طريقة «ويبل» .. عملية جراحية تقدم نتائج أفضل لعلاج سرطان البنكرياس
لقد سلطت الأضواء مؤخرا على سرطان البنكرياس بعد إصابة بعض من المشاهير به، ومنهم روث بايدر غنسبرغ القاضية في المحكمة الأميركية العليا، وستيف جوبز المدير التنفيذي لشركة «آبل» للكومبيوترات، والممثل باتريك سوايزي، وراندي باوش البروفسور في علوم الكومبيوتر في جامعة كارنيغي ميلون الذي تحولت محاضرته الملهمة الأخيرة إلى أحد العروض المثيرة على موقع «يوتيوب» الإنترنتي، كما أصبح كتابه واحدا من أفضل الكتب رواجا.
إن من المصادفة الغريبة أن يضرب هذا المرض ضربته لهذا العدد من المشاهير في وقت واحد، لأن سرطان البنكرياس غير شائع إلى حد ما.
وقد شخص به عام 2008 ما يقرب من 38 ألف أميركي، وهذا هو جزء يسير من 215 ألف شخص شخصوا بسرطان الرئة.
سرطان البنكرياس
يمكن تفهم اندفاع الإعلام وراء أخبار هذا المرض، إذ إن نتائجه مميتة، فلا يقدم أي نوع من السرطان نتائج سيئة مثله، إذ يعيش نحو 5 في المائة فقط من الذين يصابون بسرطان البنكرياس 5 سنوات لاحقة من تشخيصه، وذلك مقابل 66 في المائة من المرضى المشخصين بأن لديهم سرطان القولون، و90 في المائة من النساء اللاتي يشخص لديهن بسرطان الثدي.
ولأسباب متعددة ـ المسح بالتصوير، التشخيص المبكر، العلاج الاحسن ـ فإن الإصابة بهذا النوع من السرطان لم تعد الآن «حكما مباشرا بالموت».
وقد أضحى بإمكان كثير من المصابين التعايش مع حالاته التي تثير الذعر لسنوات طويلة في صحة جيدة نسبية.
ويبرز سرطان البنكرياس بوصفه حالة ارتدادية أو تنكسية، إلا أن أحد الجوانب المضيئة في علاج سرطان البنكرياس هي النتائج الجيدة لعملية «ويبل» Whipple procedure، وهي عملية جراحية تستخدم غالبا لعلاج هذا المرض.
في عام 1971 توفي 15 في المائة من المرضى لدى خضوعهم لهذه الجراحة، أثناءها أو بعدها مباشرة، إلا أن تحسن الطرق الجراحية، والتخدير، والعناية اللازمة لما بعد العملية، كلها أدت إلى تقليل هذه النسبة في عدد من المستشفيات، كما أن نسبة النجاة من المرض ارتفعت إلى 20 في المائة بعد مرور خمس سنوات على إجراء العملية.
وقد أظهرت الدراسات بشكل متواصل، أن النتائج أضحت أفضل في تلك المستشفيات التي يجرى فيها كثير من عمليات «ويبل»، كما أن هذه العمليات تدفع المرضى إلى التوجه نحو المراكز الطبية المعروفة بإجرائها عمليات جراحية متنوعة، التي يمكنها أن توفر نتائج أفضل لهذه العمليات.
رأس واحد ومهمتان
البنكرياس السليم، هو عضو إسفنجي يميل إلى اللون الأصفر ـ الأسمر، ويبلغ طوله نحو 7 بوصات (البوصة 2.5 سم تقريبا)، وله شكل يبدو وكأنه «مخلوق من المخلوقات»، إذ يمتلك رأسا تستند إلى حلقة في القسم الأول، العلوي، من الأمعاء الدقيقة (الاثنا عشري)، وجسم طويل ينضغط وراء المعدة، وذيل رفيع يصل إلى الطحال.
ومن الناحية الفسلجية فإن البنكرياس ينفذ مهمتين، فهو يحتوي على أنسجة الإفرازات الخارجية exocrine tissue التي تفرز الإنزيمات الهضمية، التي تنتقل عبر القنوات نحو الأمعاء الدقيقة، وعلى الأنسجة الصماء الباطنية الإفرازات endocrine tissue التي تفرز الهرمونات، ومنها الأنسولين insulin والغلوكاغون glucagon.
وتحدث 90 في المائة من سرطانات البنكرياس بسبب أنسجة الإفرازات الخارجية، وأغلبها مرتبطة بحدوث أورام سرطانية في قنواته ductal adenocarcinomas، أي الأورام التي تتشكل في بطانة شبكة قنوات هذا العضو.
وبعض سرطانات البنكرياس يمكن رصدها مبكرا، وبالمصادفة، في أثناء التعرض للتصوير بالأشعة المقطعية CT Scan أو المسوحات الأخرى التي توصف لدراسة وتشخيص حالات مرضية أخرى. وهذا ما حدث في حالة القاضية غنسبرغ.
إلا أن سرطان البنكرياس، وفي غالب الأحيان، يشخص بعد ظهور أعراضه التي تشمل، نموذجيا، آلام البطن، فقدان الوزن (الذي يحدث في كل أنواع السرطان، خاصة سرطان البنكرياس)، واليرقان، أي اصفرار الجلد وبياض العينين الناجم عن زيادة مستويات «البيليروبين» bilirubin في الدم، وهي الزيادة التي يمكن أن تظهر عندما يصطدم الورم البنكرياسي بقناة المرارة.
والسبب الرئيسي في أن سرطان البنكرياس قاتل، يكمن في أن السرطان ينمو وينتشر لفترة طويلة قبل أن تظهر أعراضه.
المرشحون للعمليات الجراحية
في الوقت الذي يتم فيه تشخيص حالات الإصابة بسرطان البنكرياس فعلا، يكون السرطان قد انتشر بشكل كبير إلى خارج هذا العضو لدى 40 في المائة من المصابين بهذا السرطان، ولا تعتبر الجراحة خيارا لمثل هؤلاء المصابين.
ثم وفي ذلك الوقت نفسه، فإن هناك 40 في المائة من المصابين الآخرين الذين يرصد لديهم «مرض متقدم موضعيا، أي أن السرطان لم ينتشر كثيرا خارج العضو، بل إنه التصق أو زحف إلى الأعضاء المجاورة.
ويلتف السرطان حول اثنين من الأوعية الدموية الكبيرة، الوريد والشريان الكبيران المحيطان بالأغشية المغلفة للأمعاء الوسطى superior mesenteric vein and artery، وإذا تداخل السرطان مع هذين الوعائين الدمويين، فإن هذا قد يمنع إجراء الجراحة.
ويمكن علاج سرطان البنكرياس الموضعي المتقدم بالإشعاع والأدوية الكيميائية، إلا أن متوسط فترة النجاة منه تتراوح بين 8 إلى 12 شهرا، وتكون هذه الفترة أقل للمصابين الذين انتشر السرطان لديهم.
وهذا ما يجعل نسبة 20 في المائة المتبقية من المصابين بالسرطان من الذين لديهم أورام، تعتبر من وجهة نظر أخصائيي السرطان، أوراما «قابلة للاستئصال جزئيا» بالجراحة.
وأغلب أورام هذا السرطان تكون داخل رأس البنكرياس أو امتداد الرأس، وتكون طريقة «ويبل» العملية المفضلة لعلاجها.
أما إذا انتشر السرطان نحو جسم البنكرياس أو ذيله فإن إجراء هذه الجراحة، في العادة، سيأتي متأخرا، على الرغم من أن ذلك لا ينطبق على جميع الحالات.
طريقة «ويبل»
طريقة «ويبل» تسمى رسميا «استئصال أورام البنكرياس والاثنا عشري» pancreaticoduodenectomy، وقد أطلق على الطريقة اسم «ويبل» نسبة إلى الدكتور ألين أو. ويبل، أول جراح أميركي نفذ هذه العملية الجراحية عام 1935.
وبما أن سرطان البنكرياس القابل للاستئصال يكون محدودا ضمن رأس البنكرياس في أكثر الحالات، فقد يتصور الناس أن عملية إزالته تشمل ذلك الجزء من البنكرياس فقط. إلا أن رأس البنكرياس يرتبط من حيث البنية، مع الأعضاء الأخرى والقنوات، كما أنه يتشارك معها في الأوعية الدموية المغذية، ولذلك فإن إزالته تتطلب عملية واسعة تسمى «ويبل».
وتشمل عملية «ويبل» إزالة رأس البنكرياس، وقناة الصفراء، والمرارة، وغالبا أيضا جزء من المعدة، ثم يأخذ الجراحون بعد العملية في إغلاق نهاية الأمعاء الدقيقة، ولحم ما تبقى من قناة الصفراء، والبنكرياس (جسمه وذيله)، والمعدة.
ويقضي المرضى في العادة مدة أسبوع في المستشفى، أما النقاهة داخل المنزل فإنها بطيئة ومؤلمة إلى حد ما، ولذلك توصف أدوية تخفيف الألم لهم عادة.
ويستطيع المرضى الذين خضعوا لعملية «ويبل» تناول كميات قليلة من الطعام فقط من الأغذية التي يسهل هضمها، كما قد يحتاجون إلى تناول بعض إنزيمات البنكرياس لمساعدتهم في الهضم، خاصة لهضم الأغذية الدهنية.
وقد يكون الإسهال مشكلة تمنعهم من الخروج من المنزل، إلا أن الأمر الملاحظ، خاصة، هو أن القناة الهضمية التي تم إعادة تشكيلها وضبطها، تشفى خلال شهرين أو ثلاثة أشهر.
وأحد أنواع عمليات «ويبل» تحافظ على المعدة، وهي تسمى عمليات «ويبل المحافظة على بوابة المعدة ـ الأمعاء» Pylorus ـ preserving Whipples، وهي تقلل من زمن إجراء الجراحة، وتحسن نظريا، الهضم والتغذية.
ويحبذ جراحو مستشفى «جونز هوبكنز» إجراء مثل هذه العمليات، إلا أن الدكتور كارلوس فرنانديس ـ ديل كاستيلو الجراح في مستشفى ماساشوستس العمومي التابع لجامعة هارفارد، يقول إن الجراحين في مستشفاه لا يجرونها لسببين.
الأول، أن الدراسات لم تظهر فوائدها على المدى الطويل.
والثاني أن المرضى يحتاجون بعدها إلى التدخل لتغذيتهم ويظلون في المستشفى لفترة أطول.
وأكثر المضاعفات شيوعا التي تظهر فورا بعد العملية، هي تسرب العصارات من ما تبقى من البنكرياس، وهذا هو بحد ذاته قد يشكل مشكلة للأشخاص الذين لديهم بنكرياس سليم ومنتج.
ويمكن علاج هذا التسرب بواسطة سحب العصارات إلى خارج الجسم بحيث لا تتراكم داخل الجسم.
ويقول الدكتور كاستيلو إن الأشعة المقطعية تساعد الأطباء على تقرير ما إذا كان التسرب خطيرا وبحاجة إلى العلاج.
كفاءة إجراء العمليات
وبينما أظهر كثير من الدراسات أن نتائج أي من العمليات الجراحية تكون أفضل في المستشفيات التي يجري فيها عدد أكبر منها، فإن هذه النتائج تتأكد خصوصا لعمليات «ويبل»، بسبب صعوبتها على أكثر الأحوال.
وقد أشارت إحدى الدراسات التي يتكرر ذكرها، المنشورة في مجلة «نيو انجلاند جورنال أوف ميديسن» إلى أن معدلات الوفيات في المستشفيات التي تجرى فيها عمليات أقل (أقل من عملية «ويبل» واحدة سنويا في المتوسط) كانت أعلى أربع مرات (16.3 في المائة مقابل 3.8 في المائة) مقارنة بالمستشفيات التي تجرى فيها عمليات أكثر (أكثر من 16 عملية «ويبل» سنويا).
وتنطبق هذه الظاهرة على الجراحين أيضا، فوفقا لإحدى الدراسات فإن معدل الوفيات كان يتغير بمقدار أربع مرات بين الجراحين الذين نفذوا عمليات «ويبل» قليلة، حتى داخل المستشفيات التي تجرى فيها عدد كبير من العمليات، مقارنة بالذين نفذوا عمليات كثيرة.
معركة شاقة
ويضع الاختصاصيون أفضل التوقعات للمرضى الذين لم ينتشر السرطان لديهم إلى العقد اللمفاوية المجاورة، وأجريت لهم عملية «ويبل».
ولهؤلاء المرضى يقع معدل النجاة لفترة 5 سنوات لاحقة في حدود 25 إلى 30 في المائة، أما المرضى الذين أصيبت العقد اللمفاوية لديهم فإن النسبة تصل إلى 10 في المائة.
وبغض النظر عن إصابة العقد اللمفاوية أو عدم إصابتها، فإن المرضى سيخضعون إلى علاج بالإشعاع، أو الأدوية الكيميائية، أو إلى كليهما، بهدف تحسين فرص النجاة.
إلا أن اختصاصيي السرطان لم يتوصلوا بعد إلى التوليفة الصحيحة ولا إلى الأدوية اللازمة للاستخدام (وقد ظهرت مؤشرات مشجعة لدواء يسمى «جيمسيتابين» gemcitabine).
وإحدى الطرق التي تنظر إلى نسب النجاة من المرض، هي التعرف على النسبة الكبيرة من المرضى الذين خضعوا لعملية «ويبل» الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى حد 5 سنوات.
وراندي باوش (المذكور آنفا) هو مثال لذلك، فقد تم تشخيص المرض لديه في صيف عام 2006، وخضع لعملية «ويبل»، ثم لعلاج إشعاعي وبالأدوية الكيميائية، إلا أنه توفي في يوليو 2008، عن عمر يناهز 47 سنة.
التحسينات في عملية «ويبل» هي تطور يقتضي الترحيب، إلا أنها ليست سوى خطوة صغيرة في معركة طويلة شاقة ضد سرطان البنكرياس.