دعوة في بريطانيا لـ «ثورة معمارية» من أجل إنقاذ البيئة

تقرير: 10% من التصاميم المعمارية الحديثة منحت البيئة أولوية في تصاميمها
تشهد صناعة البناء والمنشآت في بريطانيا هذه الأيام جدلاً مثيراً في أعقاب التقرير الذي أصدرته لجنة مهنية حول عدم التزام شركات البناء الكبرى بقضية الحفاظ على البيئة في المواد التي تستخدمها في منشآتها. فقد اتهم التقرير، الذي أصدرته لجنة «المعماريين وبيئة التعمير» (CABE)، المهندسين المعماريين وشركات المقاولات بتجاهل قضية الحفاظ على البيئة عبر المواد المستخدمة في البناء، كذلك طريقة البناء نفسها التي تؤدي إلى الاكثار من استخدام الطاقة بدلاً من الترشيد فيها.


وقالت اللجنة في تقريرها، الذي استغرقت عامين في اعداده، إنها استندت الى دراسة 700 تصميم معماري لأضخم المنشآت التي اُقيمت في بريطانيا خلال العامين الماضيين، حيث وجدت أن 10 منها فقط منحت قضية الحفاظ على البيئة أولوية في تصاميمها. كما شملت انتقادات التقرير تصاميم لأشهر مهندسي بريطانيا المعماريين، اللود نورمان فوستر.

وتعليقاً على التقرير قال مات بيل، أحد أعضاء اللجنة التي أعدت الدراسة «إننا بحاجة إلى ثورة في طريقة تصاميمنا للمباني إن كنا نريد حقاً الحفاظ على البيئة».

وأضاف «أن الخطر الأكبر في هذه القضية يتمثل في عدم رغبة المهندسين والمواطنين قبول فكرة أن مخاطر البيئة حقيقة وأنها ستلحق بنا في المستقبل القريب اذا لم نبدأ الآن تعديل مفاهيمنا وتصاميمنا المعمارية والاهتمام بانشاء مدنٍ خضراء». ويُشار هنا إلى أن نمطاً حديثاً في البناء انتشر في كثير من مدن العالم بما في ذلك عدد من المدن العربية، خصوصاً في دول الخليج مثل الرياض ودبي وأبوظبي، فضلا عن مدن دول غربية وآسيوية مثل نيويورك وهونغ كونغ وغيرهما.

ويتمثل هذا النمط الحديث في استخدام الفولاذ – بدلاً من الاسمنت المسلح (الخرسانة)- في تشييد «الهيكل العظمي» للبناء، ثم كساء الوجه الخارجي بالزجاج بدلاً من الطوب والطلاء.

وقد ظهر هذا الطراز المعماري أكثر وضوحاً في ناطحات السحاب والبنايات الضخمة الأخرى كالمطارات وملاعب الرياضة الدولية. وفي هذا الصدد قال لـ «الشرق الأوسط»، مايك رييد، مدير شركة «ريدماك الاستشارية المعمارية»، إن لاستخدام الفولاذ مزايا عديدة من أهمها أنه سهل التقطيع والتشكيل، الأمر الذي يمنح التصميم المعماري مرونة في الابداع والخروج عن الأشكال التقليدية والوظيفية للبناء.

كما أن الفولاذ أخف وزناً من الاسمنت المسلح ويحتل مساحة أقل داخل المبنى ويستغرق وقتاً أقل كثيراً في تركيبة وتشييد البناء. وأضاف رييد أن هناك ميزتين أخريين أكثر أهمية من هاتين السابقتين وهما أولاً أن الفولاذ أقل ضرراً للبيئة من الاسمنت المسلح الذي يتسبب انتاجه في نحو 6% من ظاهرة الاحتباس الحراري، وثانياً فهو مادة قابلة لإعادة التدوير (إعادة الاستخدام) بينما يصعب تطبيق ذلك على الاسمنت المسلح. لكن رييد أكد أن الفولاذ لا يمكن أن يحل محل الاسمنت المسلح في بناء الأساس الذي يغوص في باطن الأرض، كما أنه قد لا يكون مجدياً اقتصادياً في المباني الصغيرة التي لا تتعدى طابقين.

ويُلاحظ أن استخدام الفولاذ في المباني المرتفعة قد اقترن باستخدام الألواح الزجاجية لكساء الوجه الخارجي بحيث أصبح تعبير Glass-And-Steel (الزجاج والفولاذ) شائعاً بين المعماريين. وعن مزايا الزجاج قال رييد إن صناعة الزجاج قد تطورت كثيراً في العقدين الماضيين بحث أصبحت هناك أنواع عديدة من الزجاج التي تصلح لمختلف الاستخدامات والمناخات.

فهناك على سبيل المثال، الزجاج المقوّى الذي يفوق في قوته كثيراً من المعادن الصلبة، وهناك أيضا الزجاج الذي يحجز الإشعاعات الضارة من الشمس بينما يسمح بمرور ضوء النهار، ثم هناك الزجاج الذي يغيّر لونه حسب قوة أشعة الشمس، وأخيراً هناك الزجاج الحراري «Thermal Glass» وهو نوعٌ من الزجاج المعالج بمواد كيماوية تدخل في تصنيعه بحيث يمّكن الزجاج من حفظ درجة الحرارة أو البرودة داخل المبنى. ويُعتبر هذا النوع الأخير نقلة مهمة في استخدام الزجاج في المباني لأن إحدى مشاكل الزجاج في الماضي أنه لا يعزل الحرارة بكفاءة مثلما يفعل الطوب أو الخشب أو الاسمنت. لكن المهندسين تغلبوا على هذه المعضلة بوضع طبقتين من الزجاج بينهما فراغ هوائي يعمل كعازل للحرارة (Double Glazing).

ومثلما هو الحال مع الفولاذ فإن الزجاج يمتاز بكونه مرن التشكيل، وهو أيضا مادة قابلة لإعادة التدوير مما يجعله خياراً مفضلاً لدى كثير من المعماريين والمهندسين الإنشائيين في الغرب الذين أصبحوا يسعون إلى وضع قضية الحفاظ على البيئة ضمن الاعتبارات التي يأخذونها في الحسبان عند رسم تصاميمهم الهندسية. ومن مزاياه المهمة أيضا أنه يسمح بدخول ضوء النهار الطبيعي إلى داخل المبنى، ومن ثم يوفر قدراً هائلاً من استخدام الكهرباء لإضاءة ناطحات السحاب، على عكس ما يحدث في المباني الاسمنتية والحجرية.

لكن رييد يشير إلى أن الزجاج غالي السعر، خصوصا الأنواع المحسّنة منه، ولا يُقبِل على استخدامه الا أصحاب الميزانيات الكبيرة. وأضاف أن كثيرا من المباني تخلط بين الزجاج والاسمنت حسب ما تسمح به ميزانيتها. فكلما كبرت الميزانية، كلما ازداد استخدام الزجاج.

يذكر أن العاصمة البريطانية لندن قاومت لسنوات طويلة إغراء ناطحات السحاب الزجاجية الحديثة، وتمسكت بمبانيها الحجرية التقليدية والتي تكون عادة محدودة الارتفاع ويعود عددٌ كبير منها للعصر الفيكتوري في القرن التاسع عشر حين شهدت بريطانيا طفرة معمارية ضخمة. غير أن حمى الفولاذ والزجاج، تغلبت أخيراً على حمى المال اللندني، إذ قام كثيرٌ من الشركات العقارية ببناء أبراج وناطحات سحاب على الطراز الزجاجي النيويوركي لكي تصبح مكاتب ومقار للمصارف الدولية والشركات المالية الكبرى التي ترغب في العمل من لندن أو فتح فروع لها في أهم سوق مالية في أوروبا.

وقد اشتهر مهندسان معماريان، هما نورمان فوستر وريتشارد روجيرز، بمبانيهما الزجاجية الجذابة مثل برج «غركين»الذي صممه فوستر ومبنى «سوق لويدز للتأمين» الذي صممه روجيرز. وكلا المبنيين أصبح من معالم لندن الرئيسية ومن أفخر تقاليدها المعمارية الحديثة. كما أن الجدل بين الحداثة والتقليدية لا يزال ساخناً بين المعماريين البريطانيين.

فعندما تم الكشف عن خطط بناء ناطحة السحاب «شارد» قرب منطقة « لندن بريدج» في عام 2000 انتقدت هيئة التراث الانجليزية المبنى ووصفته بأنه أطول مبنى في أوروبا، لكنه أسخف شيء في لندن.

فقد زادت مثل تلك المناقشات الحادة في المدينة التي تتسارع فيها وتيرة مشاريع بناء الأبراج الشاهقة الزجاجية. فمنذ اكتمال ناطحة السحاب الزجاجية «غركين» عام 2004 التي صممها المهندس فوستر تم التخطيط لما لا يقل عن 6 أبراج شاهقة تحتوي على مساحة 375 ألف متر مربع من المكاتب ليتم بناؤها في المدينة. وقد أتت اقتراحات البناء من كل الاتجاهات بما في ذلك أكبر شركتين للعقارات في لندن وهما شركة «لاند سييكوريتيز» وشركة «بريتيش لاند».

ويعود السبب في الإقبال المتزايد على المباني الفاخرة الشاهقة الارتفاع، جزئياً إلى رغبة المستأجرين في الحصول على قاعة اجتماعات مطلة على منظر خلاب في المدينة.

كما يلعب القلق من المنافسة دوراً أيضاً، إذ تحبذ السلطات المحلية في مركز لندن التجاري مزيداً من المباني الشاهقة تهيباً من المراكز التجارية المنافسة والتي لم تعد تقتصر على فرانكفورت وباريس.

فقد حوّل ـ في السنوات العشر الأخيرة ـ عددٌ من المصارف الكبرى مكاتبها من مركز لندن التجاري القديم إلى مجمع «كناري وورف» للبنايات الشاهقة في شرق لندن. إلا أن السلطات المحلية لمركز لندن مصممة على منع تكرار حدوث ذلك.

لكن المحافظين يحاولون مقاومة المد ويؤكدون أن المباني العالية الزجاجية مهما كانت فخامتها فهي سوف تحجب كاتدرائية « سانت بولز ومباني وست مينستر»، حيث مقر البرلمان العتيق وأجمل وأشهر مباني أوروبا. ويقول آدم وليكينسون من هيئة «انقذوا التراث البريطاني» إن المباني الجديدة ستؤدي إلى تغيير الخلفية المحيطة بالمواقع التاريخية ومن ثم تغيير ملامح لندن لتحوّلها الى نسخة مشوهة من مدينة نيويورك.

وتكمن الصعوبة الأخرى في أن العديد من المباني الشاهقة تعد غير عملية. فقد عانى مبنى « الغركين» المملوك لشركة التأمينات العملاقة «سويس آر إي» من بطء عروض الإيجار وذلك بسبب نظام التهوية الخاص به والمصمم بشكل يكفل المحافظة على البيئة. ومن جانبها تبذل سلطات مركز لندن التجاري مجهوداً كبيراً كي لا يتكرر ما خسره المركز لصالح أبراج « كناري وورف» بسبب من الموقف المحافظ المعادي للمباني الحديثة. وسوف يعاني حمى المال ووسط العاصمة إذا لم تتم بناء الأبراج الشاهقة.