البرد القارس .. يزيد الأمراض القاتلة ولكنه ينشط الدهون البنية المفيدة
محاسن الشتاء
الشتاء ودرجات حرارته المتدنية، يشكل نقمة ونعمة للإنسان وصحته. وقد لا يقدر الإنسان أهمية أن درجات الحرارة المتدنية، إذ إنها تقدم خدمة كبيرة بقضائها على الحشرات، والأجسام الحية المتناهية الصغر، الناقلة للجراثيم.
كما أن الشتاء، ومن الناحية النظرية، قد يسهم في الرشاقة وذلك بتحفيزه على تنشيط الدهون البنية اللون، وهي الدهون النشطة في عمليات التمثيل الغذائي (الأيض).
وفي الدول الإسكندنافية وروسيا ينتظر الكثيرون البرد، لكي يسبحوا في المياه المتجمدة التي يقال إنها تُحدِث معجزات صحية، وفقا لافتراضات يطرحها عدد ضئيل من الباحثين.
جانب الشتاء المظلم
إلا أن هناك جانبا مظلما للشتاء ينبغي اعتباره، فقد أظهر عدد من الدراسات أن معدلات الوفيات تزداد في أثناء هذا الفصل من السنة.
كما أن ضغط الدم يزداد أيضا. ووفقا لبعض التخمينات فإن ازدياد عدد الوفيات بنسبة 70 في المائة خلال الشتاء يعود إلى حدوث النوبات القلبية والسكتات الدماغية وأمراض القلب والأوعية الدموية الأخرى في أثناء هذا الفصل.
وبالطبع فإن الإنفلونزا الموسمية تنتشر في هذا الفصل، وتنتقل فيروسات الإنفلونزا عندما يكون الجو باردا وجافا.
أما الظلام الشتوي فإنه يجعل الأمور أكثر سوءا. فتعرض الجلد للشمس يؤدي إلى إنتاج فيتامين «دي»، الذي يبدو أنه يقدم شتى الفوائد الصحية.
وخلال الشتاء عندما يكون النهار أقصر وتكون الشمس مائلة بزاوية صغيرة، تصبح مستويات هذا الفيتامين قليلة في الجسم. والإحساس بالبرد مع النقص في فيتامين «دي» قد يسبب المشكلات.
ارتعاشات البرد
عندما لا يكون الجو باردا جدا، فإن جسم الإنسان يتكيف جيدا مع درجات الحرارة. إلا أنه عندما يتلامس الجسم مع الجو أو الماء البارد فإن شبكة الأوعية الدموية الموجودة في الجلد، تتقلص، ولذا يوجه الدم بسرعة نحو داخل الجسم.
وتضيف استجابة الجسم هذه قوة عزل لحماية الجلد، لأنه يفقد حرارة أقل بعد تقليل تدفق الدم قرب سطح الجسم الملامس للجو أو الماء. كما أنه يحمي الأعضاء الحيوية من درجات الحرارة المتدنية.
إلا أن الإنسان يدفع ثمن إعادة توجيه الدم، فهي تؤدي إلى قلة تدفقه إلى أصابع اليدين والقدمين والأجزاء المحيطية من الجسم (الأنف والأذن)، التي تكون مهددة بـ«عضة التجمد»، الذي يظهر عندما تتجمد السوائل داخل الأنسجة وحولها.
وفي الأحوال السليمة فإن الأوعية الدموية في الجلد تفتح ثم تغلق في نسق متذبذب، بحيث تزداد درجة حرارة الجلد مؤقتا، خصوصا في أطراف الأصابع.
كما أن الارتعاشات هي وسيلة دفاعية معروفة مضادة لانخفاض درجة حرارة الجسم.
فالتقلصات العضلية الإيقاعية السريعة التي تحدث في أثنائها، تمنح الجسم الحرارة، الأمر الذي يساعد كل الجسم على البقاء دافئا. كما يستطيع الجسم توظيف عضلات أكثر فأكثر عند انخفاض درجات الحرارة.
وهنا قد تصبح الارتعاشات قوية وغير مريحة.
أما الحركات الإرادية مثل الدبدبة أو «الطبطبة» بالقدمين، وأرجحة اليدين، فهي وسيلة أخرى لتوليد الطاقة.
ووفقا للظروف، فإنها قد تعوض عن حدوث ارتعاشات الجسم. إلا أن الجسم لا يجني فائدة كلّية تامة من هذا لأن التمارين الرياضية تزيد من تدفق الدم إلى الجلد، الأمر الذي يؤدي إلى فقدان الجسم لحرارته.
شكل الجسم
ويفسر شكل الجسم بعض ردات الفعل المتنوعة تجاه الأجواء الباردة، فالأشخاص الأكثر طولا يحسون بالبرد أسرع من القصار لوجود مساحة أكبر لسطح أجسامهم التي قد تفقد حرارة أكثر.
كما أن سمعة الدهون بوصفها مواد عازلة، لا تشوبها شائبة، ولكن يفضل أن يكون لديك في فصل الشتاء شحم يغطي كل الجسم بدلا من تغطيته لمنطقة واحدة مثل الكرش ومنطقة البطن!
ويقضي أغلبنا الشتاء وهو يحاول البقاء دافئا، إلا أن التعرض للبرد قليلا لا يعتبر ضارا.
وقد طرحت بعض الافتراضات، مثلا، التي تقول إن درجات الحرارة المتدنية باعتدال، قد تكون مفيدة للأوعية الدموية لأنها تمرن الأوعية الدموية في الجلد على الاستجابة، وعلى ردود الفعل (وتضاف إلى ذلك فائدة أخرى: تورُّد الخدين)!
الدهون البنية brown fats هي الدهون المولدة للحرارة، الحارقة للسعرات الحرارية التي يحتاجها الطفل الصغير لتنظيم درجة حرارة جسمه.
ويختفي أغلب هذه الدهون مع العمر، إلا أن فحوصا شعاعية بجهاز الانبعاث البوزيتروني للتصوير «PET» قد أظهرت أن البالغين يحتفظون ببعض الدهون البنية.
وقبل سنوات أفاد باحثون فنلنديون أن الأشخاص العاملين في المواقع المفتوحة لديهم كميات أكثر من الدهون البنية مقارنة بالعاملين في المواقع المغلقة.
كما أفاد باحثون هولنديون في دراسة نشرت في مجلة «نيو إنغلاند جورنال أوف ميديسن» عام 2009 بأن نتائجهم أظهرت أن أجواء بدرجات حرارية معتدلة مقدارها 61 درجة فهرنهايت (16 درجة مئوية) أدّت إلى تنشيط الدهون البنية لدى 23 من أصل 24 متطوعا.
لكن أيا منا لا يقترح توظيف الطقس البارد لأغراض الحمية الغذائية (حتى الآن على الأقل).
ومع ذلك، وعندما تجد نفسك في جو بارد هذا الشتاء، تذكر أنك تقوم على الأقل بحرق بعض الخلايا من تلك الدهون البنية.
العلاج بالبرد
وتؤخذ وسائل «العلاج بالبرد» للأغراض الطبية، بجدية في بعض الدول. فقد طور باحثون يابانيون وسيلة «تجميد كامل البدن» (Whole-body cryotherapy) بهدف علاج الآلام والالتهابات الناجمة عن أمراض الروماتيزم والأمراض الأخرى.
وللعلاج، يقضي المرضى دقيقة إلى ثلاث دقائق في حجرة تبلع درجة حرارتها 166 فهرنهايت تحت الصفر (110 درجة مئوية تحت الصفر).
وفي فنلندا وروسيا وغيرهما، يقول الكثير من المولعين بالسباحة شتاء إن لها بعض الفوائد. وقد تحدث باحثون فنلنديون قبل عدة سنوات عن دراستهم على 10 نساء من اللاتي كن يغطسن في غضون ثلاثة أشهر في المياه الباردة (لمدة 20 ثانية في ماء تزيد درجة حرارته قليلا عن نقطة التجمد)، وعرضن كل جسمهن لجلسات التبريد.
ولم تظهر تحاليل الدم أي ملاحظات جديرة بالاهتمام، عدا ارتفاع بمقدار مرتين إلى ثلاث مرات في مستويات «النوربينيفرين» بعد دقائق من الغطس البارد.
والنوربينيفرين هو مادة كيميائية في الجهاز العصبي تلعب الكثير من الأدوار ومنها دور محتمل في كبح الآلام (وقد تفسر قفزات مستوى النوربينيفرين أيضا ارتفاع ضغط الدم في الطقس البارد).
أمراض الشتاء
وقد وثقت الأبحاث على مدى عقود، حقيقة ارتفاع ضغط الدم في أثناء الشتاء، وآخر ما تم التوصل إليه بهذا الشأن الدراسة التي أجراها باحثون فرنسيون عام 2009 وأظهرت أن ارتفاع ضغط الدم الانقباضي (وهو القراءة العليا له) المرتبط بالطقس البارد، كان ملاحظا بقوة لدى الأشخاص من أعمار 80 سنة فأكثر.
وقد يحفز الطقس على استجابات «الكفاح» أو «الهروب»، إذ يرتفع ضغط الدم بسبب ازدياد سرعة ضخ القلب للدم ولذا تتشنج الأوعية الدموية.
الطقس البارد يرتبط أيضا مع ازدياد الأمراض التنفسية، ومنها الإنفلونزا.
وقد أظهرت الأبحاث أن موجات البرد ترتبط بازدياد في أعداد الوفيات الناجمة عن الأمراض التنفسية.
وقد يرتبط بعض هذه الأمراض بأجسام حية حاملة للعدوى مثل فيروسات الإنفلونزا التي تنتعش في ظروف البرد، كما أن هناك أيضا دلائل على أن التعرض للبرد يكبح نشاط جهاز المناعة، الأمر الذي يساعد على ازدياد فرص العدوى.
وقد فندت دراسة نشرت في مجلة «نيو إنغلاند جورنال أوف ميديسن» في السبعينات من القرن الماضي، الاعتقاد بأن نزلات البرد الشائعة ترتبط بالتعرض للجو البارد، إلا أن الباحثين البريطانيين المختصين بنزلات البرد يعتقدون في وجود صلة بين البرد ونزلات البرد.
وتشير فرضيتهم إلى أن تدفق الهواء البارد نحو ممرات الأنف، يزيد احتمال الإصابة بالعدوى لأنه يحطم الاستجابات الموضعية لجهاز المناعة.