«بلاس فاندوم» تتنفس أحجارا ولؤلؤا

اليوم الأخير من أسبوع باريس للـ«هوت كوتير» يحكي ملاحم طبيعية بتقنيات عالية
اليوم الأخير من أسبوع باريس للـ«هوت كوتير» يحكي ملاحم طبيعية بتقنيات عالية

منذ عامين، أصبح اليوم الأخير من أسبوع الموضة الراقية الباريسية من نصيب بيوت المجوهرات. والسبب الأساسي يعود إلى أن أسبوع الموضة تقلص بشكل كبير بعد أن تقلص عدد المشاركين فيه، إما بتقاعد بعضهم أو إفلاس بعضهم، أو موت بعضهم الآخر، مما استدعى تدخلا من قبل فيدرالية الموضة الفرنسية أثمر هذه الخطوة، التي تم الترحيب بها من كل الأطراف.


ففي هذا اليوم تتحول «بلاس فاندوم» إلى خلية نحل تعج بالحركة والحماس، إذ تعمل بيوت المجوهرات جهدها للاستفادة من تواجد زبونات «هوت كوتير» ووسائل الإعلام على حد سواء في العاصمة الفرنسية، فتعمل على استقطابهم ببريق المعادن أحيانا ومذاق حلوى «لاديري» أحيانا أخرى، بينما يقول لسان حال الكل في هذا اليوم، إن ما تم تقديمه من تحف فنية على منصات الأزياء لا يكفي ويحتاج إلى ما يكمله بالأحجار الكريمة والذهب والبلاتين.

الخلاصة التي يخرج بها الزائر من جولته في هذه الساحة العريقة، أن كلا من «ديور» و«شوميه» و«بوشرون» و«فان كليف آند أربلز» و«شانيل» تدور في فلكين محددين، الأول هو الاعتماد على التقنيات العالية، والثاني الاستلهام من الطبيعة.

صحيح إنها مجوهرات راقية، وهذا يعني أنها صنعت باليد مثلها مثل الأزياء التي تستغرق أسابيع وشهورا لتنفيذها وتطريزها بخيوط من ذهب، فإن هذا لا يعني أنها لا تعترف بجانب التكنولوجيا الحديثة، بل العكس، فهذه التكنولوجيا أصبحت لا بد منها لدخول العصر، ولو لرسم أشكال هندسية حتى تحقق ما تعجز أمهر الأنامل على تحقيقه.

أما بالنسبة للطبيعة، فهي ليست موضوعا جديدا في عالم المجوهرات الراقية، فقد ظهرت في العام الماضي بشكل مكثف في كل هذه البيوت، إلا أن العودة إليها كانت شبه ضرورية لأن المصممين لم يستنفدوا كل أفكارهم فيها.

فهي تتيح لهم فرصا كبيرة للغرف من الأساطير وقصصا تداعب الخيال، فضلا عن الأشكال الضخمة التي يسهل صياغتها بشكل تبدو معه وكأنها متفتحة أو متحركة، سواء كانت على شكل باقات ورد رومانسية أو حيوانات لها جذور في الموروث الثقافي.

ففي دار «بوشرون» مثلا كانت الأفاعي هي البطلة، حيث تلوت إما على شكل قلادات أو أساور تزين المعصم أو الذراع، بألوان الزمرد والتزافوريت واللعل الأخضر، بينما تجلت التقنية العالية في ظهور ألسنتها التي تتحرك بطريقة يمكن التحكم فيها بدبوس صغير لا تراه العين.

بضغطة واحدة يظهر لسانها أو يختفي. إلى جانب الأفاعي، لعبت الفيلة والجمال والغزلان والضفادع والقرود والعصافير أدوارا مهمة في مجموعة خواتم درامية ورائعة.

في مقر «شوميه» اختلف الأبطال، وبقيت القصة واحدة، وهي عالم الكائنات الحية والبرية. فالنحلة، بكل ما تحمله من حظ وسعد، كانت هي البطلة هنا، الأمر الذي لم يكن جديدا، إذ إن الدار تعود إليها دائما، وتتفاءل بها منذ أن قدمتها لنابليون بونابرت أول مرة منذ قرون.

في تشكيلتها الجديدة، تبدو «شوميه» وكأنها تريد أن تمص كل رحيقها وعسلها، مما يفسر إسهابها في طرحها ضمن قوالب شهدها. «شوميه» مثل «بوشرون» تقتنع بأن التصاميم الحديثة يجب أن تكون بها حركة، لهذا طرحت مجموعة، من ضمنها تاج أنيق تتوسطه نحلة، يمكن تحريكها واستعمالها كدبوس على فستان أسود ناعم، مثلا.

وهكذا، وبحركة واحدة، يمكن أن يتحول التاج إلى طوق بسيط، حتى تكون الاستفادة والتنوع أكبر. وقد تكررت فكرة القطعة الواحدة ذات الاستعمالات المختلفة في هذه التشكيلة لتعطي المرأة ما تشتهيه نفسها، وما تتطلبه المناسبات الكثيرة التي ستحضرها قريبا.

في دار «شانيل» لفتت التشكيلة المستوحاة من رحلات وأسفار الآنسة كوكو شانيل، الخيالية، الأنظار بدرامية أشكالها وتوهج ألوان بعض الأماكن الشرقية البعيدة التي توجهت إليها، مثل تركيا وطشقند وكازاخستان وغيرها.

وكان التأثير البيزنطي واضحا عليها، وكأنها تلقي بتحية دافئة للتشكيلة التي قدمها كارل لاغرفيلد، مصمم الدار، منذ أشهر قليلة محتفلا بها كما كل سنة، بالفنون الحرفية «Metiers d’Art» والأنامل الناعمة التي تسهر على إنجازها. لكن إذا كان كارل لاغرفيلد يفهم في الأقمشة التي ينسج لنا منها دائما قطعا حالمة، فإن فريق جانب المجوهرات الراقية يفهم في المعادن والأحجار ويصوغ لنا قطعا لا تقل حلما.

«شانيل» أطلقت على هذه التشكيلة من المجوهرات «أسرار الشرق» وشملت قلادات وكأنها فسيفساء مرصعة بالأحجار المتنوعة، بينما أخذ خاتم كوكتيل شكل قبة ضخمة تكاد تغطي نصف الإصبع.

قوة هذه المجموعة كادت تغطي على المجموعة الكلاسيكية التي تحمل لمسات كوكو شانيل، والتي تعود فيها الدار دوما إلى زهرة الكاميليا لصياغتها بشكل جديد يتوافق مع متطلبات العصر وزبوناته الشابات.

الكاميليا هذه المرة صيغت بتقنية عالية جعلت بروشا مشبكا يبدو وكأنه قطعة مصنوعة من الدانتيل تتوسطه لؤلؤة ضخمة ومطرز بالكامل بالماس تكمله أقراط أذن وخواتم.

في محل «ديور» للمجوهرات الراقية، كانت الأجواء مختلفة، فمحلها جديد تم افتتاحه قريبا بعد أن غيرت ديكوراتها وألوانها. فعلى طول الجدران الرمادية، لون الدار المفضل، تناثرت «بيوت دمى» صغيرة، لتحتضن قطعا تبدو وكأنها باقات ورد مشكلة بشتى الألوان والأحجار بعضها مربوط بفيونكة من أحجار، وتحكي كل واحدة منها قصة مثيرة أو أسطورة بعيدة لتدغدغ الخيال.

في محل «فان كليف آند أربلز» انتهت هذه الملحمة الطبيعية الحافلة بقصة يمكن أن تلخص لماذا قبلت الفيدرالية الفرنسية للموضة إدخال دور المجوهرات في برنامجها الرسمي؛ فالعلاقة هنا بين آل «هوت كوتير» والـ«هوت غاليري» واضحة، من خلال قلادة على شكل سحاب يمكن أن تكمل أي فستان.

«فان كليف آند أربلز» كانت الاستثناء الوحيد في هذه الجولة من حيث عدم طرحها كائنات برية، واحتفلت في المقابل بتحفتها «هاته» بطرحها أربع نسخ جديدة منها، كل واحدة بأنواع مختلفة من الأحجار والألوان.

قلادات أو أساور، حسب طولها، تعمل بتقنية تقوم بوظيفة سحاب عندما تقفل، أو تظهر كقلادة عند فتحها. ومما لا شك فيه أن اختلاف خاماتها وألوانها، إلى جانب حرفيتها وفكرتها، يجعلانها تحفة في تاريخ صناعة المجوهرات الراقية والمعقدة، وكان الفضل في إدخالها إلى هذا المجال رينيه بويسون، ابنة استيل أربلز، وألفريد فان كليف، مؤسسا الدار في 1906، مع العلم بأن القصة لا تقل إثارة عن القلادة.

فهي تعود إلى عام 1939، عندما طلبت زبونة غير معروفة آنذاك هذا الشكل من رينيه، إلا أن التقنيات لم تكن متطورة بالقدر الكافي، وبالتالي لم يأخذ السحاب المجوهر هذا شكله النهائي إلا في عام 1951، بعد أن نسيت الزبونة أمره تماما.

لم تكن هذه الزبونة سوى واليس سيمسبون التي أصبحت دوقة ويندسور فيما بعد، وكانت قد طلبته لكي يصبح جزءا من فستان كانت المصممة الإيطالية إلسا شياباريلي، قد صممته لها خصيصا، وكانت هي من اقترحت على واليس سيمبسون فكرة السحاب المجوهر. وهكذا يعود الفضل لها في طرح الفكرة حتى وإن لم تتوفق في الحصول عليه.

تجدر الإشارة إلى أن إلسا سياباريلي كانت من أشد المنافسات لكوكو شانيل في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، وكانت معروفة بتوجهاتها السريالية وجنوحها نحو الفن، ومن حسن حظ كل عشاق التحف الفنية المميزة، أن «فان كليف آند أربلز» تنوي عرض هذا السحاب المجوهر في متحف «كوبر هيويت» في نيويورك في الـ18 من الشهر الحالي.