المطبخ وكل ما به من عجائب .. في كتاب
04:19 م - الخميس 27 ديسمبر 2012
لقد كان أحد الأشياء الأكثر طلبا عليها في المنازل الرومانية القديمة بدعة طهي معقدة تعرف باسم «الغلاية الذاتية» (authepsa)، وكانت تصنع من أنقى أنواع النحاس الكورينثياني، وتؤدي وظيفة مماثلة لإناء الطهي بالبخار (steamer) الذي نستعمله اليوم، وقد روى شيشرون قصة بيع واحدة من تلك الغلايات في مزاد بسعر مرتفع للغاية إلى درجة أن بعض المشاهدين ظنوا أن ما يباع هو مزرعة كاملة وليس إناء للطهي.
وليس معنى هذا أن أواني الطهي الفاخرة اليوم تتكلف حقا ما يصل إلى ثمن مزرعة كاملة، غير أن الغلاية الذاتية في روما القديمة تقابل الأفران الحديثة شديدة الغلاء التي يمكنها خبز كعك السوفليه عند درجة حرارة يمكن التحكم فيها بدقة متناهية، إلى جانب الأدوات المعملية بامتياز، مثل أجهزة الطرد المركزي وأجهزة الضغط وأجهزة مزج المكونات.
مسار تطور الأدوات التي نستعملها في طهي الطعام وفي تناوله أيضا هو موضوع كتاب جديد بعنوان «انظر إلى الشوكة: تاريخ من الاختراعات داخل المطبخ» (Consider the Fork: A History of Invention in the Kitchen)، وهو من تأليف المؤرخة البريطانية والكاتبة المتخصصة في مجال الغذاء بي ويلسون.
ومن حين إلى آخر يظهر كتاب قد لا يكون بالضرورة مقصودا منه أن يدور حول التصميم، إلا أنه يقدم تأملات شيقة حول تأثيراته على مجال معين، وهذا الكتاب يفعل ذلك عن طريق استكشاف كيف كان التصميم (ليس تصميم الشوكة فحسب، بل تصميم كل شيء آخر كان يستخدم في إعداد الطعام وتناوله على مر القرون) يحدد ما يتم تناوله في العصور المختلفة، وتأثيراته على صحة الناس وسعادتهم وسلوكهم.
وتبدأ القصة بكؤوس وصحون تعود إلى عصور ما قبل التاريخ ومصنوعة من كل المواد التي كانت متوافرة ومناسبة للغرض المطلوب، وقد استمرت بعض الثقافات في السير على هذه العادة، فكان الهنود الحمر يطهون طعامهم في صدف البطلينوس (clamshell)، وكانت بعض قبائل الأمازون تفضل صدف السلاحف، وكانت نباتات القرع ومعدة الحيوانات وأعواد الخيزران تستخدم في مناطق أخرى من العالم.
وكما تشير ويلسون، فإنه ما زال يمكنك أن ترى أصداء تلك الأدوات البديلة في أصناف المأكولات البحرية المنتشرة في ولاية نيو إنغلاند الأميركية والتقليد الأسكوتلندي القائم على غلي النقانق الأسكوتلندية في معدة الغنم.
وقد أتاح ظهور أواني الطهي الخزفية إمكانية صنع أوان معدلة حسب الطلب تناسب مختلف أنواع الأطعمة، حيث إن غلي الحبوب مثل القمح والذرة والأرز مكن البشر من الاستفادة أكثر بالوقت الذي كانوا في الماضي يقضونه في البحث عن اللحوم والأسماك كجامعين للصيد.
وتقوم ويلسون بتتبع تأثير الابتكارات المتعلقة بالطهي في العصرين البرونزي والحديدي، ثم تنتقل إلى الإغريق والرومان، الذين اخترعوا الكثير من أدوات الطعام مثل الغلاية الذاتية باهظة الثمن، وصارت النظم الغذائية أكثر ثراء وتنوعا.
ولكن بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، اختفى الكثير من تلك الأدوات، وظل معظم الطهاة قرونا يعتمدون على إناء وحيد، وعادة ما يكون القدر، الذي كانوا يستخدمونه مع كل شيء، وكانت تلك القدور توضع فوق موقد مفتوح شديد الحرارة ربما يكون خطرا وقذرا وسيئ الرائحة.
وكان معظم الطهاة لدى الأسر الغنية من الرجال، لأن ملابس النساء الفضفاضة كانت معرضة لمخاطر التقاط النيران، ونظرا لأن الطهاة الذكور غالبا ما كانوا يعملون وهم عراة أو بملابسهم الداخلية، فقد كان يعتبر من غير اللائق أن تراهم الخادمات، فكان يتم حبسهم داخل المزارع وغرف غسل الأواني.
وقد اختفى الطهي على المواقد المفتوحة في كثير من البلدان الأوروبية مع انتشار المداخن المغلقة المبنية من القرميد وحوامل الوقود المصنوعة من الحديد الزهر خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، كما صارت المطابخ أنظف، وبدأت الاستعانة بالنساء في الطهي، وحلت الأواني المصنوعة من البيوتر والنحاس اللامع محل القدور المتسخة المصنوعة من الحديد الزهر، وبدأت ظاهرة أدوات المطبخ الفاخرة.
ومنذ ذلك الحين، ازدهر تصميم أدوات المطبخ الجديدة بفضل الجمع بين الفطرة والإبداع والتكنولوجيا في أشكال لا يمكن التنبؤ بها، وأحيانا كان ما يحفز ذلك هو ظهور مادة أو عملية تصنيع جديدة، مثل الصلب الكربوني الذي أصبح يستخدم في إنتاج سكاكين أحد شفرة وأدق في الاستعمال بداية من القرن الثامن عشر، وحتى ذلك الحين كان معظم الأوروبيين يتناولون الطعام باستخدام سكين واحدة، وكانوا يحملونها معهم لهذا الغرض.
إلا أن توافر سكاكين أكثر تطورا مكن الطهاة من أن يصبحوا أكثر إبداعا، وقد أثبت الطهاة الفرنسيون مهارة خاصة في اختراع استعمالات جديدة لها، وأصبحت أساليب التقطيع التي طوروها - مثل تقطيع الطعام إلى شرائح رفيعة طويلة أو فرمه فرما جيدا - هي أساس المطبخ الراقي، الذي ساد موائد الطعام الفاخرة لقرون.
وكانت هناك ابتكارات أخرى توصل إليها أفراد مغامرون كانوا يحاولون تحقيق أهداف معينة، فمحمصة الخبز الكهربائية التي تقذف الخبز أوتوماتيكيا ظهرت عام 1921 على يد تشارلز سترايت، وهو ميكانيكي من ولاية مينيسوتا كان يشعر بالضجر من تناول الخبز المحمص المحروق داخل المقصف الخاص بالمصنع الذي يعمل به، ومحضر الطعام (فود بروسيسور) من طراز «كويزين آرت» ظهر في أوائل السبعينات من القرن العشرين على يد مهندس أميركي يدعى كارل سونثيمر، حيث كان من عشاق الطعام الفرنسي، وكان يبحث عن وسيلة أكثر بساطة لإعداده، وبعد أن حصل على حقوق توزيع محضر طعام فرنسي ظهر في الستينات باسم «روبو كوب» داخل الولايات المتحدة، قام بتفكيكه داخل مرأب منزله ثم أعاد تصميمه.
وبالمثل، فقد انطلقت ظاهرة الطعام المجمد على يد عالم أحياء أميركي تحول إلى تجارة الفراء يدعى كلارن بيردساي، حينما كان يعيش هو وأسرته في منطقة لابرادور الجليدية شمال كندا في العقد الأول من القرن العشرين، حيث لاحظ أن الأسماك والحيوانات التي يصطادونها يكون طعمها في الشتاء أفضل منه في الصيف، فأدرك أن هذا يعود إلى أنها كانت تتجمد بسرعة أكبر، ومن هنا تمكن من إيجاد طريقة لتقليد هذه العملية على مستوى صناعي.
وهناك أوجه تشابه بين تجاربه وتجارب الرواد في علم الطعام القائم على المجهود الفردي، مثل الطاهي الإسباني فيران أدريا الذي يعمل مع المصممين لتطوير الأدوات المتخصصة اللازمة لإعداد أطباقه وتناولها أيضا.
أما أصول أدوات المطبخ الأخرى فهي أكثر غموضا، حيث نشأت وتطورت عن طريق التجربة والخطأ، مثل السكين الصينية الرهيبة «التو» (tou)، التي يمكنها فرم اللحوم وتقطيع الحطب وذبح العجول وفرم الثوم بنفس الكفاءة.
وتوضح ويلسون في كتابها:«لعله لا تكون هناك أي سكين أخرى لها مثل هذه الاستعمالات المتعددة أو لها مثل هذه الأهمية بالنسبة لأي ثقافة طعام».
ومن مزايا هذا الكتاب أن شغف المؤلفة بتاريخ الطعام يعادل المتعة التي تشعر بها من خلال إعداد الأطباق بنفسها، ومشاهدة الآخرين وهم يفعلون ذلك، والأفضل من كل ذلك تذوق النتائج.
وتعتبر المقالات النقدية الجوهرية التي تكتها ويلسون عن الأدوات المختلفة - من الملعقة الخشبية المتواضعة إلى طريقة الطهي الرائجة داخل كيس مفرغ من الهواء موضوع في حمام مائي - هي الشيء الذي من المقنع أكثر أن تقدمه طاهية خبيرة ومتحمسة لا تخشى الاعتراف بإخفاقاتها، ولكنها مع ذلك تتوق إلى تحقيق نجاحات شهية.