باريس تبدأ موسمها للأزياء الراقية لربيع وصيف 2008
اليوم يفتح واحد من أغلى النوادي الباريسية أبوابه للهواة والمقتنين والمتفرجين على حد سواء، فقد بدأ موسم «الأزياء الراقية» أو «الهوت كوتير» لربيع وصيف 2008 دورته التي ستمتد على مدى أربعة ايام، حيث سيعرض فيه المصممون اجمل ما عندهم على مرأى من كل العالم، وإن كانوا يعرفون ان ما قضوا في تنفيذه شهورا طويلة وتفننوا فيه، سيكون من نصيب حفنة قليلة من النساء.
الانخراط في عضوية هذا النادي يكلف أكثر من 14.000 جنيه استرليني ليصل إلى مئات الآلاف، وقائمة الانتظار طويلة، كما يتعين على الزبونة القيام بعدة رحلات إلى باريس للقيام ببروفات لضبط الزي على المقاس، ومع ذلك فإن الإقبال على الأزياء الراقية (الهوت كوتير) يشهد تزايدا ملحوظا في الآونة الأخيرة، والفضل في هذا يعود إلى جيل جديد من النساء يريد التميز عن الباقيات، بأي ثمن.
وهو جيل من الشابات اللواتي يتحدرن من أسر عريقة، أو حققن ثروات هائلة في مجال الأعمال أو عن طريق الزواج بأثرياء، وبالتالي يردن التميز في مظهرهن عن باقي المقتدرات اللواتي انعشن سوق الملابس الجاهزة إلى حد افقادها التميز الذي يحلمن بالتفرد به. نعم فالثروة ايضا طبقات، إلى جانب هذا، فإن هذه الشريحة تشعر بأن الاشتراك في هذا النادي ودخوله يستحقان أي مبلغ، لأنه سيمكنهن من الجلوس بجانب نجمات من مثيلات غوينيث بالترو، أو كايلي مينوغ أو تشارليز ثيرون أو كريستينا أغيليرا وهلم جرا.
فهن يعتبرنها جزءا من تألقهن في المناسبات الكبيرة مثل الأوسكار وغيرها، وإن كان أغلبهن يستعرنها خصيصا للمناسبة، حتى العارضة كايت موس، التي تصمم تشكيلة شابة مستوحاة من أسلوبها الخاص، لمحلات «توب شوب» التجارية، وتعرف بأسلوبها الشبابي، تعرف قيمة الأزياء الراقية، ولم تتوان عن الاستعانة بدار ديور لتفصيل فستان خاص ظهرت به في نيويورك عندما تسلمت جائزة «الأناقة».
ويمكن القول ان هذه الشريحة من الشابات والنساء المقتدرات هي التي أنقذت صناعة الأزياء الراقية، التي بدأت منذ عقد من الزمن تعاني من ركود جعل البعض يتكهن بموتها، لا سيما بعد أن أغلقت بعض الورش أبوابها وبعد أن بدأت فكرة صناعة فستان باليد تستغرق شهورا وتستهلك مبالغ عالية ووقتا لا يستهان به، تبدو عملية معقدة لا تواكب إيقاع العصر السريع.
وبالفعل بدأت الملابس الجاهزة، تحضر نفسها لأخذ مكانتها، وهذا ما تؤكده تصميماتها في السنوات الاخيرة التي اصبحت تنافسها في حرفيتها وتطريزاتها وتفاصيلها التي كانت في يوم من الأيام حكرا على الأزياء الراقية (الهوت كوتير). بل إن بعض المصممين بدأوا يطلقون عليها اسم «الكوتير الجاهزة» للدلالة على انها أكثر من مجرد ازياء يمكن شراؤها جاهزة من المحلات، وإن كانت لا تخضع لمعايير وقواعد الأولى.
لكن فجأة بدأت مقاعد الصفوف الأمامية في المواسم الأخيرة تكتظ بوجوه جديدة، بعضها نعرفه من خلال صفحات مجلات المجتمع، والبعض الآخر يتهامس بعض المحررات العارفات أسماءهن بمدى أهميتهن، سواء لناحية تسويقهن الموضة إلى بلدانهن أو لناحية ثرواتهن وقدراتهن الشرائية.
وفجأة ايضا عادت إلى عروض باريس اسماء عريقة اختفت لعدة مواسم بسبب الظروف الاقتصادية، التي مرت بها، مثل دار «جيفنشي» التي كانت قد توقفت لمدة عامين وعادت للعرض في العام الماضي. المصمم جيورجيو أرماني، الذي دخل هذا النادي منذ بضع سنوات فقط بخط أسماه «بريفيه» وكان يقدم فيه تشكيلة محدودة العدد، زاد من تصميماته بنسبة 30% بعد ان عرف عرضه في العام الماضي نجاحا كبيرا، كما سيعرض المصمم ستيفان رولان أول تشكيلة له باسمه يوم الخميس المقبل.
وهذا بحد ذاته يقود الكثير الى النظر في تراجع بعض المصممين الكبار عن العرض في هذا الموسم، مثل إيمانويل أونغارو وآخرين. منذ أكثر من 100 عام كانت هذه الصناعة، الهوت كوتير، القلب النابض لصناعة الموضة الباريسية ككل. فهنا كان المصممون يتبارون على الابتكار وخلق الجديد والفريد، باستعمال أغلى الأقمشة واكثرها ترفا، ولا يبخلون عليها بأي نوع من الترصيعات والتطريزات، وما إن تطلب زبونة فستانا أو أي قطعة أخرى، حتى تصبح ملكها الخاص الذي لا تنافسها في تصميمه أخرى، وتوظف لهذه الغاية كل الإمكانات ومن أهمها ضبطه على مقاس جسمها.
فكل قطعة في هذا الموسم، فريدة من نوعها، وتعبر عن عبقرية مصممها، وإن كان مسموحا للزبونة ان تجري عليها بعض التغييرات الطفيفة تحت إشرافه ومساعدته، حتى تأتي مناسبة لها، وبالطبع تدفع مبالغ خيالية من أجل هذه الخدمة وهذا التفرد، وهذا ما جعل هذا المجال، منذ البداية، عبارة عن ناد نخبوي خاص بالثريات والمقتدرات فحسب، مع العلم انه ناد ليس مغلقا في وجه المرأة التي لا تمتلك الملايين لصرفها على مظهرها فحسب، بل ايضا في وجه العديد من المصممين.
فليس كل من صمم تشكيلة وأطلق عليها «كوتير» أي خياطة مفصلة يدخله، لأن شرط «الراقي» أو «الرفيع» الذي تعنيه كلمة «هوت» يجب ان يكون العنصر الاهم في هذه الحسبة، خصوصا ان صناعة زي باليد وعلى مدى عدة أسابيع او شهور لا يقدر عليه سوى عدد محدود من بيوت الأزياء الباريسية، وعلى رأسها شانيل، ديور، جيفنشي، جون بول غوتييه وكريستيان لاكروا، وحفنة من المصممين المدعوين للمشاركة من خارج فرنسا، مثل ارماني، إيلي صعب وفالنتينو.
لكن إلى جانب إعطاء المرأة ازياء مميزة بأسعار خيالية، يعتبر موسم «الأزياء الراقية» المجال الذي يحلق فيه المصمم بخياله إلى عوالم بعيدة وفانتازية حتى يستعرض قدراته الفنية، التي تميزه عن غيره، خصوصا انها تعرض أمام مئات الخبيرات والنجوم والنجمات ووسائل الإعلام، مما يعني انهم يحصلون على تغطيات ودعايات مجانية. وحتى عندما بدأ عدد زبونات هذا الجانب يقل بشكل مقلق، لم يخفف المصممون من جرعة جنونهم الفني، بل على العكس تمادوا فيه أكثر، حتى يبرروا ما يصرفونه من ملايين على هذه العروض، بدءا من الأزياء والإخراج إلى الموسيقى وغيرها من التفاصيل. ولأن هذا البذخ والجنون لم ينجحا في تبرير التكاليف العالية والمردودية المنخفضة، فإن المصممين جاءوا بفكرة «البريستيج» الذي يبيع باقي منتجات الدار، من ملابس جاهزة وعطور واكسسوارات وغيرها. فكلما زادت فنون مصمم الدار وتفرده، كلما بعد الحلم واصبح مرغوبا اكثر.
ولحسن حظ هذه الصناعة أنها، في السنوات الخمس الماضية تقريبا، بدأت تعرف اقبالا محموما على كل ما هو مترف، ومن هنا دخلت مجالات أخرى عالم «الهوت» أي الرفيع، بدءا من بعض الاكسسوارات إلى المجوهرات، والذي أجج هذه الحمى انفتاح اسواق جديدة مثل آسيا، هونغ كونغ والصين، فضلا عن روسيا والشرق الأوسط، من دون ان ننسى ذكر التسهيلات التي اصبحت دور الأزياء تقدمها. فعلى سبيل المثال، لم يعد مفروضا على الزبونة السفر إلى باريس للقيام ببروفات على الزي الذي اشترته، بل يمكن ان تتوجه لها خبيرة متخصصة أينما كانت للقيام بهذه المهمة. ورغم ان الزبونة هي التي تغطي مصاريف هذه الخدمة إلا انها تبقى أرخص وأسهل بالنسبة لها، بالإضافة إلى هذا فإن دور الأزياء الكبيرة لم تعد تعتبر باريس القاعدة التي على الزبونات حضورها وإلا فوتن على أنفسهن متعة معاينة التشكيلة أو شراء قطعة منها، بل أصبح أغلبها يحمل تشكيلاتها للعرض في نيويورك، التي تعد تاريخيا اكبر سوق للهوت كوتير بعد شهرين من عرضها في باريس.
دار كريستيان ديور كانت صاحبة هذه البادرة منذ اكثر من خمس سنوات، نظرا للعلاقة الطويلة والوثيقة التي تجمع هذه الدار بالمجتمع الأمريكي. ففيها اكتسب السيد ديور شهرته العالمية عندما حضرها في الخمسينات من القرن الماضي، وفيها حقق ما يشبه الثورة في الشوارع وفي أوساط الموضة على حد سواء، وفيها ولد ما اصبح يعرف بـ «ذي نيو لوك» الذي يرتبط باسم ديور لحد الآن. فالنتينو اقتدى بالدار وبدأ هو الآخر بحمل تشكيلته لكل من نيويورك والشرق الأوسط، فيما يتوجه كريستيان لاكروا إلى لوس انجليس. العنصر الآخر والمهم هنا، هو ظهور الجيل الجديد من الزبونات الشابات، اللواتي لم يعدن يتخوفن من الصورة التي كانت مرتبطة بـ «الأزياء الراقية»، وهي انها مخصصة لنساء تعدين الأربعين بعدة سنوات، خصوصا ان المصممين المخضرمين كانوا من المدرسة القديمة «المتعالية»، الأمر الذي لم يكن مريحا للشابات.
الوضع تغير في السنوات الأخيرة، فتغير الثقافات الاجتماعية والظروف الاقتصادية التي مر بها اغلبهم، جعلتهم ينزلون من أبراجهم العالية، ويتعلمون فن مخاطبة هذه الشريحة بلغة رقيقة سواء من حيث التعامل أو من حيث التصميمات التي يطرحونها. فعند جون بول غوتييه تبدأ اعمار الزبونات من الـ 35 سنة، بينما يشتهر كريستيان لاكروا بفساتين الزفاف، لذلك فإن زبوناته يبدأن بأعمار اصغر، وما إن يجربن طعم جمالها، حتى يدمن عليها، ويعدن إليه طالبات فساتين سهرة أو معاطف وغيرهما، هذا عدا ان الطفرة الاقتصادية الروسية جعلت فتيات في عمر الصبا والزهور يقبلن عليها، بل حتى الأطفال أصبحت لهم ازياء خاصة. فالمهم هنا ليس المبلغ أو عملية الزي، بل أن تكون القطعة بفنية عالية، تتعرف عليها باقي عضوات النادي من النظرة الأولى، وتميزها عن باقي «القطيع»، خصوصا في ظل تعالي الأصوات المنادية بـ «دمقرطة» الموضة.