صدق أو لاتصدق .. «فيينا» عاصمة الفن تفتقر للموضة
12:00 ص - الأحد 11 مارس 2012
تشتهر العاصمة النمساوية فيينا بأنها عاصمة الموسيقى والأوبرا والسياحة والمتاحف، والرياضة لا سيما الشتوية، والمقاهي. كما فازت ولثلاث سنوات متتالية بالمركز الأول عالميا في ما يتعلق بالحياة المرفهة وفرص العمل الواسعة.
إلا أنها ورغم وفرة الإمكانات، فإنها لا تشتهر مطلقا بالموضة وعروض الأزياء مع أنها على مرمى حجر من أفخم مصانع القماش داخل حدود النمسا الغربية وتلك السويسرية المجاورة، بل إن من يبحث عن متجر قماش في فيينا سيبحث كثيرا.. فما الذي يحرم فيينا من أن تكون في شهرة عواصم الموضة مثل باريس أو ميلانو أو نيويورك أو لندن أو طوكيو؟
ومما يثير الحيرة أكثر، أن فيينا تشتهر بالحفلات السنوية الراقصة التي يزيد عددها في فترة زمنية لا تتجاوز شهرين على 450 حفلا. ومن مستلزمات حضورها ملابس السهرة، دع عنك الحفلات الأخرى التي تقام طيلة العام مصاحبة لمختلف المناسبات سواء كانت رسمية أم خاصة، وما أكثرها.
«الشرق الأوسط» سألت نيجك لاهونغ أشهر مصممي الأزياء النمساويين عما يغيب فيينا عن عالم الموضة. لاهونغ (43 سنة)، دون تردد أرجع السبب إلى ما وصفه بـ «روح تقليدية» تسود المجتمع النمساوي تقمصت هذا المجتمع ولا تزال منتشرة منذ نهاية الحربيين العالميتين الأولى والثانية التي عانى منهما النمساويون أيما معاناة.
ويوضح لاهونغ أن فيينا اشتهرت قبل 100 عام وأكثر بالأناقة وفن تصميم الأزياء، وكانت إمبراطورتها إليزابيث أنيقة الأنيقات، وحتى ماري أنطوانيت هي في الأصل نمساوية.
ليس ذلك فحسب؛ بل إن رسامي فيينا؛ وفي مقدمتهم الفنان غوستاف كليمت الذي تحتفل النمسا هذا العام بمرور 150 عاما على مولده، اهتم كثيرا في رسوماته بإبراز جمال تصميمات ملابس النساء، وقد حققت لوحة ركز فيها على أدق تفاصيل فستان السيدة التي رسمها، أغلى سعر تحققه لوحة؛ إذ بلغ 135 مليون دولار وقت بيع اللوحة عام 2006.
بعد الحربين، كما يقول لاهونغ، اكتوت فيينا بتغييرات طرأت على مفاهيم المجتمع النمساوي الذي أضحى مشغولا بما يشبع جوعه أكثر من الاهتمام بـ«ماذا يلبس أو كيف يلبس؟».
وحتى مدة زمنية وجيزة لا تزيد على عقدين من الزمان لم تعرف أسواق فيينا أسماء «الماركات» والموديلات العالمية لمصممي الأزياء بهذه الكثافة الآخذة في الانتشار أخيرا.
ويصدق الوصف على أن الذوق الذي كان سائدا في المتاجر كان يتناسب تماما وحياة الفلاحين في الغالب الأعم. وهذا لا ينفي بالطبع وجود عائلات كان في إمكانها أن تهتم برفاهية ونعومة اختيار ما تلبس.
نسأل المصمم لاهونغ: ماذا إذن عن الأزياء المبهرجة التي تختارها النساء في الحفلات الراقصة؟ فيقول: «حتى هذه الحفلات لم تعد فخامة أزيائها كما كانت في السابق؛ إذ تدهور مستوى التصميم بصورة ملحوظة، وأصبح بعض الحضور لا يلتزم التزاما قاطعا بما يعرف بـ (زي السهرة).
حتى فستان راعية حفل الأوبرا هذا العام، وهو الحفل الأكبر والأفخم والأشهر عالميا، جاء مخيبا للطموحات بعيدا عن أية أنوثة أو فخامة، وإن قصدت أن يكون مميزا. والأدهى من ذلك، فقد تم تصميمه من خامة لا تتماشى ألبتة والاهتمام السائد للحفاظ على البيئة».
يذكر أن المصمم لاهونغ اشتهر بعد حملة ترويجية شعبية ذكية تمت بالتعاون مع سلسلة متاجر عمومية (سوبر ماركت) معروفة بأنها الأرخص والأوسع مما يجعلها الأكثر انتشارا بين مختلف قطاعات المجتمع النمساوي، كان لاهونغ قد وافق أن يصمم لها أزياء نسائية ورجالية من النوعية التي يطلقون عليها في عالم الموضة مصطلح «جاهزة للاستخدام» في إشارة لكونها تتبع أصول الموضة وإن كانت بسيطة وعملية، وقام المتجر ببيعها في مختلف أفرعه التي تغطي البلاد بأكملها، بأسعار زهيدة وبكميات ضخمة مهولة في فترة لم تزد على أسبوعين.
في سياق مواز، صمم لاهونغ قميصا من النوع الخفيف «تي شيرت» لأكبر جمعية خيرية نمساوية دعما لما تقوم به من أعمال إنسانية ليس في النمسا فحسب؛ بل وفي دول ومناطق مختلفة تحتاج العون، لا سيما عند الكوارث.
زينه بلفظ «الحب» بأكثر من لغة بما في ذلك كلمة «عشق» باللغة العربية، مشيرا إلى أن الثمن الأساسي للـ «تي شيرت» 25 يورو، إلا أن البعض يطلب إضافة بعض الزركشة وترصيعه بحبيبات كريستال، مما يرفع ثمنه إلى ألفي يورو.
وبسؤاله عن التصميمات الأكثر تعقيدا أو ما يشار إليه بمصطلح «هوت كوتور»، يشير لاهونغ إلى أن أكبر سوق تستوعب هذا النوع من التصميمات المعقدة هذه حاليا هي «السوق الروسية».
ومما يميزه حب الألوان الصارخة والرسومات القوية، هذا بالإضافة لمجموعات أوروبية وعربية مميزة تبحث عن أزياء مميزة لكن بمواصفات أكثر احتشاما مما هو معروض في عموم سوق الموضة التي يقول إنها «تفتقر للتوسع في أسواق جديدة.
ولتعويض ذلك، أصبحت تجدد في طريقة التصميم مستعينة بتقنيات حديثة لإدخال تعديلات وتحويرات في صناعة الأقمشة فظهرت مواد جديدة تتنفس وتنكمش وتنفرد وتتمطى، وحتى الحرير تم تصنيعه من نايلون وبوليستر بدلا من الحرير الطبيعي من دودة القز».
وفي هذا السياق، قدمت دار أزياء «برادا» على سبيل المثال ملابس من أقمشة أقرب للبلاستيك (تكنو استريتش) مما وسع من قبول أن يلبس المرء ما يشاء طويلا أو قصيرا من مختلف أنواع الأقمشة مع لمسة عصرية.
وهنا نسأل لاهونغ عن مقولة أيقونة الموضة المصمم الفرنسي الأشهر إيف سان لوران إن «المرأة أكثر أناقة وهي في فستان أسود بسيط وقصير»، فقال: «كلام ينطبق على زي لمناسبة بسيطة أو اجتماع رسمي، لكن الفستان الأسود القصير لا يناسب حفلا راقصا ضخما يزدحم بالحضور الكثيف (وإلا ضاع في الزحام)، ولذلك، فإن نجمات هوليوود لا يخترن اللون الأسود لفساتينهن الطويلة لحضور حفل جوائز الأوسكار، كما لا تختار سيدات المجتمع اللون الأسود لفساتين الأفراح، تماما كما أنهن لا يخترن ألوانا صارخة لجلسات أعمال رسمية».
وماذا عن تفضيل الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا ألوانا فاقعة تميزت بها؟ قال إن «الملكة هي الملكة. وحقيقة الأمر هي سيدة متقدمة في السن ملابسها تصمم لها شخصيا».
ولدى سؤاله عن تعليقه على ما قالته، قبل أيام، المصممة العالمية فيفيان إيستوود مؤكدة أن الذوق العام قد تدنى عموما، قال: «إيستوود خلاقة، لكنها تفتقد إتقان التفاصيل. والمصمم الجيد يجب أن يتقن مهنة التفصيل وكيفية التعامل مع الجسد لإظهار جماله».
ويعرف لاهونغ الزي الأنيق بأنه زي يحقق الجمال، لأنه يتناسق وخصائص الجسد ولون البشرة باستخدام خامة قماش جيدة، مع لمسة عصرية، بشرط مراعاة الراحة التامة، وهذا مما يفتقده كثير من التصاميم، و(كأن المرء ليكون أنيقا، فلا بد أن يكون متضايقا)، ولاكتمال الأناقة، لا بد أن يصحب المظهر سلوك حضاري وإلمام تام بكيفية شد القامة والسير والجلوس بطريقة صحيحة.. وأحيانا، يستلزم إضافة قطعة مختارة من إكسسوار مميز.» بقى أن نقول إن النمسا لا تفتخر بلاهونغ بوصفه مصمم أزياء حديثا وجريئا له مبادرات عالمية فحسب؛ بل تعتبره مثالا من أمثلة «الاندماج» الناجحة؛ إذ وصل إلى النمسا قبل 30 سنة لاجئا يبحث عن مرفأ آمن يؤويه وأسرته من هول حرب فيتنام.
كان لاهونغ في الرابعة عشرة من عمره عندما وطأت أقدامه أرض معسكر لاجئين أقصى غربي البلاد. في سرعة، تعلم اللغة الألمانية، اللغة الرسمية بالنمسا، وأتقنها، وفيما كان يكمل دراسته الثانوية، التحق بمدرسة التفصيل والتصميم، وهي المدرسة الوحيدة بالعاصمة فيينا، اقتناعا منه بأن هواية الحياكة التي اكتسبها بمراقبته والدته التي كانت شغوفة بالحياكة، تحتاج للعلم والصقل والعمل على تطويرها تماما كأي موهبة أخرى.
وهذا ما حدث متنقلا من مرحلة إلى أخرى، حتى أمسى اليوم يملك «أتيليه» يجاور متجر «سفاروفسكي للكريستال» أكبر المتاجر النمساوية في قلب شارع كيرتن، أفخم شوارع العاصمة النمساوية.
ليس ذلك فحسب؛ بل يعد العدة لافتتاح معرض ثان في شهر مايو (أيار) المقبل، مؤكدا أنه وإن أصبح مصمم أزياء نمساويا عالميا معروفا، فإنه لم ينس مسقط رأسه فيتنام، ولن ينسى صغارها المحرومين ممن يرعاهم في مدرسة أنشأها لهذا الغرض.