قطاع الأزياء الرجالية .. بين شد وجذب
أعلنت أمس محلات «نيو لوك» الشعبية أنها سجلت ارتفاعًا في مبيعاتها للأزياء الرجالية بأكثر من 17 في المائة، مقارنة بالعام الماضي.
وردت نجاحها إلى تصاميمها الشبابية وكسبها ود الزبون الصيني. فهذا الزبون بات يريد أزياء أنيقة بأسعار معقولة، لأنه بات يفهم الموضة أكثر، ولا يمانع في مزج الغالي بالرخيص، فضلاً أن الطبقات المتوسطة لا تتمتع بقدرات مالية عالية تسمح لها باقتناع قطع أو إكسسوارات من بيوت أزياء عالمية طوال الوقت، فتكتفي بما هو متاح أمامها.
الإشارة هنا أن قطاع الأزياء الرجالية منتعش رغم كل ما يقال عن الأزمة، وكل ما تحتاجه بيوت الأزياء العالمية أن تفهم احتياجاته وميوله لكسبه. فالرجل الآن لم يعد مجرد متلقٍّ لأي شيء يُقترح عليه، بل يتابع جديد الموضة ويطوعها حسب مزاجه وأسلوب حياته.
وهذا ما حوَّله إلى قوة لا يُستهان بها، ليس من الناحية الشرائية فحسب بل أيضًا الإبداعية، من حيث تأثيره بشكل مباشر على الطريقة التي تتعامل بها بيوت الأزياء الكبيرة مع مصمميها.
مع حلول موسم أسابيع الموضة الرجالية، حيث سينطلق أسبوع لندن غدا، يليه معرض «بيتي أومو» في فلورنسا ثم أسبوعا ميلانو وباريس ونيويورك، فإن الخوف أن تتأثر هذه الأسابيع بما يجري حاليًا في الساحة من تغيرات أشبه بالانقلابات، لا سيما نيويورك ولندن، اللتان ولدتا من رحم الانتعاش الذي شهدته الموضة في السنوات الأخيرة قبل أن تعصف بها الأزمة الحالية.
لندن مثلا، انطلق أسبوعها منذ بضع سنوات محققًا نجاحًا كبيرًا في بداياته، لكنه سينطلق غدًا وهو باهت إلى حد ما، بسبب غياب عدة أسماء مهمة، اكتفى بعضها بتقديم عروض جانبية بسيطة، مثل «بيربري» و«توم فورد»، وغيرهما.
أول ما يتبادر إلى الذهن أن السبب يعود إلى تأثر مبيعات المنتجات المترفة، بسبب الأزمة وتباطؤ نمو الاقتصاد الصيني والمشكلات السياسية الروسية وغيرها، لكن الحقيقة، حسب الخبراء، هي أن ظهور الجيل الجديد من الزبائن هو الذي غيّر الموازين، لأنه يريد مفهومًا جماليًا جديدًا يختلف عن ذلك الذي ورثوه عن آبائهم، علما بأن هذا التغيير في الأذواق والميول لم يظهر على السطح فجأة، بل كانت له عدة مقدمات تنبهت لها بيوت كبيرة منذ مدة، وتفاعلت معها بتغيير مصمميها وعدم إعطائهم فرصة طويلة يبرهنون فيها على قدراتهم. فقد استغنت دار «إرمينيغلدو زيغنيا» مثلاً عن مصممها ستيفانو بيلاتي، الذي التحق بها في عام 2013 بعد خروجه من دار «إيف سان لوران».
لم يمر سوى يومين حتى أعلنت «زيغينا» أن أليساندرو سارتوري مصمم دار «بيرلوتي» سيكون خليفته. «بريوني» أيضًا أعلنت، وفي الفترة نفسها تقريبًا، استبدال مصممها براندون مولان بجاستين أوشيه. هذا الأخير لا يتمتع بأسلوب شبابي حداثي فحسب بل له حساب على الإنستغرام يخاطب به ما لا يقل عن 85 ألف متابع.
التغييرات شملت بيوت أزياء أخرى مثل «سالفاتوري فيراغامو» التي أعلنت انتهاء عقدها مع مصممها الفني ماسيمليانو جيورنيتي، و«كوستيم ناسيونال» التي أعاد الأخوان إينيو وكارلو كاباسا سبب خروجهما منها إلى اختلاف الرؤية الفنية بينهما وبين الشركة الاستثمارية الآسيوية التي تملكها.
إينيو كاباسا ذهب إلى القول في لقاء له مع وكالة أسوشييتد برس إن الماركة بالنسبة لهما فقدت جانب الإبداع، وأصبحت «مثل شركة لبيع مواد غسيل.. هذا ليس موضة».
ثم لا ننسى خروج هادي سليمان، الذي هز أوساط الموضة، خصوصًا أن مجموعة «كيرينغ» التي تملك «إيف سان لوران» لم ترمش لها عين، بحيث لم يمر سوى وقت وجيز حتى أعلنت عن اسم خليفته، أنطوني فاكاريللو، وكأنها كانت تنتظر هذه الخطوة منه حتى تباركها، ولم يشفع له نجاحه أو ما حققه لها من أرباح.
لا يختلف اثنان على أن التغيير مقبول، وأحيانًا لا بد منه لتحريك المياه الراكدة، لكن هذه التغييرات المتتالية مثيرة للتساؤل، لأنها تشير إلى استراتيجيات جديدة تتبناها بيوت الأزياء الكبيرة والمجموعات التي تنضوي تحتها.
استراتيجيات إما لا تريد مصممين نجومًا قد يشعرون، في فترة من الفترات، بأنهم أكبر من الدار التي يعملون فيها، وإما أنها تتسرع الربح، ولا تؤمن بالاستثمار بعيد المدى.
ما يعزز صحة هذه الاستراتيجيات القاسية أنها أعطت نتائج إيجابية، إذا أخذنا دار «غوتشي» مثالاً.
فقد رقت مجموعة «كيرينغ» المالكة لها ولـ«إيف سان لوران» وغيرها، أليساندرو ميشال، الذي لم يكن أحد قد سمع باسمه من قبل، وتحول بين ليلة وضحاها إلى نجم يحقق لها أرباحًا لم تكن تتصور تحقيقها في غضون عام واحد من تسلمه زمام الأمور.
وهذا ما يؤكد أن تغير الاستراتيجيات لا علاقة وطيدة بتغير أذواق الناس، والحاجة إلى فهم الأسواق التي يتوجهون لها، بغض النظر عن الفنية والإبداع. طبعًا إذا ترافقت النظرة التسويقية مع الإبداع، فهذا هو عز الطلب، كما هو الحال بالنسبة لأليساندرو ميشال، الذي يمكن القول إنه قصة نجاح نادرة في عصرنا.
وصفته السحرية أنه خلق في عروضه مظهرًا مختلفًا للرجل، حيث أدخله عالمًا لم يكن يخطر على باله أنه سيدخله في يوم ما، سواء من حيث الألوان المتوهجة والمعدنية، أو التصاميم الرشيقة والمحددة بشكل أنثوي مرورًا بالإكسسوارات والتفاصيل التي تزين هذه الأزياء، مثل الفيونكات التي تعقد حول العنق، وتُغني عن الربطة والكشاكش التي تغطي القمصان وغيرها.
لهذا، وفي خضم تغييرات الكراسي المتتالية، وخفوت وهج بعض أسابيع الموضة الرجالية، يُطمئن نجاح «غوتشي»، إضافة إلى زيادة صافي أرباح «نيو لوك»، إلى أن قطاع الأزياء الرجالية لا يزال بخير، وقد تكون التغييرات ضرورية لتلبي متطلبات الأسواق العالمية لمنتجات شبابية بلغة جريئة.
وحسب خبراء ومحللين مثل توماس شوفيه، من «سيتي بنك الاستثمارية» بلندن، فإن «معدل نمو قطاع المنتجات الرجالية المترفة لا يزال قادرًا على التفوق على قطاع الأزياء النسائية بالنظر إلى تاريخه القصير بالمقارنة». فرغم تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني، لا يزال الرجل يملك إمكانيات لا يستهان بها، ويريد أن يستمتع بالموضة، سواء تعلق الأمر بالأزياء والإكسسوارات أو بمستحضرات العناية بالبشرة والشعر.
ما أصبحوا يعرفونه أن هذا الرجل ناجح بكل المقاييس، ويحتاج إلى بدلات رسمية في عمله، لكنه في أوقاته الخاصة يريد مظهرًا شبابيًا منطلقًا يعبر عن شخصيته الحقيقية بعيدًا عن أجواء العمل وإملاءاتها، التي قد تفرض عليه أسلوبا رسميا. وربما هذا ما يجعل بيوت أزياء رجالية مهمة مثل «بريوني»، و«إريمينغلدو زيغنيا» ومثيلاتهما، تريد مصممين يحقنونها بجرعة شبابية قوية باتت مطلوبة من قبل الجيل الجديد من الزبائن.
للأسف كان هذا الجيل ينظر إلى هذه البيوت المتخصصة في التفصيل على أنها للآباء والأجداد ولا تفهم احتياجاتهم، الأمر الذي استدعى تدخلا عاجلا وجذريا لإقناعهم بالعكس، أو على الأقل بأنها لكل الأعمار. الآن هذه البيوت تتفنن في طرح الإكسسوارات والقطع المنفصلة المتنوعة.
مصمم «كوستيم ناسيونال» السابق، إينيو كاباسا، فسر هذه النقطة قائلا إن «أسهم البدلة تتعرض دائما لشد وجذب.. لضعف وقوة، لكن لا خوف عليها رغم ما تتعرض له من منافسة شديدة من قبل القطع المنفصلة الشبابية».
كاباسا ينطلق من مفهوم أن الموضة تتغير، وما يتصدر اليوم الواجهة ويحقق شعبية، يتراجع غدا لصالح مظهر جديد، لأن الموضة لا تبقى على حال، وكل موضة تزيد شعبيتها أو تنتشر انتشار النار في الهشيم، تصيب بالتخمة والملل مع الوقت، ومن ثم يصبح البحث عن مضاد لها ضروريا.