لماذا تشتكي الفرنسيات من تمييز الرجال؟
أوضح استطلاع رأي أن ثلاثة أرباع الشعب الفرنسي يعتقدون أن الرجال يعيشون حياة أفضل من النساء، وتحتل فرنسا المركز الـ46 في التقرير الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي بشأن المساواة بين الجنسين هل يمكن أن يوجد شيء أكثر فرنسية من هذا التمرين؟ .. تحصل السيدات الفرنسيات بعد أن يضعن حملهن على دورة ممتدة على نفقة الدولة في صالة ألعاب رياضية يشرف عليها مدربون شخصيون وتستخدم خلالها أجهزة تحفيز كهربائي وألعاب كومبيوتر تضمن جعلهن رشيقات.
الهدف من هذا كما جاء على لسان متخصصة العلاج الطبيعي المسؤولة عن هذه الجلسات، أغنيس دي مارساك، «العودة سريعا إلى العلاقة الزوجية وإنجاب المزيد من الأطفال».
ينتشر العلاج المجاني في فرنسا مثله مثل دور رعاية الأطفال المجانية والإعانات السخية المقدمة للأسر والخصومات الضريبية لكل طفل والخصومات التي تحصل عليها الأسر كبيرة العدد في القطارات السريعة، ولذا فمن المتوقع أن تستعيد الأمهات اللاتي حصلن على إجازة وضع لمدة أربعة أشهر مدفوعة الأجر قوامهن السابق ويعدن إلى عملهن.
يبدو أن المرأة الفرنسية حصلت على كل شيء: أطفال كثر، ووظيفة، في أحيان كثيرة، وقوام مرغوب فيه بشدة، وذلك بفضل سخاء الدولة.
لكن ما لم تحصل عليه المرأة الفرنسية هو المساواة، حيث تحتل فرنسا المركز الـ46 في التقرير الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي بشأن المساواة بين الجنسين عام 2010، وهي بذلك تلي الولايات المتحدة وأغلب الدول الأوروبية، بل وبعد كازاخستان وجاميكا. وتمثل نسبة الفرنسيات العاملات من الفئة العمرية 25 - 49 عاما 82 في المائة، والكثير منهن يعملن لدوام كامل. ولكن يشغل الرجال 82 في المائة من عدد المقاعد في البرلمان.
ويقل ما تحصل عليه الفرنسيات من أجور عن ما يحصل عليه الرجال بنسبة 26 في المائة، بينما يمثل عدد الساعات التي يقضينها في العمل المنزلي ضعف ما يقضيه الرجال. وعلى الرغم من أن نسبة عدد الأطفال لديهن هي الأكبر في أوروبا، فإنهن أكبر مستهلكات لمضادات الاكتئاب.
وقد لخص استطلاع رأي أجراه معهد «بيو» للأبحاث وشمل 22 دولة، الأمر، حيث أوضح أن ثلاثة أرباع الشعب الفرنسي يعتقدون أن الرجال يعيشون حياة أفضل من النساء، وتعد هذه النسبة الأعلى من بين الدول التي شملها الاستطلاع.
وقالت رئيسة تحرير مجلة «إيل» الفرنسية، فاليري تورانيان: «تعاني الفرنسيات من إرهاق شديد، يحق لنا أن نفعل ما يفعله الرجال ما دمنا نرعى الأطفال ونعد العشاء اللذيذ ومظهرنا جيد.
يجب علينا أن نكون سيدات خارقات». قد يبدو محل ميلاد كل من سيمون دي بوفوار وبريجيت باردو اسكندنافيا بحسب إحصاءات التوظيف، لكنه يظل لاتينيا من جهة الموقف. يبدو أن الفرنسيات يعانين من القلق بشأن كونهن إناثا وليس لكونهن من دعاة المساواة بين الرجل والمرأة، وكثيرا ما يبدي الرجال الفرنسيون نوعا من الشهامة مثل تلك التي كانت منتشرة، ثورة عام 1789.
ومن المؤكد أن تحرير النساء الفرنسيات حدث مصادفة وأنه كان عملا غير مقصود داخل دولة تأخذ الأطفال تحت جناحها الجمهوري منذ أن يتعلموا السير، كما يبدو الهوس بالإنجاب الذي يعود جذوره إلى ثلاث حروب مدمرة.
وتقول جينيفيف فرايسي، وهي مؤلفة عدة كتب عن تاريخ النوع الاجتماعي: «ظروف الأمهات الفرنسيات أفضل مما تحلم به غيرهن، لكن لا تزال عملية التنميط موجودة»، أو كما قال الفيلسوف برنارد هنري ليفي: «فرنسا دولة قوية من منطقة الغال».
وتبلور فرنسا التناقض الذي يواجه الكثير من النساء في العالم المتقدم خلال القرن الحادي والعشرين، حيث إن لديهن حرية أكبر بشأن اتخاذ قرارات مرتبطة بالنشاط الجنسي (يباح داخل فرنسا تحديد النسل والإجهاض، بل تدعمه أيضا الحكومة في فرنسا)، وتفوقن على الرجال في التعليم ويتقدمن في سوق العمل، لكن قليلات منهن يصلن إلى قمة قطاعي التجارة والسياسة.
هناك شركة كبرى وحيدة في فرنسا تديرها امرأة، تشغل آن لاوفيرجون منصب المدير التنفيذي في الشركة العملاقة «أريفا» التي تعمل في مجال الطاقة النووية، وهي أم لطفلين.
من السهل نسبيا إنجاب الأطفال في فرنسا وهذا من أسباب وجود نساء عاملات في باريس يواكبن الموضة ولديهن أطفال.
وتعمل فلور كوهين البالغة من العمر 31 عاما والتي لديها أربعة أطفال، طبيبة بدوام كامل في مستشفى «ليفت بانك»، وحينما تراها وهي توصل أصغر بناتها إلى دار الحضانة وترتدي كعبا عاليا رفيعا وتنورة ضيقة لن يخطر ببالك أنها وضعت حملها منذ ثلاثة أشهر فقط.
وتقول كوهين إن إنجاب الطفل الرابع لم يكن «مخططا» له، موضحة أن ذلك لم يحدث تغييرا كبيرا، حيث تصطحب أربعة أطفال، بدلا من ثلاثة، إلى محطة المترو في الصباح وتوصلهم إلى المدرسة الحكومية وغرفة أطفال داخل مستشفى مدعوم من الحكومة.
وقالت مازحة إن إنجاب الأطفال ربما يعد أفضل طريقة لتخفيض الضرائب! وبغض النظر عن الدخل، يحصل الوالدان على إعانة شهرية قدرها 123 يورو (170 دولارا) للطفلين، و282 يورو لثلاثة أطفال، و158 يورو لكل طفل بعد ذلك. كذلك يتم تخفيض الضرائب المستحقة عليهما ويحصلان على مزايا أخرى، حتى إنه لم تعد هناك ضرائب مستحقة على أسرة كوهين بعد إنجاب الطفل الثالث.
تقدم الدولة الفرنسية عشر جلسات علاج مجاني مدة كل منها نصف ساعة للوقاية من سلس البول الذي قد يحدث في فترة ما بعد الوضع وسقوط الرحم، لتحسين العلاقة الزوجية. ويلي ذلك عشر جلسات من تمرينات البطن وتعد دي مارساك بي فلاج بـ«عضلات بطن مشدودة». ويبلغ متوسط عدد أطفال الفرنسيات اثنين، بينما يبلغ متوسط عدد الأطفال التي تنجبها النساء في دول الاتحاد الأوروبي 1.5.
قالت وزيرة الأسرة النشيطة والأم لثلاثة أطفال، نادين مورانو، في معرض ردها على سؤال مندوبين أجانب بشأن «المعجزة الفرنسية»: «ببساطة نحن ننفق أكثر ونقدم رعاية جيدة للأطفال. لقد أدرك بلدنا منذ وقت طويل أن بناء الدولة يحتاج إلى أطفال».
بدأت جهود تشجيع إنجاب الأطفال بعد الهزيمة على أيدي دولة ذات معدلات خصوبة أعلى وهي بروسيا عام 1870 وتلا ذلك خسائر الحرب العالمية الأولى.
ومنذ تدشين جائزة الميدالية الذهبية للأسرة الفرنسية عام 1920 لتكريم الأمهات اللاتي لديهن ثمانية أطفال أو أكثر، ارتفع الإنفاق الحكومي على السياسات الداعمة للإنجاب. وتم تخصيص 97 مليار يورو العام الماضي للأسرة ورعاية الأطفال ومزايا تحصل عليها الأمهات، ويمثل ذلك 5.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، أي ضعف متوسط النسبة داخل الاتحاد الأوروبي.
ومن الأشياء الرمزية في هذا الصدد تأتي حضانات مجانية طوال اليوم أنشئت بعد مرور مائة عام على الثورة الفرنسية، بحسب المؤرخ مايكل بيروت، لوضع حد لنفوذ الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. ويوجد في «لا فليشيه» أقدم دور الحضانة في فرنسا، وإليها يوصل الآباء أطفالهم، الذين تقترب أعمارهم من السنة الثانية، في الساعة الثامنة والنصف صباحا.
وينتهي وقت عمل الدار في الرابعة والنصف مساء، تقدم البلدية خدمة مجانية اختيارية لرعاية الأطفال حتى الساعة 6:30. ويستقبل الأطفال بداية من عمر ثلاث سنوات داخل هذا النوع من الحضانات، ويأتي إليها بالفعل 99 في المائة منهم.
واعتبرت كاتي دي بريسون، وهي أم لطفلين، تسجيل اسم ابنها آرثر في دار الحضانة «ثورة مصغرة»، وقالت إنها تستطيع العودة إلى العمل بدوام كامل دون تحمل أي تكلفة مالية لدار حضانة. وأضافت قائلة: «إنني أكثر سعادة وثقة بالنفس منذ ذلك الحين».
ونظرا إلى أن عمل الأمهات أصبح النمط السائد في المجتمع، تشعر إيزابيل نيكولاس، وهي ممرضة أصغر أبنائها تيتوان مع آرثر في الفصل نفسه وتركت العمل بعد ولادته، بضغط يدفعها إلى العودة للعمل، وتقول: «متوقع منك أن تفعل كل شيء في فرنسا».
لكن، إذا سألت أي أم إذا ما غيرت المدرسة حياة ابنها فستكون الإجابة بـ«لا». قالت مديرة المدرسة آن ليجوين: «تطلق على تلك المدارس «دار حضانة» لسبب أنه لا يزال ينظر إلى الأطفال في فرنسا باعتبارهم مسؤولية أمهاتهم».
ويحدث تغيير مهني لـ40 في المائة من الأمهات الفرنسيات خلال عام بعد الإنجاب في مقابل 6 في المائة من الرجال. ويحق للوالدين الحصول على إجازة أو تقليل عدد ساعات العمل حتى يتم الطفل الثالثة من العمر، لكن تمثل النساء نسبة 97 في المائة ممن يقومون بذلك.
وتقضي النساء خمس ساعات ودقيقة يوميا في المتوسط في رعاية الأطفال والقيام بالأعمال المنزلية، بينما يقضي الرجال ساعتين وسبع دقائق في ذلك، بحسب ما ذكره المعهد الوطني للإحصاءات والدراسات الاقتصادية.
ويعمل زوج كوهين طبيبا أيضا، لكنها هي من تغسل الأطفال الأربعة وتطهو الطعام وتقوم بالتسوق يوم السبت، لكنها تؤكد أنها تقوم بأغلب تلك الأعمال باختيارها، حيث تقول: «إن لم أعد الطعام لأطفالي، فلن أشعر بأنني أم جيدة».
وتستخف كوهين بالأمومة في العمل، ورغم أنها تتسلل إلى غرفة الأطفال التابعة للمستشفى لترضع طفلها، تحاول البقاء في العمل في المساء وقتا أطول من زملائها الرجال، وإلا «سيفترض الجميع أنني أغادر العمل بسبب أطفالي وأنني غير ملتزمة بعملي».
وعلى الرغم من أن أغلب خريجي الطب في فرنسا من النساء، فإن رؤساء الأقسام الـ11 في المستشفى الذي تعمل به من الذكور. ويقول جين فرانسوا كوبيه، القيادي البرلماني في حزب الرئيس نيكولا ساركوزي اليميني الوسط الذي يدافع عن مشروع قانون يلزم الشركات بأن تشغل النساء 40 في المائة من مقاعد مجلس الإدارة: «لطالما كان الرجال الفرنسيون متباطئين في التخلي عن السلطة».
لقد وضعت الجمهورية الفرنسية مبدأ «المساواة» ضمن المبادئ الرئيسية، لكن لم تحصل النساء على حق التصويت إلا في عام 1945. ومنذ صدور قانون يلزم الأحزاب السياسية بترشيح عدد متساو من النساء والرجال في عام 1998، تفضل الأحزاب دفع الغرامة المالية على الالتزام بالقانون.
وتراقب العيون القياديات فيما يتعلق بارتداء الملابس ذات التصميمات العالمية، حيث تتذكر الوزيرة مورانو كيف سخر منها على شاشات التلفاز بسبب ارتداء السترة نفسها أكثر من مرة، بل شبهت لاوفيرجون ملابسها بـ«درع».
لقد تم إصدار أربعة تشريعات عن المساواة في الأجور منذ عام 1972، لكن في عام 2009 لا تزال النساء اللاتي بلغن الأربعين ولم ينجبن يحصلن على أجور أقل من الرجال بنسبة 17 في المائة.
وتمثل «ثقافة الشركات الذكورية» العقبة الأكبر التي تقف في طريق النساء داخل الشركات الفرنسية على حد قول بريجيت جريسي، وهي مؤلفة تقرير عن المساواة بين الجنسين في أماكن العمال عام 2009. وأضافت جريسي أن فرنسا دولة لاتينية، ليس فقط من جهة ثقافة الإغواء، بل أيضا من جهة العمل لساعات متأخرة.
وقد كان للثقل غير المتوازن لعدد صغير من كليات الهندسة التي يسيطر عليها الذكور في عملية إعداد النخبة دوره في استبعاد المرأة عن السلطة. ويوضح رئيس كلية إيكولي بيلوتينيك للهندسة، زايفير مايكل، أن عدد الطالبات ارتفع من 7 إلى 70 منذ تخرجه عام 1972 - أي بما يعادل عشر مرات - لكن رغم ذلك تبلغ نسبة الطالبات 14 في المائة فقط.
وكانت سيمون فيل في الثامنة عشرة عندما سمح للمرأة الفرنسية بالتصويت لأول مرة، وكانت في الثامنة والعشرين عندما سمح لها بفتح حساب في البنك، وكانت في الثامنة والثلاثين عندما دعمت تشريعا عن الإجهاض بصفتها وزيرة للصحة.
وتقول سيمون: «لقد تغيرت أمور كثيرة، لكن لم يتغير الكثير من الأمور أيضا». وأوضحت أن ما يريحها أكثر من القوانين التي صدرت مؤخرا، هو مشهد عدد متزايد من الآباء يدفعون عربات أطفالهم في الحي الذي تقطنه. وتقول الفيلسوفة فرايسي إنه بعد مرور أكثر من قرنين على تخلص فرنسا من الملك الذي كان يعتبر الأب داخل الدولة، تحتاج فرنسا إلى أن تتخلص من الأب المسيطر كملك داخل الأسرة. وأضافت قائلة: «لقد قمنا بثورة، لكننا نحتاج حاليا إلى ثورة أخرى داخل الأسرة».