البامية «العراقية» .. طبق يتربع على عرش المأكولات الفخمة

البامية «العراقية» .. أكلة الأغنياء والميسورين
البامية «العراقية» .. أكلة الأغنياء والميسورين

ما إن تذكر أكلة «البامية» حتى تذكر بعدها كلمة العراقية، لتميز الشعب العراقي عن باقي الشعوب التي تطبخها، فهي أكلة حافظت على طقوسها وطرق إعدادها الفخمة بما تحويه من مواد أولية تمتاز بارتفاع أسعارها، وموسم طبخها، وطريقة تقديمها، وصفت بأكلة الأغنياء، وسيدة المائدة كونها المادة الرئيسية بين جميع الأطباق، وهي المعيار الذي يستند له الآخرون للحكم على شطارة ربة المنزل في الطبخ، فيقال إن من تعرف طبخ البامية هي «ست بيت» بامتياز.


والعراقيون من الشعوب التي تتمحور حياتها حول الموائد.

فمناسباتهم السعيدة منها والحزينة تعني التجمع حول مائدة الطعام، كجزء من الضيافة والتقاليد التي اعتادوا عليها، كما أن المطبخ البغدادي العراقي من أكثر المطابخ تنوعا وغنى في العالم، كذلك دسامة الأكلات التي يقدمها وتصدرها المائدة، واحترام موسمية كل طبخة بحسب مواعيدها التي تترافق عادة مع مناسبات الأفراح أو الأحزان أو ممارسة الشعائر الدينية أو مناسبات الأفراح.

والمجتمع العراقي يولع بشكل عام بتناول البامية كغذاء ويشتهيها أينما حل فهي تؤلف ظاهرة اجتماعية مهمة بالنسبة إلى غذائه وتشمل مقوماتها المادية بنى ثانوية متعددة منها المعومات الغذائية وهي الدهن، اللحم، خضار البامية، الثوم، الطماطم، الحامض، كما تضم مقومات غذائية لاحقة أو اختيارية منها الملح، الماء، الفلفل، السكر، التمر هندي، فضلا عن مقومات عملية الطبخ وهي القدر، الطباخ، أدوات تقديم الطعام، وبالإمكان تسطير المقومات المادية لمختلف العمليات المكملة الأخرى، كتقديم الطعام وما يحتاج إليه من صحون وأدوات المائدة وأدوات النقل.

المعماري العراقي رفعت الجادرجي تناول في كتابه «الأكلات العراقية» أكلة البامية بشيء من التفصيل، وتعرض إلى تقليد تناولها شعبيا إذ يعتقد أن البامية تتناول حصرا عند العراقيين، حتى وردت في أمثلتهم الشعبية بصيغة «على اللسان بلابل، وبالمعدة قنابل» كونها تنتج الريح، ووصف بها المغرور المنفوخ اختيالا «منفوخ من البامية». 

ومما يذكر في هذا السياق أن الطبقة العليا في بعض أزمنة العصر العباسي نفرت من البامية واعتبرتها طعاما غير مستحب، كونها أكلة العامة، كما أن متذوقي البامية ليسوا حصرا على العراق، فهم ينتشرون في مجتمعات شتى منها الدول المجاورة أو مصر وشمال أفريقيا وتسمى لديهم «كناوية أو ملوخية»، ويتذوقها أفارقة جنوب الصحراء في مالي والنيجر ونيجيريا، ويفضلها أهل البلقان، ففي رومانيا ويوغسلافيا تعتبر من أرقى الأطعمة (الديليكاتيس) وتقدم في المناسبات الخاصة، مخلوطة مع غيرها من الخضراوات، وليس وحدها.

أكلة البامية مفيدة كوجبة طعام رئيسية، وتحمل مميزات لا تحملها أكلة غيرها، مثل أنها تصير أطيب طعما إذا أكلت في اليوم التالي لطبخها، لذا يضرب المثل بالبامية «البايتة» (التي مضى على طبخها يوم واحد أو أكثر) مع أرغفة الخبز الساخنة.

وقد ربط المجتمع العراقي هويته على قدر تعلق الأمر بالناحية الغذائية مع تناول وجبة البامية شأنه بذلك شأن مجتمعات أخرى ربطت هوياتها مع وجبات معينة كالملوخية عند المصري والمعكرونة عند الإيطالي والشاورمة عند اللبناني ولحمة البقر المشوية عند الإنجليزي.

أما عن طريقة طبخ البامية فهي طريقة سهلة لمن زاولها قبلا، لكنها صعبة على من يحاول طبخها للمرة الأولى، وعادة ما يخطئ فيها لكن تكرار المحاولة يعطي نتائج أفضل، وتتلخص طريقة طبخها بسلق البامية على حدة وكذلك قطع لحم الغنم (الضاني)، وإضافة الثوم إليه ثم معجون الطماطم وعصير الليمون والملح حسب الرغبة، وخلط المكونات معًا، ويطبخ مع مرق البامية الرز الأبيض، وهناك من يزيد من مرق البامية ليتم نقع قطع الخبز فيها وتسمى «تشريب البامية» وهي تشبه أكلة «الدليمية» وعادة ما تؤكل مع شرائح البصل الحلو والطازج.

وتفضل الكثير من العائلات البامية المقطوع عنها رأسها ونهاية ذيلها، وهي طازجة، فيما البعض يفضلها مع الرأس، ويستغني عن الطازجة منها بما هو موجود في الأسواق من أنواع مجمدة، وهناك من يحرص على خزن كميات منها بطريقة التجفيف أو التجميد لتكون في متناول اليد طيلة الموسم.

وتقول المصادر التاريخية إن البشر عرف البامية منذ القدم وفي العصرين الإغريقي والروماني اللذين مرا على مصر زرعت البامية ووجدت صور منحوتة لها على معابد فرعونية وهي تتوطن في المناطق الحارة عمومًا في أفريقيا وآسيا. 

نشأت البامية في أفريقيا الاستوائية وبدأت زراعتها في الشرق الأوسط والهند منذ فترة طويلة، وفي القرن التاسع عشر الميلادي شوهدت نباتات البامية البرية على ضفاف النيل الأبيض في السودان. هذا وقد تم إدخال البامية للمرة الأولى إلى أوروبا بواسطة فاتحي الأندلس المسلمين.

وتمتاز البامية بأنها ملينة للمعدة وتحارب الإمساك في الغالب إلا أنها تسبب - لبعض الأشخاص - تعبًا في معدتهم وقيئًا وتعالج بخلطها بنباتات أخرى أقل غروية منها، وتطبخ البامية بعدة طرق وتعلب أو تجفف، وهناك من يفضلها كنوع من المقبلات بعد إضافة الزيت لها من دون اللحم.

والبامية مرق له خصوصية تعزف معها المطاعم في بغداد عن طبخها وتوفيرها للزبائن كما هو الحال مع بقية الأكلات أو أنواع المرق التي يقدمها بسبب كون حبات البامية فيها تتعرض للتفتت في القدر بتكرار مرات تسخينها وعندها لا يصح تقديمها، لذلك تحاول بعض المطاعم الابتعاد عن طبخها بشكل يومي.

وعادة ما تفضل العائلات المترفة زيادة كميات اللحم الضاني فيها كدليل على الترف، وهناك من يحرص على طبخ الرز بطريقة «الحكاكة» الثقيلة أسفل قدر الرز، وذلك يستعدي إضافة مزيد من الزيت في أسفل القدر وترك الرز على النار حتى يصفر الرز ويصبح بسماكة معينة، تقلب على صحن الرز ويكون طعمها شهيا للغاية رغم دسامتها، وهناك من يفضل نوعًا مميزًا من الرز له نكهة مميزة، يسمى برز العنبر. وهو يمتاز برائحته الزكية وطعمه اللذيذ.

الجميل أن العراقيين الذين هاجروا إلى الخارج نقلوا معهم أكلة البامية بطقوسها العراقية ليصبح لهذا الطبق حضوره على موائدهم في الخارج، يحرصون عليه كنوع من استذكار بلادهم والحنين إلى أكلاتها المميزة وتعريف الأجانب بها.