جامعة ماينز الألمانية تصنف الضجيج كجناية «إلحاق ضرر جسدي» بالإنسان

الدائم منه تسبب في موت 3% من حالات أمراض القلب في أوروبا وتشير الدراسة إلى أن 4 في المائة فقط من بيوت المناطق المحاذية لمطار فرانكفورت مبنية بشكل يقيها من مضار الضجيج
الدائم منه تسبب في موت 3% من حالات أمراض القلب في أوروبا وتشير الدراسة إلى أن 4 في المائة فقط من بيوت المناطق المحاذية لمطار فرانكفورت مبنية بشكل يقيها من مضار الضجيج

في مدينة أوفنباخ، القريبة من فرانكفورت، والواقعة تحت خطوط النقل الجوي المسائي لأكبر مطار ألماني، حاك تلاميذ المدارس أكبر «سجادة مضادة للضجيج» في العالم، ودخلوا في كتاب «غينيس» للأرقام القياسية.
ولم يصنع الأطفال السجادة، ومساحتها 463 مترا مربعا، من خيوط تقنية تبتلع موجات الضجيج الصوتية، كما قد يبدو للقارئ من الوهلة الأول، لكنهم طرزوها بالشعارات المضادة لضجيج الطيران، وبالحقائق التي تكشف علاقة الضجيج بالأمراض التي يتعرض لها أطفال العائلات المقيمة بالقرب من المطارات الألمانية. 
وعلى أساس هذه الحقائق الدامغة عن علاقة الضجيج بالأمراض المزمنة، أصبحت عيادة جامعة ماينز الطبية أول المستشفيات الألمانية التي تصنف الضجيج كجناية «إلحاق ضرر جسدي» بالإنسان، كما هو الحال مع جرائم الاعتداء باليد أو بالأسلحة على الإنسان.
ومن المتوقع أن تحذو المستشفيات الأخرى، وخصوصا في المدن التي تمتلك مطارات كبيرة، حذو عيادة ماينز قريبا، وهو ما قد يخضع المطارات إلى القانون عند تجاوز الضجيج حده المقرر من قبل الاتحاد الأوروبي، علما بأن الاتحاد الأوروبي يحدد أعلى قوة للضجيج بـ 60 ديسبل نهارا. 
وذكر خبراء الضجيج في ولاية هيس، حيث مطار فرانكفورت، أن نسبة الضجيج في منطقة نهر الماين والراين (حيث مدينة ماينز) تعزز مخاطر الاكتئاب وأمراض القلب والدورة الدموية والسكتات الدماغية.
وعلى أساس دراسات الأطباء في عيادة جامعة ماينز فإن خطر الضجيج في المنطقة لا يقل عن خطر إلحاق الضرر الجسدي بالآخرين. وتثبت الدراسات أن خطر الضجيج على الإنسان يكون في أعلاه حينما يصل سماع الإنسان مساء وهو نائم، ودون وعي منه. إذ يؤدي الضجيج المسائي إلى ارتفاع ضغط الدم، وتصلب الشرايين، وتزايد مخاطر الجلطات القلبية والسكتات الدماغية. 
إلى ذلك، تشير الدراسة إلى أن 4 في المائة فقط من بيوت المناطق المحاذية لمطار فرانكفورت مبنية بشكل يقيها من مضار الضجيج. ويزيد معدل الضجيج فوق عيادة جامعة ماينز عن 70 ديسبل في المساء، والتعرض إلى هذا الضجيج بشكل مستمر يمكن أن يؤثر مباشرة على قدرات الأطفال الدراسية وتركيزهم، كما يعرضهم مستقبلا، أكثر من غيرهم، إلى الأمراض الناجمة عن الضجيج. ومعروف في «طب الضجيج» أنه يؤثر في الأطفال عند تجاوزه حد 50 ديسبل بشكل مستمر.
إلا أن تأثير الضجيج على الأطفال يزداد مساء، وخصوصا الأطفال الذين يرتفع مستوى الضجيج الذي يتسلل إلى غرفهم إلى 55 ديسبل. ويصبح هؤلاء الأطفال مع مرور الوقت أكثر عرضة من غيرهم للإصابة بالصداع النصفي (الشقيقة) وارتفاع نسبة الكولسترول في الدم، بل وحتى الإصابة بالأمراض السرطانية.
علما بأن ضجيج الطائرات المسائي، وخصوصا طائرات النقل الضخمة الأميركية، التي تنطلق من الجناح العسكري في مطار فرانكفورت، تصدر الضجيج بقوة 100 ديسبل، وهو ما يعاني منه السكان قرب المطار. 
وكانت دراسة ألمانية سابقة قد توصلت إلى أن التعرض إلى ضجيج المواصلات والمصانع يودي بحياة 2000 ألماني سنويا. وتمتد مضاعفات الضجيج بين السمع الثقيل والصمم واختلال التوازن وبين العصبية الزائدة واضطراب النوم وأمراض القلب والدورة الدموية.
كما أن التعرض للضجيج المستمر، كما يحدث لذلك مع عمال المصانع كمثل، يزيد مخاطر الإصابة بجلطة القلب ويضعف المناعة الجسدية. ويعتبر الضجيج الدائم سبب الموت في 3 في المائة من حالات أمراض القلب القاتلة في أوروبا. 
وذكر الباحث توماس مونزل، رئيس «معهد قلب ماينز»، الذي قاد الدراسة حول الضجيج فوق عيادة ماينز، أن منع الطيران الليلي تماما لن ينقذ الأطفال من براثن الضجيج، ويقترح لذلك تعريف الضجيج باعتباره إلحاق ضرر جسدي بالأطفال، واعتماد هندسة جديدة في بناء الطائرات وفي بناء مدارج المطارات.
وطالب مونزل بوقف العمل على بناء المدرج الشمالي الغربي في مطار فرانكفورت، الذي تمر خطوط طيرانه بالقرب من عيادة ماينز، والعمل من الآن على تحقيق معدل 40 ديسبل فوق العيادة، وهو ما يوصي الاتحاد الأوروبي بتحقيقه خلال سنوات. 
الدراسة لاحظت أن تعرض المرأة لمضاعفات الضجيج في المناطق السكنية أقل من تعرض الرجل، إلا أن الباحثين لم يتمكنوا بعد من تشخيص أسباب واضحة لهذا الفارق.
كما قالت الدراسة إن التخلي عن المدرج الجديد، الذي يكلف بضعة ملايين فقط، يمكن أن يجنب السلطات الصحية في ولاية هيسن مبلغ 200 مليون يورو ستصرفها خلال 10 سنوات على معالجة مرضى المنطقة من الأمراض التي يسببها الضجيج.
وترى الدراسة أن ضجيج الطيران المسائي أخطر بكثير من غيره على حياة المقيمين قرب المطارات. وتوصي، لهذه الأسباب، باعتماد هندسة تقنية جديدة الهدف منها ابتلاع موجات الضجيج الصادر عن الطائرات. 
وتوصل مهندسو صناعة الطيران من معهد طب الأبحاث الجوية إلى أن تحويل مجرى الهواء الخارجي من المحرك إلى غرف جانبية داخل هيكل الطائرة يقلل من الضجيج.
ونجح المهندسون بهذه الطريقة في السابق بتقليص الضجيج 6 مرات، لكنهم استنفذوا الإمكانية هنا. وعمد بعض المهندسين إلى تكبير ريشات التوربينات بهدف تقليل الضجيج، ونجحوا في ذلك فعلا، إلا أنهم ضاعفوا بذلك استهلاك الوقود. وأدى ذلك كما هو متوقع إلى رفع أسعار رحلات الطيران. 
نجح المهندسون الألمان، في «الإيرباص» الأوروبي (A320) في تقليل المساحة السطحية للطائرة بغية تقليل الضجيج. وفعلوا ذلك عن طريق «إخفاء» خزان الوقود داخل هيكل الطائرة بدلا من بنائه قرب السطح الخارجي.
إلا أن الهواء تسرب لاحقا إلى المنطقة المحيطة بخزان الوقود ليصدر صوتا مزعجا كالعويل. واضطر المهندسون أخير إلى حماية هذه المنطقة بواسطة صفيحة ألمونيوم قوية تحمي خزان الوقود من احتكاك مجرى الهواء بها. 
ويقترح المهندسون لذلك مؤقتا تغيير مسارات خطوط الإقلاع والهبوط، وتغيير طريقتي الإقلاع والهبوط، بهدف تخفيف تأثير الصوت على السكان القريبين من المطارات.
مع ملاحظة أن هذين الإجراءين لا يقللان من شدة الصوت، وإنما يعيدان توزيعه فقط بما يقي المواطنين من تأثير الضجيج المباشر. ويبقى أمل الطب البيئي معلقا، في هذه الموضوع، على مدى نجاح الصناعة في إنتاج «الطائرات الخافتة». 
وتثبت الدراسة التي أجراها معهد طب الرحلات الجوية أن من الممكن خفض ضجيج الطائرة بمقدار 6 ديسبل إذا ما أقلعت الطائرة بزاوية أكثر عمودية من المطار.
فالإقلاع العمودي يضمن أسرع ابتعاد للطائرة عن الأرض، وبالتالي أقل طيرانا فوق المناطق السكنية القريبة. هذا يعني أيضا أن رفع سرعة الإقلاع يقلل بدوره من تأثير الضجيج على السكان، لكن شركات الطيران تبتعد عن الإقلاع العمودي، والسرعة القصوى في الارتفاع، بسبب استهلاكهما الكبير للوقود، وبسبب تأثيرهما على هيكل الطائرة. فاعتماد هذه الطريقة في الإقلاع تتطلب صيانة أكبر وأكثر تكثيفا للطائرة وترفع بالتالي تكلفة الطيران مجددا. 
وتشير دراسة حديثة نشرت مؤخرا في برلين، وأجريت على الأطفال، إلى أن الضجيج يضعف مناعة الأطفال، يعزز مخاطر إصابتهم بأمراض الحساسة، ويضعف قدراتهم على التعلم.
وشملت الدراسة نحو 400 طفل تتراوح أعمارهم بين 5 و11 سنة يعيشون في منطقة أوستيرودة وخضعوا لإشراف الأطباء المختصين طوال شهر في أحد المصحات. 
وقدر الأطباء في نهاية الدراسة أن 17 في المائة من هؤلاء الأطفال يعانون من «ضغط دم عال» سببه ضجيج الشوارع في مناطقهم السكنية التي تعتبر من المناطق الهادئة مقارنة بالمدن الكبيرة. هذا إضافة إلى نسبة 29 في المائة منهم يعانون من «ضغط متوسط» سببه الضجيج ونسبة 54 في المائة تعاني من «ضغط قليل». 
وثبت من خلال الفحص الطبي وجود علاقة أكيدة بين الأمراض التي يعاني منها الأطفال والضجيج والمواد الضارة الصادرة عن حركة النقل. واتضح أن الصبية والبنات الذين صنفوا ضمن المعرضين لضغط عال، أو متوسط، معرضون 5 مرات أكثر من غيرهم للإصابة بالتهابات القصبات الهوائية، ومعرضون 3 مرات أكثر للجلاد العصبي في الجلد.
وحينما قارن الأطباء النتائج بين التلاميذ الذين يعيشون قرب الشوارع العامة والتلاميذ الذين يعيشون في القرى، تبين أن الأوائل أكثر عرضة 3 مرات من الأخيرين لاختلال الشخصية والسلوك. 
إلى ذلك، أجرت الدراسة فحوصات سريرية على الأطفال المقيمين في المناطق المحيطة بمطار ميونخ - ريم (ولاية بافاريا) أثناء عمل المطار، وبعد سنتين من نقله من مكانه. واتضح من الدراسة أن الكثير من أمراض الأطفال مثل الربو وضعف التركيز وقلة المناعة قد اختفت أو قلت كثيرا عند الأطفال بعد نقل المطار. 
جدير بالذكر أن أطباء عيادة ماينز الجامعية سيعرضون نتائج أبحاثهم على المستشارة أنجيلا ميركل، خلال شهر مارس (آذار) الحالي، بهدف حث وزير النقل الاتحادي، بيتر رامساور، على وقف بناء المدرج الجديد في مطار فرانكفورت، وبغرض تحفيز وزيرة العدل الاتحادية زابينة لويتنهويزر شنارنبيرغ على تصنيف أمراض الضجيج كجناية «إلحاق ضرر جسدي بالإنسان».