم تيروزين كيناز (tyrosine kinase) الذي يؤدي دورا مهما في سلسلة من التفاعلات الكيميائية التي تؤدي إلى تكاثر وانتشار الخلايا السرطانية. في المقابل، يثبط إيفروليموس إنزيما مختلفا وهو إم تور (mTOR)، الذي يؤدي إلى سلسلة من العمليات المختلفة.
ولكن الفكرة الأساسية في الاستهداف على مستوى الجزيئات في الخلايا السرطانية واحدة. ربما يكون جوبز، الذي كان شغوفا بفكرة التصميم، قد أعجب بالتصميم الدقيق لهذين العقارين.
لم تكن النتائج التي حققها كل سونتينيب وإيفروليموس في علاج سرطان الغدد الصماء العصبية مقاربة لتلك التي حققها إيماتينيب في علاج ابيضاض الدم النقوي المزمن (أحد أنواع اللوكيميا، سرطان الدم النادرة).
ولكنّ هذين العقارين أظهرا أنهما يقللان نمو ورم الغدد الصماء العصبية المنتشرة إلى النصف. وتوجد أعراض جانبية لاستخدام سونتينيب وإيفروليموس، من بينها ارتفاع ضغط الدم وانخفاض عدد خلايا الدم البيضاء التي تقاوم العدوى، ولكنها قبل أي شيء أقل خطورة من الأعراض الجانبية للعلاج الكيميائي.
وأحيانا تضع أنواع السرطان غير المعتادة مثل سرطان الغدد الصماء العصبية في البنكرياس المرضى، وأطباءهم، في مكان مجهول، لا توجد فيه سوى قلة من وسائل العلاج المؤكدة.
ويحاول المرضى وأطباؤهم وسائل العلاج الكيميائي المستخدمة لعلاج الأورام الأكثر انتشارا ويأملون في تحقيق أفضل نتائج. ولكن، كما يقول الدكتور كولك، ربما تنقلب الطاولة في هذا العصر الجديد من العقاقير محددة الهدف، حيث تزداد إمكانية علاج أنواع السرطان غير المنتشرة، ويتم تطبيق الدروس المستفادة من معالجة تلك الأنواع النادرة على الأنواع الأكثر انتشارا.