كرسي برشلونة أكثر الكراسي شهرة في القرن العشرين
أن يقوم أحد ما بصناعة كرسي، فهذا، ربما، أمر سهل، طبعاً كرسي من النوع الكلاسيكي، يتـألف من أربعة قوائم خشبية أو معدنية مع إضافة المسند للظهر وخشبة مسطحة للجلوس، لكن أن يطلب من أحد ما، ابتكار كرسي، فالأمر ليس بالسهولة نفسها، ولا هو بإمكان أي شخص بالطبع، إذ مع دخول القرن العشرين، أصبح للمخيلة دور كبير في هذه العملية، التي من الممكن، أن تكون معقدة جداً، وتستند على أفكار لها علاقة بالرياضيات والفلسفة أكثر مما لها علاقة بالكرسي نفسه أو بفكرة الكرسي عامة. هذا دون أن ننفي بأن الابتكار كان في كل زمان ومكان من صناعة المخيلة.
لكن أيضاً، ثمة مواصفات لا يمكن تخطيها أو تجاوزها. فعلى الكرسي أن يكون متيناً وجيداً وأن يكون مريحاً وله وقع جيد على مستخدمه. وهذه شروط صعبة جداً حتى يمكن القول ان بناء ناطحة سحاب سيكون في لحظة معينة أسهل من صناعة كرسي، على حد تعبير مبتكر هذا الكرسي. عام 1929 كلفت الحكومة الألمانية المهندس المعماري لودفيغ ميز فان دير روه (1886 – 1969) بتصميم وبناء الجناح الألماني في معرض برشلونة الدولي. إذ كان وقتها يعد من أبرز المهندسين في أوروبا وأحد أبرز وجوه أكاديمية الباو هاوس Bauhaus التي تولى ادراتها لعدة سنوات أيضاً.
الحدث في ذلك العام كان مهماً، أوروبا التي لا تزال تعاني من الدمار جراء الحرب الكونية الأولى (1914 – 1918)، تحارب الدمار بالتجريب والحداثة، في حين أن ألمانيا التي خرجت من الحرب كانت تنتظر وصول زعيمها أدولف هتلر، الذي سيعيد الكرة بحرب كونية ثانية تدمر ألمانيا هذه المرة، وتحصد حوالي خمسين مليون إنسان تاركة كراسيهم فارغة.
قام ميز فان دير روه ببناء الجناح على تلة اسمها montjuic حيث كان بناء مبتكراً في ذلك العصر إذ جمع في بنائه ثلاث مواد هي الصلب والزجاج بكميات كبيرة وأربعة أنواع من الرخام الشديد الصلابة هي الرخام الروماني، الذي يعكس مياه الينابيع والعيون والأنهار، والرخام الأخضر المقطوع من جبال الألب السويسرية – الفرنسية الى الرخام الأخضر اليوناني القديم إضافة الى رخام الأونيكس الذهبي الآتي من جبال الأطلس في الشمال الأفريقي.
ويعكس استعمال هذه الأنواع جميعها، ووضعها في مكان واحد تعبيراً عن التزامه بالأصالة وبخطوط هندسية حادة وقوية تعكس الى حد كبير الشخصية الألمانية الجدية في تعاملها مع أشياء العالم ونواحي الحياة المختلفة. وفي الوقت نفسه، كان كغيره ينتظر حفل الافتتاح، الذي تم برعاية وحضور ملك اسبانيا ألفونسو الثالث عشر. وبعيداً عن التشريف الملكي والرعاية السامية. فإن عمق النظرة الى الهندسة كانت مستقاه من ذلك المهندس ذي الرؤية البعيدة. فهو أول من استعمل الحديد غير القابل للصدأ في تصميم المباني والأثاث.
والأول الذي أقام مبنى لا يتناقض مع الطبيعة المحيطة به، بحيث جعل من التقطيعات الانسيابية للمبنى غير متناقضة مع طبيعة الهضبة التي بني عليها، مع الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الرؤية والإطلالة، إضافة الى المرونة وحرية حركة في الداخل. فقد ساعدت الاستفادة من المساحة الداخلية في البناء على توفير راحة أكبر لزائريه وإحساساً بالضخامة والعظمة، رغم البساطة التي تبدو أقرب الى العفوية في شكل البناء.
مع هذا فإن هذا المبنى لم يدم طويلاً فقد تم تدميره بعد ستة أشهر فقط من بنائه، وذلك دون أن تحديد أي سبب لذلك. في العام 1980 تولى أوريوس باهيغاس إدارة التخطيط والهندسة في بلدية برشلونة وقرر فوراً تكليف ثلاثة مهندسين معماريين بإعادة بناء الجناح كما كان في نسخته الأولى وتم ما تقرر لينجز البناء للمرة الثانية في العام 1983 تقديراً لمهندس ترك بصمات مهمة كثيرة في عالم الهندسة المعمارية والتصميم الداخلي. وقد تم افتتاحه للزوار في عام 1986.
لم يكتف ميز فان دير روه بالبناء الذي كان عظيماً وحداثياً بكافة المقاييس وقتها وحتى اليوم، بل عمل على التصميم الداخلي وكافة قطع الأثاث التي احتوتها الصالات الفسيحة بداخله. فدأب على تصميم مجموعة من الأثاث التي كان منها ( كرسي برشلونة ) الذي حمل توقيعه بهذا الاسم، بسبب تصميمه لوضعه في المبنى – الجناح الذي يمثل ألمانيا. ويعد كرسي برشلونة من أكثر الكراسي شهرة في القرن العشرين الى جانب عدد من التصميمات لمهندسين أوروبيون آخرون. وكما في المبنى الذي اعتمد على فلسفة الصلابة والأصالة معاً وسوياً جنباً الى جنب. فإن الكرسي ابتكر بناء على فلسفة تدور بين التوازن والقوة تماماً بحسب فكرة الفيلسوف الألماني إمانويل كانط عن التوازن بين الروح والعقل.
فالكرسي صمم ليحمل الجالس عليه في الهواء كما لو أنه يطير وهو ما يزال على الأرض في حين أن المعدن الذي يحمله يمثل أقوى أنواع المعادن لناحية الصلابة الموجودة إضافة الى الجلد المشغول، بحيث يكون طرياً وناعماً وقوياً قادرا على التحمل في الوقت نفسه. وهو الى جانب ذلك يمثل شكل الكتاب ينفلق الى فلقتين تتوازيان بشكل ثابت ولا يتحرك سوى قليل كما لو أن هواء يحركه، مع العلم بأن المعدن الذي صنع منه وهو الفولاذ الممتلئ غير القابل للصدأ ثقيل جداً.
إذ من الصعب جداً أن يقوم شخص واحد بحمل أو تحريك الكرسي بسهولة ويسر، كما لو أنه ولد ليكون في موقعه، لا يتحرك إلا بإرادة أقوى من قدرته على البقاء. منذ تمت صناعته لأول مرة عام 1929، خصيصاً لمعرض برشلونة الدولي يومذاك، لم يزل هذا الكرسي من أشهر الكراسي على الإطلاق وأغلاها ثمناً. إذ يبلغ ثمن الكرسي الواحد المدموغ بإمضاء ميز فان دير روه ما بين ستمائة وثلاثة آلاف يورو.
ولا يتم بيعه إلا بناء على طلب يسبق تسليمه بثلاثة أشهر كحد أدنى، إذ أن صنعه ما زال يتم يدوياً لغاية اليوم، وهو يتطلب مهارة كبيرة، خاصة في رسم المنحنيات التي تشكل القاعدة الأساسية التي تحمله. كما يحتاج الى حرفية عالية في تلحيم المواضع التي تحتاج لذلك وهي ليست كثيرة. هذا إضافة الى عمليات صب المعدن المعقدة نسبياً.
ويلعب الخيال دوراً كبيراً في شكل هذا الكرسي، الذي يبدو كما لو أنه يسبح في الفضاء. ويتوفر هذا الكرسي فقط بالجلد الأسود أو البني أو الأبيض والأحمر ولا يستعمل فيه أي نوع من أنواع القماش العادي حفاظاً على الطريقة التي تم ابتكاره فيها ووفاءً للمصمم الألماني. لكن ثمة مشكلة أساسية في هذا الكرسي، إذ استخدمت فيه ميزتان متناقضتان كلياً ولا تجتمعان مع روعة تصميمه وشكله الفريد.
فهو وإن كان الجلوس عليه يمنح راحة لمستخدمه فإن تركه أصعب من الجلوس فيه ذلك أنه قريب أكثر الى الأرض من أي كرسي آخر، وهذا ما يجعل تركه أمراً غير يسير أو سهل كلياً. فهو أثير ومريح أثناء الجلوس أما خلاف ذلك فهو غير ذلك.
لكن اقتناءه يعبر عن رفعة في الذوق المالك وصاحب البيت أكثر مما يعبر عن حبه للراحة. فهذا الكرسي قطعة فنية لا تتوفر بكثرة، ما يعني أنه فريد جداً، لا يعد لودفيغ ميز فان دير روه مهندساً عادياً، عاش وصمم مجموعة تصاميم وكفى، بل من بين أكثر المهندسين الذي تركوا بصمة عالية القيمة في عالم الخطوط الهندسية، ومن الأكثر تألقاً في هذا المجال، وعلى هذا فقد أسس الاتحاد الأوروبي، وتكريماً لهذا المهندس الكبير جائزة باسمه تمنح كل عامين لأفضل التصميمات في الهندسة المعمارية، وتتولى رئاسة هذه الجائزة لجنة تضم كبار المهندسين المعماريين على مستوى العالم، وهي تعتبر من أهم الجوائز في هذا المجال في القرن العشرين.