«جين مثير للذعر» .. يعزز مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية
تعمق أمراض المسالك البولية والالتهاب الرئوي والأمراض الأخرى الشائعة، الناجمة عن ميكروبات تحمل جينا جديدا قادرا على تدمير نوع متقدم من المضادات الحيوية، المخاوف من ظهور جيل جديد مما يطلق عليه جراثيم خارقة.
وهذا النوع المتقدم من المضادات الحيوية المسمى الكاربابينيمات carbopenems يستخدم كحل أخير لإنقاذ المصابين الذين لا تستطيع المضادات الحيوية المعهودة إنقاذهم.
وقد تم التعرف على الجين، «إن دي إم - 1» NDM - 1، الذي يبدو منتشرا في أنحاء من الهند، في أجسام ثلاثة مرضى أميركيين فقط، تلقوا جميعا علاجا طبيا في الهند واستعادوا عافيتهم. إلا أن قدرة هذا الجين على التأثير على الأنواع المختلفة من البكتيريا وجعلها مقاومة للكثير من العقاقير تشكل تطورا مثيرا للقلق في الحرب ضد الأمراض المعدية، التي بإمكانها التحور، لهزيمة ترسانة المضادات الحيوية التي يحظى بها الإنسان.
بكتيريا متفوقة
في هذا الصدد، قال براد سبيلبرغ، الإخصائي بمجال الأمراض المعدية في «معهد لوس أنجليس للأبحاث الطبية الحيوية» التابع لجامعة كاليفورنيا بلوس أنجليس، ومؤلف كتاب «الطاعون الصاعد» (ذي رايزينغ بليغ) الذي يتناول مقاومة المضادات الحيوية: «إن الأمر أشبه بأن تمسك ببكتيريا شائعة للغاية تعيش داخل كل فرد منا ويمكنها الانتقال من فرد لآخر، ثم تضع داخلها بعض أقوى الآليات المقاومة للمضادات الحيوية على الإطلاق».
ويبدو أن البكتيريا، التي تضم بعض السلالات التي لم ترصد سابقا من بكتيريا «إي. كولاي» وكائنات ممرضة أخرى شائعة، قد تطورت داخل الهند؛ حيث تجتمع رداءة الظروف المتعلقة بالصحة العامة مع مضادات حيوية رخيصة ومتوافرة على نطاق واسع ليتمخض الأمر عن بيئة خصبة لإفراز كائنات دقيقة جديدة.
بعد ذلك، جرى نقل العدوى إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وعدة دول أخرى، غالبا عبر ما يعرف بـ«السياحة العلاجية» التي يسعى في إطارها أجانب لخوض عمليات جراحية بتكلفة أقل في الخارج.
من جانبه، أكد أرجورن سرينينفاسان، إخصائي علم الأوبئة بـ«مركز السيطرة والوقاية من الأمراض» الذي يعكف على مراقبة انتشار الميكروبات، قائلا: «إننا بحاجة لالتزام الحيطة حيال هذا الأمر، لا ينبغي أن يتحول هذا الأمر إلى دعوة تثير الذعر، وإنما ينبغي أن يشكل دعوة للعمل. هناك عدد من الاستراتيجيات الفاعلة التي بإمكاننا اتخاذها للوقاية من انتشار هذه الكائنات الدقيقة».
ويخشى الخبراء أن تحذو الميكروبات حذو الجرثومات الأخرى المقاومة للكثير من العقاقير وتتحول إلى مصدر عذاب شائع داخل المراكز الطبية، بل وربما حتى في أوساط الأصحاء.
جين مقاوم
وأعرب ستيورات ليفي، بروفسور علم الأحياء الجزيئية بكلية الطب في جامعة تفتس، ورئيس «تحالف الاستخدام الحكيم للمضادات الحيوية»، عن اعتقاده أن «هذا الوضع يعتبر مثالا حادا يظهر كيف يمكن للبكتيريا التفوق على ذكاء البشر».
الملاحظ أنه حتى الآن لم يقفز الجين شديد المقاومة إلى داخل الجراثيم المنتشرة عبر السعال أو العطس، ولم ينقل المرضى الأميركيون الثلاثة سالفو الذكر العدوى لأي فرد آخر.
إلا أن الميكروبات بإمكانها الانتشار بسهولة عبر سبل أخرى شائعة، بينها قنوات الصرف الصحي والمياه والمعدات الطبية الملوثة وعدم مراعاة قواعد الصحة الشخصية، مثل عدم تنظيف الأيدي بصورة مناسبة. ورغم أن الكثير من المرضى يتعافون في نهاية الأمر، فإنه يبقى من غير الواضح تحديد عدد المتوفين ومعدل الوفيات.
الواضح أن منشأ الميكروبات يحمل حساسية سياسية؛ حيث أدانت الحكومة الهندية التقارير القائلة إن الجراثيم نشأت داخل البلاد، متهمة شركات دوائية غربية وجهات أخرى باختلاق الأمر للإضرار بصناعة السياحة العلاجية المزدهرة في الهند، التي تجتذب سنويا أكثر من 450 ألف مريض سنويا وبمقدورها تحقيق عائدات سنوية تقدر بـ2.4 مليار دولار بحلول عام 2012، طبقا لبعض التقديرات.
في هذا السياق، أعلن غلام نابي آزاد، وزير الصحة الهندي، أنه «يقولون إنه تم العثور على البكتيريا في مرضى زاروا الهند وباكستان، لكن لم يرد ذكر مطلقا لمسألة ما إذا كانت هذه البكتيريا قد عثر عليها بأجسامهم حتى من قبل أن يزوروا الهند».
يحمل الجين المقاوم اسم «إن دي إم - 1» الذي يشير الحرفان الأولان فيه إلى مدينة نيودلهي؛ نظرا لأنه تم التعرف عليه للمرة الأولى عام 2008 في بكتيريا لدى مريض سويدي تلقى علاجا بأحد مستشفيات نيودلهي. ويفرز الجين إنزيما يدمر معظم المضادات الحيوية، بما في ذلك ما يطلق عليه كاربابينيمات carbopenems، التي عادة ما تستخدم في خضم المحاولات الأخيرة لإنقاذ المرضى الذين تفشل الأمراض الذين يعانونها في الاستجابة للمضادات الحيوية العادية.
واعترف ريتشارد وينزيل، الإخصائي بمجال الأمراض المعدية بجامعة فيرجينيا كومنولث والرئيس السابق لـ«الجمعية الدولية للأمراض المعدية»، قائلا: «إن المضادات الحيوية التي بحوزتنا آخذة في النفاد، وهو أمر قد يثير قلقا عارما».
يذكر أن المريض السويدي أصيب ببكتيريا تدعى «كليبسييلا بنومونياي»، وهي من المسببات الشائعة للالتهاب الرئوي وأمراض أخرى كثيرة.
كما عثر على الجين في بكتيريا «إي. كولاي» في جسد المريض. وتنتشر هذه البكتيريا على نطاق واسع. وفي الوقت الذي غالبا ما تحمل الأجسام هذه البكتيريا من دون أن يصيبها ضرر، فإنها قد تثير مجموعة من المشكلات الصحية، بينها أمراض في المسالك البولية والجهاز الهضمي. كما تم التعرف على وجود الجين في أكثر من 6 أنواع من البكتيريا، بينها السلمونيلا.
وأوضح روبرت بونومو، البروفسور بجامعة كيس ويسترن ريزرف، أن «الاختلاف المتعلق بـ(إن دي إم) يكمن في أن خلفيته الجينية شديدة التنوع؛ حيث يوجد في الكثير من الكائنات الحية المختلفة.
في يونيو، أشار «مركز السيطرة والوقاية من الأمراض» إلى ظهور أول ثلاث حالات من الإصابة بـ«إن دي إم - 1» داخل الولايات المتحدة، ونصح الأطباء بمراقبة هذا الجين، وحددوا عددا من الخطوات الاحترازية لمحاولة منع الجراثيم من الانتشار، بما في ذلك عزل المرضى المصابين. والواضح أن المرضى الثلاثة، الذين جرى علاجهم في إلينوي وماساشوستس وكاليفورنيا بين يناير (كانون الثاني) ويونيو (حزيران)، تعرضوا جميعا لمتاعب في المسالك البولية أثناء تلقيهم رعاية صحية في الهند. وقد دخل أحدهم المستشفى إثر تعرضه لحادثة مرورية.
وأشار فريق دولي من الباحثين في أغسطس (آب) بدورية «لانست للأمراض المعدية» إلى أن الجين ليس مقصورا على المرضى الذين احتجزوا في مستشفيات داخل الهند، وإنما عثر عليه بصورة شائعة داخل كل من الهند وباكستان.
إضافة إلى ذلك، جرى نقل هذه البكتيريا على أيدي زائرين بريطانيين عادوا إلى وطنهم، كان بعضهم قد جاء خصيصا للخضوع إلى عمليات جراحية. وقد أبدت غالبية حالات العدوى مقاومة لأي مضادات حيوية فيما عدا «تيغيسيكلين» و«كوليستين». وحتى هذه المضادات الحيوية، أبدت بعض حالات الإصابة مقاومة لها. ورغم أن غالبية المرضى استعادوا عافيتهم، فإن البعض توفي.
من ناحيته، قال تيموثي آر. والش، بروفسور علم الأحياء الدقيقة ومقاومة المضادات الحيوية بجامعة كارديف داخل المملكة المتحدة، والذي ساعد في اكتشاف الجين: «ما عايناه يكاد يكون من المؤكد أنه قمة جبل الجليد. بالنسبة لكل فرد داخل المستشفى، يمكنك أن تتخيل وجود غالبية عظمى من الأفراد هناك يحملون (إن دي إم). إنه أشبه بوضع كامن».
أثار التقرير الصادر في أغسطس موجة من الاهتمام بشأن الجراثيم، وكذلك مناقشة مكثفة للمشكلة خلال اجتماع علمي استضافته بوسطن الشهر الماضي. وجرى الآن الإبلاغ عن ظهور حالات في أستراليا وكندا وألمانيا وفرنسا وهولندا والنمسا وهونغ كونغ واليابان وسنغافورة وتايوان وعمان وكينيا، حسبما ذكر والش. وأضاف: «هذا هو الأمر المخيف. يبدو أنه ينتشر سريعا».
جراثيم مختلفة
وقد لاحظ الخبراء أن الجراثيم مختلفة للغاية عن الميكروبات الأولى شديدة المقاومة.
من بين الجينات الأخرى المشابهة المقاومة للمضادات الحيوية «كليبيسييلا نيومونياي كاربابناماز»، والتي تعرف اختصارا باسم «كيه بي سي». وتخلق هذه الجينات صعوبة في التعامل مع الكائنات الدقيقة مثلما يفعل «إن دي إم - 1».
اكتشف هذا الجين للمرة الأولى في نورث كارولينا عام 2000، وتم التوصل إلى إصابات بـ«كيه بي سي» داخل 35 ولاية على الأقل، بجانب ظهوره بدول أخرى، مثل إسرائيل. وحتى الآن، تقتصر الإصابات بـ«كيه بي سي» على المستشفيات.
إلا أن خبراء يخشون من أن «إن دي إم - 1»، الذي يبدو قادرا على القفز بسهولة من نمط معين من البكتيريا لآخر، سيتنقل عبر الكثير من الكائنات الحية الأخرى نظرا لوجوده على جزء من الحامض النووي «دي إن إيه» يعرف باسم «بلاسميد» plasmid يمكنه التنقل بسهولة عبر ميكروبات مختلفة. وأكد والش أن «بلاسميد يصعب تمييزه للغاية».
وبمقدور «إن دي إم - 1» السير على نهج ما يعرف بالبكتيريا الفائقة المسماة باسم «إم آر إس إيه» methicillin - resistant Staphylococcus aureus (MRSA)، وهي عدوى في الجروح يصعب علاجها بدأت داخل المستشفيات، لكنها انتشرت الآن على نطاق واسع بين فئات مختلفة من السكان، مثل السجناء والأطفال الموجودين في دور الرعاية الصباحية والجنود ولاعبي كرة القدم بالمدارس الثانوية والمصارعين.
وقال توماس أوبريان، المتخصص في علم الجراثيم في بريغهام، الذي يساعد في اقتفاء أثر الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية داخل منظمة الصحة العالمية: «من الجيد أنه تم إدراك وجوده ورصده مبكرا، وانتبه الناس إليه. في الماضي، لم تكن تتم ملاحظة الكثير من مشكلات مقاومة المضادات الحيوية مبكرا وكانت تنتشر على نطاق واسع قبل أن يلحظها أحد».