حكايات الأطعمة القديمة .. تساعد على استعادة الشهية

تذكير رجل مسن مريض بالوجبات التي استمتع بتناولها في الماضي زاد من وزنه
يتمتع جدي، موراي فوكس، بروح الدعابة، فحتى عندما دخل المستشفى في شهر مارس (آذار)، لم يستطع ذلك الرجل، الذي يبلغ من العمر 85 عاما، التوقف عن سرد النكات القذرة للممرضات صغيرات السن.
ظلت جودي، ابنته ووالدتي، إلى جواره في المستشفى، حيث استمعت إليه وهو يروي واحدة من نكاته القديمة المفضلة: «دخل رجل طاعن في السن إلى المستشفى لأنه كان يشعر بألم كبير، حيث لم يستطع تناول الطعام بصورة طبيعية، وإنما كان يتناول الطعام عن طريق أنبوب يمر مباشرة من فتحة الشرج»، حاولت الممرضات كتم الضحك.
«توسل هذا الرجل للممرضة قائلا: لو سمحت يا آنسة، كل ما أريده هو كوب من الشاي»، حاول جدي استخدام لهجته القديمة التي تعود إلى مكان نشأته الأصلي في بروكلين وبعض قواعد النحو غير الصحيحة لمحاولة إضفاء لمحة كوميدية على النكتة.
«نظرت الممرضة إلى ذلك الأنبوب الذي يمر عبر فتحة الشرج وقالت له: لا أستطيع أن أعطيك أي شيء لتشربه، فأنت تعلم كيف سيمر إلى معدتك.
توسل الرجل للممرضة مرة أخرى: أرجوك، سوف أشعر بتحسن كبير فقط إذا استطعت شرب كوب من الشاي، وهنا خطرت للممرضة فكرة: قامت بعمل
كوب من الشاي لهذا الرجل ووضعته في ذلك الأنبوب. وفجأة، بدأ الرجل في البكاء كما لو أنه يتألم. (آه.. آه)، قالت له الممرضة، ما حدث، هل الشاي ساخن؟ أجابها الرجل العجوز: بل هو حلو المذاق للغاية».
إعياء كلي
دخل جدي إلى المستشفى بعد 3 أشهر من حالة الإعياء الكلية التي انتابته والتي لم تكن لها أسباب واضحة، لدرجة أن النهوض عن أريكة شقته الصغيرة في روكفيل أصبح أمرا مرهقا بالنسبة له، أما المشي لمسافة 10 أقدام (3 أمتار تقريبا) للوصول إلى جهاز الميكروويف فيجعله لا يقوى على طبخ أي شيء في الميكروويف بمجرد وصوله إلى هناك.
وتلاشت شهيته لتناول الطعام تماما مثلما تلاشت طاقته. وفي البداية، خسر جدي 5 أرطال (الرطل 453 غراما تقريبا)، ثم 10 ثم 20 رطلا، حتى أنه خسر 120 رطلا من وزنه، لدرجة أنه أعتقد أنه يحتضر.
وبعد أيام قليلة، وعلى الرغم من تمكن الأطباء - بمساعدة والدي - من اكتشاف احتمال إصابته بمرض «أديسون»، ذلك الخلل الذي يحدث للشخص عندما تفشل الغدة الكظرية في إنتاج ما يكفي من هرمون الأستيرويد القشري (الكورتيزول). يتمثل علاج هذا المرض في تناول عدد قليل من حبوب الهيدروكورتيزون.
يؤكد جدي: «بدأت في تناول الدواء يوم الأحد، ثم تحسنت صحتي في يوم الاثنين. لقد كان الأمر مثل مشاهدة أفلام السينما».
ومع اقتراب موعد خروجه من المستشفى، أخبره الطبيب بأن استرجاع ما فقده من وزن أمر شديد الأهمية بالنسبة له، وبخاصة في مثل هذا العمر. أكد جدي أنه ليس عنده أي شهية: «فكيف سيتناول الطعام؟» أجابه الطبيب: «حاول اكتشاف الأشياء التي تحبها، ثم تناولها».
وتعتبر مشكلة قلة الشهية مشكلة شائعة بين كبار السن، وقد تنجم عن كثير من الأسباب بداية من الإصابة بالسرطان إلى تسوس الأسنان أو حتى عدم التوازن الهرموني، كما هو الأمر مع جدي.
وتوفر «مايو كلينيك» كثيرا من الحلول لهذه المشكلة، مثل إضافة التوابل إلى الطعام أو القيام بالمزيد من التمارين الرياضية وتناول وجبات خفيفة بين الوجبات الرئيسية.
الشهية و«ذكرى» الطعام
ولكنني اكتشفت طريقة أكثر كفاءة في كتاب لديفيد سوتون تم نشره في عام 2001 تحت عنوان: «استرجاع ذكرى تناول الطعام: أنثروبولوجيا الطعام والذاكرة» (Remembrance of Repasts: An Anthropology of Food and Memory).
أكد الأشخاص الذين قام سوتون بدراسة حالتهم على مدار 18 عاما، الذين ينتمون إلى جزيرة كاليمنوس اليونانية، أنهم: «يأكلون لكي يتذكرون»، حيث إن طقوس تناول الطعام تمثل جزءا مهما من هويتهم الثقافية.
فكرت في أن جدي قد يستطيع تعلم بعض الأمور من سكان جزيرة كاليمنوس، فقد يكون بمقدوري زيادة شهيته عن طريق تذكيره بالوجبات التي استمتع بتناولها في الماضي.
كثيرا ما كان جدي نهما في تناول الطعام، على الرغم من أنه لم يكن شديد الشراهة، حيث كان يلتهم الطعام بسرعة ولم يكن يتلذذ بمذاقه.
كان غالبية قصصه تنطوي على تناول الطعام في المطاعم الإيطالية الموجودة في الجوار، أو تناول العشاء في مطاعم يونانية في أوقات متأخرة من الليل أو في بعض المطاعم الأخرى في الجوار.
وعلى الرغم من أن هذه المعلومات غير ذات صلة بالموضوع، فإنها تكتسب أهمية خاصة في مساعي جدي لاسترجاع ذكرياته.
ظل جدي، وهو ابن لمهاجرين قادمين من أوروبا الشرقية، شديد الالتصاق بالشرائع الدينية حتى عمر 13 عاما، عندما توفيت جدته المتدينة.
ولما كان أبواه شديدي الانشغال بمتجرهما الموجود في بروكلين، قامت شقيقته الكبرى، آنا، بكل الأعمال المنزلية، لذا لم تستطع أن تولي اهتماما كبيرا بمسألة تدينه تلك.
قال جدي بابتسامة ارتسمت على شفتيه: «كل شيء تحطم». ومنذ ذلك الحين، أصبح جدي حرا في استكشاف كل هذه الجهة الشرقية لمدينة مانهاتن، التي كانت تعج بالمطاعم الصينية القذرة، وهي المطاعم التي من المرجح أنه تناول فيها الوجبات المحرمة للمرة الأولى.
وبمرور السنين، أصبح الطعام الصيني المطبوخ على الطريقة الأميركية أمرا ثابتا في حياته، فبعد أن قام جدي وجدتي بافتتاح متجرهما الخاص في كوينز، كانا يتوقفان في كثير من الأحيان لتناول العشاء في المطاعم الصينية المنتشرة في شوارع المدينة، حيث كانا عادة ما يتناولان الجمبري مع صلصة سرطان البحر.
يقول جدي: «لقد كانت جدتك تلتزم بتناول الوجبات التي لا تخالف الشرائع الدينية، ولكنني دفعتها لتناول البطلينوس والمحار، حتى اعتادت على تناول مثل هذه المأكولات وعلى التردد على المطاعم الصينية».
ويضيف جدي: «لقد كانت جدتك: تطلب قائمة الطعام بالكامل». وبعد وفاتها في عام 1993، كان جدي يطلب توصيل الطعام الصيني إلى شقته في كوينز في كثير من الأيام، حتى تعلم كيفية الطبخ بنفسه.
ذكريات الطعام الصيني
وعلى الرغم من أن شهية جدي بدأت تعود إليه بصورة متواضعة عندما بدأ في استخدام الدواء، فإنه لا يزال غير قادر على تناول الوجبات الكبيرة، بينما ظل اكتسابه للوزن أمرا بعيد المنال، وهو الأمر الذي يعود بصورة جزئية إلى تقدمه في السن.
لقد كان جدي يلقي نكتة ما حول هذا الأمر، حيث كان يقول: «كان رجل وامرأة مسنان يجلسان في أحد المقاهي، ثم طلبا من النادلة إحضار ساندويتش صغير لاقتسامه بينهما.
سمعت النادلة هذا الطلب وتنهدت قائلة: يا للبؤس، إنهما فقيران للغاية لدرجة أنهما لا يستطيعان إلا تحمل ثمن ساندويتش واحد فقط. عرضت النادلة على الزوجين عرضا سخيا بأن تشتري لهما وجبة ثانية لكي يتمكنا معا من الأكل، ولكن الزوجة قالت لها: ليس الأمر أننا فقراء للغاية لدرجة أننا لا نستطيع دفع ثمن ساندويتشين، ولكنه في واقع الأمر أن ليس لديه أسنان لكي يأكل».
فكرت أن الشيء الوحيد الذي قد يفتح شهية جدي هو الطعام الصيني. وعندما قامت عائلتي بنقل جدي إلى روكفيل في عام 2004، ليكون قريبا منا، قمت باصطحاب العائلة إلى مطعم مينغ، الذي يوجد في الحي الصيني في واشنطن، والذي لم يذهب إليه جدي قبل ذلك.
يتميز هذا المطعم بجوه العائلي الجميل، وهو ما جعلني أتمنى أن يمكنه هذا من تذكر الأماكن التي اعتاد التردد عليها في نيويورك.
أطعمة مفضلة
طلبنا تناول مجموعة من الأطعمة القديمة المفضلة لديه، مثل لحوم البقر والخبز المدور المقرمش، فضلا عن الجمبري مع صلصة سرطان البحر بالطبع.
بدأ جدي في سرد القصص عن بعض الوجبات التي كان تناولها في الماضي، والتي كانت قليلة في البداية وزادت كلما كان يتناول الطعام.
سرعان ما تذكر جدي العائلة التي كانت تدير المطعم الصيني الذي كان يوجد على الجانب الآخر من المتجر الخاص به، فضلا عن الوقت الذي بدأت فيه والدتي في مواعدة ابن مالك هذا المطعم.
سألت جدي: «وكيف كان هذا اللقاء»، فأجاب ضاحكا: «إن الرومانسية بينهما لم تستمر لفترة طويلة، حيث كانت رائحة الطعام الذي كان يقدمه المطعم تفوح من ملابس ذلك الصبي».
وبخلاف هذه القصص الذي بدأ في تذكرها، زادت شهيته بصورة مذهلة، حيث تمكن من تناول ثلاثة أرباع طبق الجمبري مع صلصة سرطان البحر، وطلب أن يتم لف ما تبقى من الطبق لكي يتناوله على العشاء في تلك الليلة.
اجتياز الاختبار
على الرغم من حبه للطعام الصيني، كانت الوجبات الجاهزة هي المصدر الأساسي لطعامه اليومي في الماضي، فعندما كان في فترة المراهقة، قام جدي وشقيقه الأكبر باستكشاف المطاعم الموجودة في الجوار، وكانا يطلبان تناول الساندويتشات ذات الـ3 طبقات المكدسة باللحم وشرائح اللحم البقري المعلب.
وعندما كنا في السيارة، سألته عن أكثر شيء يحبه في الحم البقري المعلب، هل هو المذاق المالح؟ أم الطعم الطري الدهني؟ وكيف يتماشى مذاقه تماما مع الخردل وخبز الجاودار؟ نظر إلي جدي، وقال بأسلوب يعتريه بعض الغضب: «إنه لذيذ المذاق».
وعندما وصلنا، زادت حماسة جدي لتناول بعض الأطعمة مثل لحم البقر المعلب والبسطرمة واللسان والفطائر والنقانق مع الملفوف المخلل كما لو كان شخصا صغير السن. وهناك شعر بالنشوة من تناول اللحم وهذا الأطعمة.
وبعد ذلك، ذهبا إلى مطعم «فاكارو للمعجنات الإيطالية»، الذي يشتهر بالكانولي المحشو بجبن ريكوتا. تمكنت من تناول نصف طبقي فقط، بينما تمكن جدي من أكل طبقه بالكامل.
وفي هذه الليلة، تناولنا العشاء في مطعم «وودسيد ديلي» في روكفيل بايك، حيــث طلب جدي ساندويتشا يتكون من 3 طبقات من اللحم المقدد وتمكن تقريبا من تناوله بالكامل.
قلت لجدي: يبدو أنك قد استعدت شهيتك بالكامل، أليس كذلك؟ فأجابني: لقد أصبحت «مثل الحصان».
وفي الشهرين الماضيين، تمكن جدي من استعادة نصف الوزن الذي كان قد فقده قبل ذلك، حتى أنني ذكرته بتلك الفترة من حياته التي زاد فيها وزنه بطريقة كبيرة.
وبعد دخوله البحرية في سن السابعة عشرة، كان جدي يتناول كثيرا من الطعام من المقصف، مما أدى إلى زيادة وزنه من 120 رطلا إلى 150 رطلا في بضعة شهور، حيث يؤكد جدي أن شرائح لحم البقر المقطع الذي كان يوجد بصورة فوضوية في غرفة الطعام كان له بالغ الأثر في هذه الزيادة.
وعندما اقترحت عليه استرجاع هذه الأيام وتناول طبق من شرائح اللحم البقري، صرخ في وجهي قائلا: «أنا أكره شرائح اللحم البقري». أصبت ببعض الحيرة، ولكنه قال لي ضاحكا: «كان هذا منذ 60 عاما مضت».
أتفهم هذا الأمر جيدا، فمذاق الأطعمة يتغير بمرور الوقت، ولكن قد تكون القصة جيدة للغاية لدرجة يتحتم معها التوقف عن سردها، حيث اتضح أن الشخص قد تكون له شهية كبيرة لأشياء أخرى، خلاف الطعام.